تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مقابلة مع فصل المقال حول كتاب "في المسألة العربية"

2007-10-26

 

د. بشارة في مقابلة حصرية مع "فصل المقال" حول مكان كتابه الأخير "في المسألة العربية" في مجمل إنتاجه الفكري..

خاص/ مكاتب "فصل المقال" 

قابلنا الدكتور عزمي بشارة بالبريد الإلكتروني، من هنا في صحيفة "فصل المقال"، وهو في عاصمة عربية. وهو يتجوّل بين عدة مدن وعواصم بينها الدوحة، حيث يمضي قسمًا كبيرًا من الوقت، وبيروت، وعمان، حيث يلتقي عائلته وأخوة من الداخل حينما يأتون للزيارة وغيرها. ما زالت نفس الهموم السياسية والثقافية تشغله، وقد أضيفت إليها هموم الحياة في المنفى، طبعًا، والتكيّف معها. التغيّرات تضيف صعوباتٍ، ولكنّ التغير الأساسي الإيجابي الوحيد الذي استطاع أن يُسمّيه هو أنه ارتاح من العمل البرلماني اليومي المباشر الذي استنزف وقتًا وجهدًا خاصًا في السنوات العشر الأخيرة، وكان قد قرر الاستقالة في الداخل من دون منفى، في اللحظة التي اقتنع فيها بأنه قد تمأسس تقليد حقيقي في العمل البرلماني على النمط التجمعي الذي يجمع بين العمل على قضايا الناس والتمسّك بالموقف الوطني الديمقراطي، وذلك قبل بدء الملاحقة البوليسية الأخيرة، خاصة بعد أن نضجت كتلة "التجمع الوطني الديمقراطي" وأخذت دورًا فاعلا، ليتابع العمل السياسي بما فيه إيصال من يتابع هذا العمل في البرلمان.

ولكنه الآن في المنفى القسريّ الذي أدى الى أن يقدم استقالته وكأنها في سياق هذا الموضوع. ومع أنّ د. عزمي بشارة لا يحبّ العودة إلى كتبه بعد إصدارها كأنها حمل نزل عن ظهره، فهو يُجري معنا هذه المقابلة حول الكتاب وقد أقنعناه بالقول إنّ القارئ قد يحتاج إلى تلخيص للخطوط الرئيسة كمرشد للقراءة.

- كيف تنتهي من العمل على كتاب جديد؟

د. بشارة: "أنهي الكتاب وأجمع كُلّ ما يتعلق به في صندوق أو أكثر، وأضعه على الرفّ وأنظف الطاولة. وهي عادة طاولة كبيرة؛ أحبّ طاولة السفرة مثلا، يُفرَد عليها كل شيء وتبقى مُحمّلة هكذا إلى حين الانتهاء من الكتاب، وأنتقل لكتابة مقالاتي والتزاماتي الأخرى في هذه الأثناء على طاولة المكتب أو طاولة المطبخ، أو غيرهما. أنظف الطاولة بعد أن أنهي الكتاب، بانتظار مشروع جديد أو كي أبدأ مشروعًا جديدًا، وهكذا. عمومًا هنالك طاولة واسعة للمشروع الذي أعمل عليه، ويبقى المكتب أو المطبخ لعملي اليومي ومقالاتي الأسبوعية."

نعود إلى موضوع حوارنا الأساسي معه، كتابه الأخير، "في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، فهو يستحق أكثر من مقابلة، لأنه مُلحّ وهام وذو علاقة مباشرة بهموم العرب الحالية.

منيفستو ديمقراطي

- تفاجأنا من صدور الكتاب بهذا السرعة؛ هل تفرغت فأصبح لديك وقت اكثر للكتابة؟

د. بشارة: "في الحقيقة لا، لم يُنجَز هذا العمل بسرعة بل ببطء نسبي. بدأت كتابة هذا الكتاب في الداخل، وإلا فما كنت لأنهيه بهذه السرعة. ولكن العمل اليوميّ السياسيّ والاجتماعيّ مع الناس، والحزبي أيضًا، عطل العمل وأعاقه عدة مرات، فكنت أتركه لشهور ثم أعود فأحتاج إلى وقت لولوج الموضوع من جديد. كانت مشكلة الكتابة في الداخل هي تقطع الوقت، وطبعًا الأعصاب. لم يتوفر لديّ ولا حتى مرة واحدة أن أجلس أكثر من يوم مُتواصل بطوله. وهذه طبعًا ليست ظروفًا لكتابة فكرية أو أدبية. فليس الهام توفر الوقت، فقط، بل تواصله. وقتي كان ليليا، أو في الصباح الباكر، وكنا نستغلّ الوقت فيلعب حولي أطفالي وأنا أكتب وأشاركهم اللعب، لأنها نفس أوقاتي النادرة في البيت؛ يجب أن أخصّصها للكتابة وللأولاد. تعرفون كيف كانت ظروف المنفى بداية، وإضافة إلى المنفى بحدّ ذاته، جاءت الضغوط والحملة التحريضية التي بلغت دركًا غير مسبوق، والتآمر، وضرورة التنسيق مع "التجمع" والحركة الوطنية والقومية عمومًا، والاهتمام بشؤون العائلة، طبعًا. لم أتمكن من التفرغ للكتابة إطلاقا، عدا كتابة المقالات. واحتجتُ إلى وقت في الخارج كي أعود إلى الكتاب. ولكن عندما عُدتُ إليه وجدتُ لأول مرة إمكانية العمل أسبوعًا كاملا متواصلا في بعض الأحيان".

- فهمنا من كلامك ومن المقدمة أنك قصدتَ كتابًا من جزئين، وأنك خلال العمل استبدلتَه بعمليْن، أي كتابيْن.

د. بشارة: "صحيح. تبيّن لي خلال العمل أنه من الأفضل إنجاز عمليْن. وفي المجمل، ما يربط الكتابين هو نفس ما يربطهما بعمل سابق رئيسي لي هو كتاب "المجتمع المدني". ولا مبرر لصدورهما كأجزاء. وهو في النهاية عمل فكري واحد، تطوير للفكر الديمقراطي والنظرية الديمقراطية من خلال دراسة الحالة العربية، وتطوير الفكر العربي من خلال دراسة نظرية الديمقراطية وتاريخها، ثم تطبيقها في السِّياق العربي. على كل حال أكّدتُ في هذا الكتاب وجود استثنائية عربية وليس إسلامية، عندما يتعلق الأمر بالانتقال إلى الديمقراطية. الخصوصية هي عربية ولذلك وضعتُ العنوان الرئيسي "المسألة العربية"، يليه عنوان فرعي هو "مقدمة لبيان ديمقراطي عربي".

- ما كاد الكتاب يصدر حتى قوبل بثناء على مستواه النظري والتحليلي والغنى المعرفي؛ ارنست خوري، من أسرة جريدة "الأخبار" في بيروت، أسماه "منفيستو ديمقراطي"، ولكنه أشار إلى كثرة المواضيع فيه والتي تحتاج كُلٍّ منها إلى مجلد. وقال إنّ التبرير الوحيد لمثل هذا العيب قد يكمن في تفصيل في الكتاب القادم الذي تعدنا به حول التدين والديمقراطية.

د. بشارة: "الكتاب هو دعوة للديمقراطية، وللتحوّل الديمقراطي، ولكنه يفند نظريات التحول الديمقراطي، ويدعو الديمقراطيين إلى عدم البناء على نظريات تقود بموجبها عمليات موضوعية إلى تحوّل ديمقراطي، كما يدعو إلى نبذ فكرة الاعتماد على الخارج، حيث يتم التدخل الخارجي في سياق مسألة قومية مفتوحة وفي تعارض معها، خلافا لحالتي اليابان وألمانيا. والكتاب لا يتهم الديمقراطيين جميعًا بمثل هذا الاعتماد على الخارج (كما نشأ انطباع عند برهان غليون، للأسف)، بل العكس؛ لقد قدّم الكتاب نماذجَ للجّمع بين الأجندة الوطنية والقومية والديمقراطية منذ بدايات الفكر العربي الحديث. الكتاب يفند ويدحض أمريْن: أولا، الاعتماد على تحوّل ديمقراطي من دون ديمقراطيين ومن دون عمل ديمقراطي، ومن دون حاجة لأن ينظم الديمقراطيين أنفسهم. امتحان القوى الديمقراطية هو في تنظيم نفسها وطرح برنامج ديمقراطي لإدارة البلد الذي يعيشون فيه، من دون التخلي عن الأجندات الوطنية؛ وثانيا، يُفند الكتاب مقولة إنّ الخيار هو بين قبول الاستبداد الداخلي والسعي للتدخل الخارجي، ويعتبرها خياراتٍ وهمية لا تؤدي إلى ديمقراطية كما تثبت التجربة. ومن أجل طرح الخيار الصحيح يجب رؤية المسألة القومية والخصوصية العربية ووضع الأجندة الديمقراطية".

أمّة ناجزة؟

- وماذا بالنسبة لكثرة المواضيع في الكتاب؟

د. بشارة: "هذه ليست كثرة مواضيع، بل هو نفس الموضوع ونفس الجهد. في الكتاب محاولة لتفنيد فكرة مُعيقات الديمقراطية كتفسير للاستثنائية العربية؛ أولاً، لأنّ عددها قد يكون غير مُتناهٍ وليست لدينا أدوات لنظرية شاملة في فهم أسباب التحوّل الديمقراطي حيث حصل، كي نحدد معيقاته. ولكن لدينا عوامل رئيسة ضرورية ولكنها غير كافية لنشوء الديمقراطية، ونحن نقلب الموضوع فنقول إنّ غيابها يعيق التحوّل الديمقراطي. حسنا، نعدد الرئيسة منها، كالاقتصاد، حيث لدينا نظرية الدولة الريعية، ولدينا مسألة الثقافة المساندة للديمقراطية وغيابها- هذا بعد أن فنّدنا فكرة أنّ الدين هو عائق، ولدينا بنية المجتمع العائلية والقبلية، ومواضيع عديدة أخرى. لا بدّ من معالجة هذه جميعًا، وليس تعدادها، فقط. والكتاب يعالجها ليس لغرض تسجيل فتح جديد فيها، بل كي يؤكد أنها مُعيقات، ونحن على دراية بوجودها. ولكن أيّا منها لا يصلح ليشكل نظرية تفسّر إعاقة التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي. فقد توفرت هذه المعيقات في بلدان أخرى جرى فيها التحوّل الديمقراطي رغما عن وجودها. وثانيًا، لأنها لا تشكّل خصوصية عربية، وهي لذلك لا تُفهم وحدها، ومن هنا كانت الحاجة لشرحها وشرح أهميتها كعوائق. ولكنها لا تشكل خصوصية عربية. ولذلك انتقلنا إلى شرح القصور عن فهم دورها دون الخصوصية العربية، ألا وهي المسألة العربية".

- هل يعني هذا أنّ الكتاب يفهم أن العائق أمام التحوّل الديمقراطي هو عدم حلّ القضية القومية العربية من خلال الوحدة، مثلا؟

د. بشارة: "قطعا لا، فالكتاب دعوة للقوميين لأن يربطوا أنفسهم بأجندة ديمقراطية في كل قطر عربي، وللديمقراطيين أن يروْا أهمية المسألة العربية كعائق أمام التحوّل الديمقراطي. يجب فهم الديمقراطية كجزء من عملية بناء الامة، ويجب عدم انتظار تحقق أمّة ناجزة، والكتاب ينقض هذه الفكرة، ولا أدري كيف يمكن فهمه على أني أربط الديمقراطية بوجود أمّة ناجزة كما فعل أحد الأصدقاء.

"وبالعكس يعود الكتاب إلى جهد قمت به في الفصل حول القومية في كتاب المجتمع المدني من العام 1996، وقد صدر حتى الآن في أربع طبعات، منها واحدة صدرت في رام الله، ويجري الإعداد لطبعة ثانية في الداخل. ماذا قلتُ هناك، ميّزتُ بين القومية والأمة (وهو تمييز لم يكن قائمًا في الفكر القومي)، وحاولتُ تأسيس مفهوم الأمة على المواطنة بحيث تفصل القومية عن الدولة والمواطنة بعد تقرير المصير. ولكن هذا لا يعني أنه ليس هنالك دور للقومية كرابطة ثقافية وجماعة مُتخيلة حديثة وبأدوات حديثة تم تسييسها كبديل عن الرابطة العضوية العشائرية والقبلية في مقابل تسييس الرابطة الطائفية. فالتخلي عن القومية كرابطة قبل تحقيق الدولة أو أمة المواطنين هو عمل يُعيق التحوّل الديمقراطي، ويفعِّل كافة العوائق السابق ذكرها مثل: الدولة الريعية، العشيرة، الثقافة وغيرها، لتصبح أكثر من إعاقات للتحوّل الديمقراطي، فهي تصبح مدمرة في عملية انحلال مجتمعي".

- وهذا ما يجري في عصرنا؟

د. بشارة: "طبعا، الدولة القطرية دون القومية العربية حاليًا لم تبنِ أمة مواطنين، ولم تنشئ قومية بديلة للقومية العربية، وكان البديل هو الطوائف والعشائر. ولذلك لا ننتظر الوحدة العربية بل نعتبر القومية العربية هوية حداثية للأغلبية وكشرعية مجتمعية تسمح بالتعددية السياسية في داخلها عاملا مساعدًا في بناء الدولة الديمقراطية، القومية تنفي ذاتها في الأمة كجماعة المواطنين. وعدم حلّ المسألة القومية ولو على مستوى الوعي والعمل ديمقراطيًا في تعارض معها يُحوّل الدولة إلى غير شرعية تستند إلى الاستبداد والمجتمع إلى مجتمع طائفي وعشائري سياسيًا وليس اجتماعيًا فحسب".

- يختلف هذا الطرح عن الإيديولوجية القومية السائدة.

د. بشارة: "طبعًا، فأنا أعتبر الإيديولوجية القومية أحد مظاهر وجود المسألة العربية. ولكن هذا يعني التعامل بجدية مع الطاقة الهائلة لوجود الانتماء العربي عند الجماهير، ولتوحيد السوق الإعلامية والثقافية العربية التي تجري من دون أن يرمي إليها أحد، والطاقة السياسية الكامنة في "نحن" عربية تشكل لاصقا شرعيًا لمجتمع يسمح بالتعددية السياسية وليس تعددية الانتماءات والهويات فحسب، ثم تتوسع في عملية بناء أمة المواطنين. العروبة هنا ليست سعيًا للوحدة العربية وإهمالا للقضايا الآنية لكل مجتمع، بل هي تعامل مع القضايا في كل دولة ومجتمع، ونحن نعتبر بناء الديمقراطية في الدول العربية خطوة جوهرية على طريق التعاون العربي الاتحادي الحقيقي. وحتى في حينه يجب أن تبنى الأمة على المواطنة، والقومية هي طريق حديثة إلى هذه الحالة الحديثة للمجتمع والدولة، وتجاهلها يقود بالاتجاه المعاكس".

- نأسف أن نقطع هذه التداعيات لنسألك هل من جديد في الكتابة الأدبية؟ فهنالك من ينتظر ما سيأتي بعد كتابي "الحاجز"، و"حب في منطقة الظل". هل يتوفر لديك الوقت لها مع وجود مشروع الكتاب الثاني؟

د. بشارة: "لا أدري. الفترة كانت صعبة جدًا. وعدا صعوبة الانتقال المفاجئ دفعة واحدة ومن دون تحضير من بيئتي الأولى بعد هذا العمر، أخذًا بعين الاعتبار طريقة حياتي المكثفة جدًا في الداخل، ولا أظنّ أني بحاجة لأن أصفها لكم؛ عدا هذه الصعوبة فهنالك مسؤوليات كثيرة. فالمرء لا ينتقل ويُولد من جديد. الهموم والعواطف والجراح وجزء من المسؤوليات ينتقل معه. فقط من هذه الناحية السجن أسهل من المنفى لأنه لا يتضمن أعباءً ومسؤولياتٍ يُتوقَّع منك الاستمرار فيها وحلها رغم الظرف الصعب. ثم هنالك عدم الانقطاع عن الكتابة السياسية الأسبوعية ومشاريع البحث التي ذكرتها. ولا بد أن تصل اللحظة التي لن أستطيع فيها المواصلة من دون الكتابة الأدبية- فهي علاج ذاتي بالنسبة لي. وهذا ما جرى لي في الداخل؛ ففي فترة معينة لم يعُدْ مُمكنا الاستمرار من دون هذا العلاج. على كلّ حال عليّ أن أكتب مقاليْن كلّ أسبوع وأن أنهي هذا المشروع، وسوف نرى.

"جنوب لبنان بعد الحرب ترك في نفسي أثرًا كبيرًا وحبّذا لو أجد الوقت للكتابة عن التجربة الإنسانية في تلك الضيع والقرى. لا أدري، إن شاء الله، سوف نرى".

- هل انقطعت عما يجري في الداخل أم ما زلتَ تلتقي مع الناس من هنا؟

د. بشارة: "لا طبعًا، أنا في صورة الأوضاع قراءةً ومتابعةً، وألتقي غالبًا مع الناس والأصدقاء والعائلة وأتابع ما يجري بنفس الالتزام والاهتمام. فأنا أعتبر الحالة حالة منفى وليس أوطانا جديدة. تعرفون أنّ العالم العربي هو عالمي الثقافي والحضاري وقد توسّعت حلبة نشاطي فيه، ولكن هنالك بُعد إنساني وسياسي لمسألة المنفى كشعور وكموقف".