تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة: المنفى القسري الحالي فُرض علي نتيجة لعملية الملاحقة في الداخل

2008-01-11

أحمد الطراونة*
جريدة القدس


د.عزمي بشارة، المفكر العربي والمناضل الفلسطيني الصلب والمثقف صاحب الرؤية الثقافية الثاقبة، تمرد على الحواجز اليهودية فحوّلها إلى ملهاة شاهدة على الظلم والعدوان، استظل تحت صفيح المعابر وكتب تحتها قصة حبه، فلسطيني من مواليد الناصرة في العام 1956، كان شيوعيا ثم تحول إلى قومي عربي، أحد ابرز الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي، يعدّ شخصية سياسية ثقافية مثيرة للجدل، من أبرز المنتقدين لسياسة إسرائيل التي يصفها بـ''العنصرية'' ويدعو بأن تكون إسرائيل ''دولة لجميع مواطنيها''. ينتقد الفكر الصهيوني المسيطر والتمييز ضد العرب، ويرى أن تعامل الدولة الإسرائيلية مع السكان العرب الفلسطينيين الأصليين يتعارض مع ادعاءات إسرائيل بأنها دولة ديمقراطية. حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة بامتياز من جامعة هومبولون ببرلين ، وفاز بجائزة ابن رشد للفكر الحر في العام 2002.

شارك في العام 1995 بتأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، وانتُخب عضوا في الكنيست سنة 1996. له أعمال منشورة بالعربية والإنجليزية والألمانية والعبرية في شؤون الديمقراطية والحرية المدنية، حقوق الأقليات القومية في إسرائيل، الإسلام والديمقراطية والقضية الفلسطينية في الداخل. صدر له العديد من الكتب والمؤلفات منها: ''المجتمع المدني: دراسة نقدية''، ''الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى'' (1998)، ''العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل'' (2000)، ''الانتفاضة والمجتمع الإسرائيلي: تحليل في خضم الأحداث'' (2002)، ''طروحات عن النهضة المعاقة'' (2003)، ''الحاجز'' (2004) - ترجم للعبرية في العام 2005، ''من يهودية الدولة حتى شارون'' (2005)، ''حب في منطقة الظل'' (2006)، ''في المسألة العربية - مقدمة لبيان ديمقراطي عربي''، وقام بتحرير كتابين بالعبرية هما: ''التنوير مشروع لم يكتمل بعد'' (1997)، و''الهوية وصناعة الهوية في المجتمع الإسرائيلي'' (1999).

ملحق ''الرأي الثقافي'' التقى المفكر العربي د.عزمي بشارة، وكان هذا الحوار:

* نشرت وكالة الصحافة الألمانية، استناداً إلى مصادر إسرائيلية، خبرا عن تخطيط إسرائيل وأجهزتها المخابراتية لخطفك أو اغتيالك، إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك في الفعل النضالي للمناضل العربي الصلب؟

- أنا شخصيا قللت من أهمية الخبر عن قصد، مدركا انه اذا كانت إسرائيل مصدر التسريب فلا يمكن ان يكون الأمر جديا، لذلك فإن نمط حياتي لم يتغير، فالمنفى القسري الحالي فُرض علي نتيجة لعملية الملاحقة في الداخل وقد وصل إلى حد تلفيق تهم أمنية خطيرة وغير صحيحة. في هذا المنفى لم اعد اعمل في العمل السياسي والفكري حيث لم يعد نمط حياتي كما كان في السابق في الداخل، فقد كنت اقضي وقتا كبيرا في التجول في المدن والقرى وفي التنظيم والتعبئة وإقامة المؤسسات، وكنت أتفرغ في نهايات الأسبوع للعمل الفكري والإنتاج الأدبي، اما الآن فالأمر معكوس تماما، حيث أتفرغ للعمل الفكري، والاستثناء هو الخروج للشارع، لكنني متابع بشكل مدقق لما يجري في الداخل وللأوضاع الفلسطينية والعربية وأقول رأيي عندما يطلب مني، لكن الجهد الأساسي متوجه للعمل الفكري ولا انوي تغيير هذا النمط من حياتي بسبب تهديدات هنا او هناك، ولكن لا استبعد في الماضي ان يخططوا لاختطاف او محاكمة، لكنني قلت لا يفترض بي ان ألعب بموجب قواعد اللعبة التي وضعوها هم، وليست وظيفة المناضل ان يستسلم ويلعب بموجب قواعد اختاروها هم، أي ان يلفقوا تهما أمنية وان أقبل بها وأحاكَم على أساسها.

لذلك لا استبعد ان يخططوا لذلك رغم انني لا استند الى أخبار تطلقها مواقع اسرائيلية هنا او هناك حتى لو أخذتها وكالة الأنباء الألمانية بجدية، والحقيقة انني اعتبر نفسي في احضان اهل فأنا في الأردن وفي قطر ومصر ولبنان وسوريا وعائلتي في عمّان، وانا بين الإخوة ولا أخشى من ذلك.

* اذا كنت قد تفرغت للعمل الأدبي والفكري، فإلى أيهما تميل، أو أين تجد نفسك؟

- من يقرأ كتاب ''النهضة المعاقة'' او ''حب في منطقة الظل'' يجد الشخص نفسه، وبالتالي الإنسان اذا كانت لديه شخصية مستقلة لا ينقسم إلى أفراد مختلفين، فهو واحد في الأدب والفكر والعمل، لكن التعبيرات مختلفة. متعتي الأساسية هي في كتابة الفكر المجرد او الفلسفة وتاريخ الأفكار، وكان الإنتاج الرئيسي هو المجتمع العربي، وأعتبر كتاب ''المسألة العربية'' والكتاب الذي اعمل عليه والمتعلق بالتدين والدين، في السياق نفسه، أي تشخيص الواقع كي يخدم رؤية سياسية نقدية لمن أراد. هذا انشغالي الرئيسي، وفي هذه الأثناء أيضا اكتب مقالة أسبوعية منذ عشر سنوات، وهذا يستنزفني وقد ارتحت منه الآن، لأنني أريد ان أركز على الجانب الفكري.

اما أين يقع الأدب، فالحقيقة ان الانشغال الأدبي يأتي بسبب ان هنالك مكامن في النفس لا يعبر عنها المقال السياسي ولا يعبر عنها التحليل الفكري خصوصا تلك التعبيرات التي لها طابع عاطفي أكثر او يختلط فيها العقل بالعاطفة بحرية خاصة، فأنت لا تستطيع ان تسمح بأن يختلط العقل بالعاطفة بحرية في الإنتاج الفكري، فالحس العاطفي والحس الجمالي لا يمكن ان يظهرا إلا في الجانب الأدبي، خصوصا اذا كان ذلك على مستوى راقٍ او ما يسمى ''الأدب العالي'' او الأدب الراقي، ولا يكتشف دائما في لحظة إنتاجه، وإنما يأخذ وقتا لهضمه وهو الذي يبقى، ليس لدي إيقاع انتاجي واضح لأن الأدب ليس مهنتي، وإنما هو رغبة تلح علي بالإبداع أحاول ان ألبيها، لذلك أنتجت ''الحاجز'' و''حب في الظل''، وفي الطريق فكرة أخرى لا أستطيع ان أتفرغ لها الآن، لكن الإبداع الأدبي متعة حقيقية ويساعد الإنسان على البقاء والحياة في الظروف الصعبة خصوصا ابان حملات التحريض الكبيرة والملاحقات المستمرة.

* هل ترى أن هناك مشروعاً ثقافياً فلسطينياً واضح المعالم سواء في الداخل او في الشتات؟ والى أي حد يمكن ان يستند مشروع النضال الوطني الفلسطيني إلى هذا المشروع؟

- أنا أؤمن بوجود فضاء ثقافي عربي لأن اللغة عربية، والهموم عربية، وهنالك شيء مشترك يجتمع عليه الجميع ليس في فهم الذات فقط وإنما بوجود تطلعات مشتركة عمت المنطقة العربية واكتسحتها بالتدريج منذ القرن التاسع عشر، وحتى إنكارها وحتى ونقدها هو جزء منها، لذلك أنا أؤمن بوجود فضاء ثقافي عربي كان حتى الآن هو المحرك للإبداع في الأقطار العربية كافة، ورغم أن كل شيء تشظى إلا أن لغة الثقافة ازدادت وحدة، واقتربنا من بعضنا بعضاً ثقافيا، فأصبحت السوق الأكثر توحيدا للوطن العربي هي السوق الثقافية، لذلك يصعب علينا الحديث عن مشروع ثقافي أردني او مصري أو سوري.

ولكن يمكن القول إن هناك مشروعاً ثقافياً فلسطينياً، لأن هنالك مشاريع ثقافية تزامنت مع بناء الهوية الوطنية في لبنان وفي مصر، واعتقد أن هذا أغنى الثقافة العربية، أما المشروع الثقافي الفلسطيني فلا شك انه لم يتغرب واعتبر نفسه من المشروع الثقافي العربي ونهل من مصادره وفتن بمراكزه الحضارية الرئيسية مثل القاهرة ودمشق وانقسم بينها، ولكن خصوصيته كانت في التفاعل مع تشكيل الهوية الفلسطينية في تناقض مع الانتداب البريطاني واسرائيل، وهذا ما ميزه عن جنوبه في مصر وشماله في بقية بلاد الشام. ومع قيام منظمة التحرير الفلسطينية في الشتات تحولت القضية الفلسطينية وأعادت إنتاج الهوية الوطنية الفلسطينية لتصبح هاجسها وهمها الأساسي، ولا شك أن تلك الفترة شهدت نهوضا فلسطينيا إبداعيا في مجالات عدة ولكنها لم تنضج جميعا لعدم وجود مركز مديني، يعني غياب حيفا ويافا وغيرها اثر في استمرار وجود مشروع فلسطيني جاد، لأن قسما كبيرا من المواهب الفلسطينية توزعت وتقسمت على الأقطار العربية ولم تجد مركزاً مدينياً فلسطينياً يحتويها.

ولا بد أن ينقلني هذا إلى أن مجال الإبداع الرئيسي الثقافي الفلسطيني كان أدبيا والى حد ما بعض الجوانب التشكيلية والسينما، ولكن بتفاوت كبير، فالاستخدامات الأدبية ليس بالضرورة ان تكون مدينة، فقد يكون لها طابع ريفي ولأنها قريبة من الكلمة المكتوبة ومن التعبئة، خصوصا الشعر، فهو قريب من عملية التعبئة والتجييش، وأيضا ان جزءاً من الشعر فلت من قبضة التعبئة والتجييش الى أشكال أكثر رقيا، اما الرواية فقد بقيت في حالة كمون وبقيت الحالة العربية تنتظر ان تأتي الرواية الفلسطينية، لكنها لم تأت لأن الحالة الفلسطينية حالة لم تكتمل بعد، قد تأتي بعد مئة سنة، الا اننا الآن في حالة روايات وسرديات مختلفة للحالة الفلسطينية، والخوف الحالي من تفتت المشروع الوطني الفلسطيني خصوصا ان القضية الفلسطينية التي كانت هي المحرك الكامن وغير الكامن الداخلي والخارجي الواعي لذاته او المنكر لذاته، فالقضية الفلسطينية هي في لب الإبداع الأدبي الفلسطيني، وتعرضها الآن لحالة افول او حالة تشظي او عدم وضوح معالم هي الهم الأكبر.

* هل يمكن ان نقول العكس، بمعنى هل يمكن للثقافة ان تقلل من حالة التشظي؟

- لدي قناعة بأنه حتى مع حالة التردي والانحطاط التي قد تؤدي الى فرز مثقفين في خدمة حالة التشظي وأدوات لها كما في كل الحالة العربية، يجب ان لا نخشى ان الحالة الفلسطينية تؤثر بشكل مباشر على الثقافة الفلسطينية بحيث تنفيها او تصيبها بالانحلال نفسه، لأنه بامكان الثقافة الفلسطينية طبعا في حالاتها الراقية ان تقوم بدور تعويضي بتوحيد الهوية الفلسطينية وفي إعادة إنتاج الثقافة الفلسطينية رغم تشظي الواقع.

وهناك من حلل رواية ''حب في منطقة الظل'' والتي من أحداثها الاتصال بين شاب فلسطيني في الداخل مع فتاة فلسطينية في المهجر بواسطة ''الشات''، على انها محاولة لإعادة إنتاج الحالة الفلسطينية بحالتها المتشظية والمتردية، وهي على الأقل إعادة إنتاج تجربة فلسطينية او كيانية فلسطينية، او حالة فلسطينية وان كانت منحلة او متشظية. والسياسة التشتيتية او التنافسية التي تتصارع على عبث أحيانا وعلى لا شيء تعطي الأدب او الثقافة مادة توحيدية ويتحول فيها الأدب بدل ان يكون في خدمة السياسة الى رد على السياسة.

* هل ترى أن المثقف العضوي بحسب غرامشي، موجود، وتحديداً في الحالة الفلسطينية؟

- بالتأكيد رغم ان هنالك حالات تنفي هذه الحالة كالموظف الذي في خدمة المؤسسة الفلسطينية الرسمية والمثقف الذي بخدمة المزاودة، وهنالك المثقف الذي وقع في ردة فعل الأصولي على الحداثة الذي يمثل حالة صراع مع الحداثة لأن لدية علاقة متوترة او موتورة مع الحداثة، ولدينا المثقف الفلسطيني الذي في الشتات الذي لديه الهوية الفلسطينية وهي فقط هوية فلكلورية او اداة يتهم من خلالها الآخرين بالعنصرية عندما يفشل. لدينا أنماط عدة، ولكن لدينا من دون أي شك المثقف العضوي الذي يرى ان الهوية كمعطى غير مقدس وغير ادبي، ويحاول إعادة إنتاجها وتصميمها وتشكيلها بشكل مبدع من خلال علاقة نقدية مع الواقع ولا يتعامل مع هويته بشكل مقدس او انها تشكل عبئاً عليه يريد التخلص منه، لا هي عبء ولا هي حالة قداسة، وانما هي انتاج بشر ويمكن ان تتغير بتفاعل نقدي وثقافي مع الواقع.

ورغم انني لست في حالة تفاؤل إطلاقا، إلا انني اشخص الواقع حيث بدأت أرى حالة مخاض تنتج مثقفين ومفكرين في علاقة نقدية مع الواقع ليس فقط من اجل النقد وليس فقط من اجل النفي وانما في علاقة عضوية مع واقعهم الاجتماعي من اجل التغيير، وهذا الشيء بدأ يبرز فلسطينيا مع الأجيال وموجود في دول عربية مختلفة، ورغم انه لم يتشكل بعد كتيار سياسي او تيار ثقافي، ولكن الثنائية التي كانت قائمة بين أنظمة عربية فاسدة او مستبدة من جهة وبديل أصولي من جهة باعتقادي أنها بدأت تتآكل، أي ان هذه الثنائية بدأت تتلاشى لوجود رؤية أخرى تحاول ان تتجاوز هذه الثنائية، خصوصاً وان الحالة المجتمعية العربية التعبة من هذه الثنائية جاهزة الآن لتقبل أفكار جديدة وأنماط جديدة تجمع ما بين الوطني والديمقراطي القومي والمتنور الإسلامي والحداثة، يعني تحاول ان تجمع بين الثنائيات التي كان من غير الممكن الجمع بينها في السابق، وهو جمع غير توفيقي او تلفيقي، وإنما جمع ناتج عن أن واقعنا مركب، ولا بد من إنتاج يوافق هذا الواقع المركب، يعني هضم وإعادة إنتاج لا الخروج بحالة هجينة عديمة الهوية، وذلك شأنه شأن أي فكر في أي مجتمع آخر، فالإنتاج التنويري في أوروبا كان أيضا مركبا، فلم يكن سهلا، وإعادة إنتاج الديمقراطية الليبرالية في أوروبا حاليا وفي أميركا أيضا حالة مركبة جدا وبواقع مركب جدا جدا وبعضهم يسميه ما بعد الحداثة او إعادة اكتشاف الهويات.

* يعني هل تعتقد أن الحالة العربية الآن تعيش مخاض إعادة اكتشاف الهوية؟

- نعم، ولكن بهموم اخرى، لذلك اعتقد اننا نقترب الى حالة من هذا النوع، والحالة الفلسطينية والتي ترافقها حالة انهيار أوهام وانهيار رومانسيات كبيرة حول أدوات النضال وحول حركة التحرر الوطني الفلسطيني، هي عملية مؤلمة وصعبة وفيها احباطات عسيرة جدا، خصوصا عند الناس الصادقين الذين رافقوا المشروع بصدق ولم ينقلوا البندقية من كتف الى كتف بسهولة، والذين يعيشون ألماً حقيقيا لأن عالمهم الذي كانوا يؤمنون به انهار. إنه باعتقادي أصعب الحالات ثقافيا ولها شبه كبير في الحالة العربية بعد عام 67، ولكن أراهن كثيرا على غنى التجربة الفلسطينية في الشتات والداخل لتنوعها والذي اعتقد انه سينتج وحدة من نوع جديد ولدي ثقة بذلك، خصوصا انه بالمجمل ورغم كل صناعة القضية الفلسطينية ورغم كل من اعتاش عليها، إلا ان الدافع الرئيسي بالمجمل هو انها قضية عادلة وهي اعدل القضايا التاريخية ولا بد ان تجد تعبيرات صادقة عنها في كل مرحلة تاريخية.

* أود أن أسألك عن إشكالية الهوية بالنسبة لفلسطينيي 48 الواقعين تحت قبضة اسرائيل. كيف تنظر إليها؟

- لقد كتبت مطولا عن هذه الإشكالية، وتحديداً في كتاب ''الخطاب السياسي المبتور'' الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، تحت عنوان ''العرب في إسرائيل- رؤية من الداخل''، وهو موضوع مركب جدا، خصوصا أنني أرى أن الهويات ليست شيئاً معطى وأبدياً وثابتاً، وإنما هي شيء ديناميكي ومتحرك ويمكن إعادة انتاجه في تفاعل مع الواقع، فمثلا كل جيل يعرف نفسه بفهم يختلف عن الجيل الذي يليه، وهذا ناتج عن فهم الناس لحياتهم، وهو فهم متحرك وغير ثابت.

لقد تشكلت الهوية القومية للعرب في الداخل قبل قيام ''إسرائيل''، فهم عرب فلسطينيون، وإسرائيل لم تقم من أجلهم، بل من اجل تكريس هوية يهودية أو تحويل هوية يهودية دينية إلى هوية قومية، كما أعادت اسرائيل تشكيل هوية اليهود وحولتها إلى هوية عبرية - صهيونية، ومن هوية شتات إلى هوية طوائف دينية، منها ما هو مندمج ومنها ما هو غير مندمج، وهذا يعني إعادة تشكيل الهويات وصناعتها بواسطة الجيش وبواسطة المؤسسات الأخرى.

* وهل ترى أنه جرى إعادة تشكيل هوية عرب الداخل؟

- بالطبع، أعيد تشكيل هوية عرب الداخل، فهم أولا عزلوا عن العالم العربي، وثانيا خضعوا لمؤثرات خارجية وجرت محاولات لتقسيمهم إلى طوائف، فمثلا أُخرج الدروز من بينهم وجُندوا بالجيش، خصوصا في خدمة السجون، وان جزءاً من هذه الخدمة لم يكن جبريا وانما كان طوعيا، وهذه صناعة طوائف، حيث جرى في اسرائيل خلق هوية درزية مختلفة عن بقية الهويات، مع ان الدروز في جبل العرب يعدّون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، ويعدّون ما يحصل في الداخل اهانة، خصوصا أنهم كانوا قياديين في الثورة، وهذا يدل على انهم نجحوا الى حد ما في إعادة تشكيل الهوية، ولكن بقيت هنالك جيوب مقاومة متمسكة بالهوية العربية، رغم ان هنالك تواطؤاً مع المشروع الصهيوني في طمس الهوية الدرزية العربية.

وهنالك محاولة لإعادة تشكيل هوية عرب 48 وتحويلها الى هوية ''عرب اسرائيل''، لأن اليهود لا يعتقدون بوجود العرب، فقد كانوا في السابق يقولون انه يوجد عرب لكن لا يوجد شعب فلسطيني، والآن يقولون ان هنالك شعباً فلسطينياً لكن ليس هنالك امة عربية، وذلك في إطار إعادة تشكيل الهوية، ثم ان هنالك الحياة اليومية في اسرائيل، حيث جواز السفر اسرائيلي، رخصة البناء اسرائيلية، وبطاقة الأحوال الشخصية اسرائيلية. ويجب ان تثبت انك اسرائيلي حتى تحصل على مخصصات التأمين الوطني وغيره، اضافة الى ان هنالك دول عربية تنظر إليك على أنك اسرائيلي، وهذا يؤثر في الهوية، لكننا نقول انها تأثيرات مشوهة، ومهمة الحركة الوطنية هي مقاومة هذه التأثيرات والتمسك بالهوية القومية والفلسطينية.

* وهل نجحت الحركة الوطنية في التصدي لهذه المهمة؟

- من المبكر الجزم بذلك، فنحن كتيار وطني حاولنا جاهدين وحاول بعضهم قبلنا وناضل من اجل ذلك، الا اننا نقول اننا أعدنا صياغة الهوية في التعامل مع الواقع، فكان مشروعنا الأساسي هو تأكيد انتماء الشعب الفلسطيني للامة العربية والتصدي لمفهوم المساواة الذي فهمته بعض الاحزاب العربية على انه عملية ''أسرلة''، وهو يعني ان نكون جزءا من اسرائيل، وطرحنا ان الدولة هي التي تعطي المساواة لجميع مواطنيها، واسرائيل دولة ليست لجميع مواطنيها وبالتالي طرحنا المساواة كأمر مناقض للصهيونية، وبالتالي تعني المساواة تتغير طبيعة الدولة الاسرائيلية، أي انه لا يمكن المساواة في اسرائيل الحالية. كما وضعنا حواجز امام عملية الأسرلة.

إن تشخيص واقع عرب الداخل كواقع مشوه ممكن، والنجاح في هذه العملية لا يرتبط بالواقع العملي وبالتالي التنبؤ به ليس عملية سهلة، لأنه يرتبط بالعوامل الذاتية، ومنها قدرة الحركة الوطنية على إنتاج مؤسسات وطنية، لأنه من الصعب جدا ان تحافظ على هوية قومية لشعب من دون ان تكون هنالك مؤسسات وطنية، فإذا كانت المؤسسة الوحيدة هي مؤسسة العائلة او الطائفة، ولديك الدولة من ناحية أخرى وهي ليست دولة عربية ومنافية للهوية الفلسطينية وهي دولة صهيونية، كيف يمكن ان تحافظ على هوية قومية بهذه الظروف؟

لذلك عليك ان تنشئ مؤسسات قومية، وهذا ما حاولنا القيام به، ولذلك نحن ملاحقون. ويمكن القول في تشخيص الواقع ان عنصرية دولة اسرائيل ورفضها هي ان يكون هنالك مشروع مواطنة هي ضمانة الى حد ما بأن العرب لن يتأسرلوا، ولكن يجب عدم الاعتماد على ذلك، لأن هنالك اشكالاً مختلفة من الدمج، حيث يمكن ان يتم دمجهم كطوائف، أو دمجهم بعد ان يتخلوا عن الهوية العربية كأنصاف عرب وأنصاف اسرائيليين، خصوصا عندما يرون ان الواقع العربي متصالح مع اسرائيل وهم مواطنون في اسرائيل، لذلك يجب عدم الاعتماد على عنصرية اسرائيل للحفاظ على الهوية القومية، والدروز دليل على ذلك، فإسرائيل دفعتهم للتخلي عن هويتهم ولم تصبح رغم ذلك دولتَهم، لذلك يجب ان يكون هنالك عوامل ايجابية كبناء مؤسسات وإيجاد خطاب سياسي مناهض.

* ما هي الروافد الثقافية للمناضل الفلسطيني سواء في الشتات او في الداخل؟ والى أي مدى يمكن ان تتوحد هذه الروافد في صيغة واحدة؟

- ليس بالضرورة اولا ان يكون المشروع الثقافي واضح الملامح او المعالم لأنه ليس حزبا سياسيا، لكن يمكن القول ان على حركة التحرر الوطني ان توحد مشروعها لأنها في حالة تحرر وطني، اما في الدولة ليس بالضرورة ان يكون هنالك توحد، وانما الحالة الأكثر صحية هي التعدد والتنوع. في حالة التحرر الوطني أنا مع مشروع وطني واحد ولا بديل لهذا، فمهما تعددت المشارب من الاخوان المسلمين وحتى العلمانيين ففي النهاية ان لم يكن هنالك مشروع وطني واحد يجمعهم لن تنجح الحركة الوطنية، يعني ان يكون هنالك قواسم مشتركة. لذلك أنا مع اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. يعني ان ما تقوله ينطبق على حركة التحرر، ولكن ليس بالضرورة ان ينطبق على المشروع الثقافي، لأن الثقافة بطبيعتها توحد باللغة لا بالبرنامج. يمكن لوزير ثقافة ان يضع برنامجاً او استراتيجية، لكن الشعب ينتج ثقافتة بعفوية فالإبداع عمل فردي في إطار مجتمعي مستند إلى خلفية المبدع الفكرية وربما التيارات السياسية التي تأثر بها وربما حتى الحالة الشخصية.

* إذاً كيف ينتج عن ذلك مشروع ثقافي؟

- هذا مرتبط بحركة المجتمع وحيوية هذا المجتمع وقدرته على جمع التناقضات داخله من دون ان ينحل او يتشظى، اما كمشروع ثقافي واحد لا اعتقد انه بالامكان بشكل مقصود وضع برنامج ثقافي واحد يوحد المبدعين، وحتى الخلط بين منظمات او اتحادات كتاب او ادباء وبين مشاريع ثقافية هو امر خاطئ ولا يجوز، لأن التنظيمات او الاتحادات هي تنظيمات نقابية وليست إبداعية ولا يمكن ان تضع مشروعا ثقافيا موحدا.

وبالمجمل يبقى العمل الإبداعي عملا فرديا، والعمل الثقافي او الناتج الثقافي هو ناتج مجتمعي مرتبط بحيوية المجتمع وقدرة المجتمع على تحويله الى مشروع ثقافي، ولا بأس أن نرى العمل الإبداعي فرديا، فالفرد يتفرد في المجتمع لأن مفهوم الفرد مفهوم اجتماعي.

* هل تعتقد ان هنالك بنية ثقافية لدى الآخر (إسرائيل تحديدا) تستطيع من خلالها ان تواجه البنية الثقافية العربية وتجهز عليها او تفككها وتحولها باتجاه الخطاب الثقافي المنهزم كما نرى بعض هذه الملامح الآن؟

- طبعا لا تستطيع ان تهزم الثقافة العربية او تجهز عليها. هذا غير وارد. وأعتقد ان خصوم البنية الثقافية العربية وإبداعها الجمالي والتشكيلي والفني الرئيسيين داخلون في بنية النظام والمجتمع. ولا شك ان العنصرية الصهيونية والغربية تشكل خصما، ولكن هذا الخصم لا يستطيع ان يقضي على المشروع الثقافي العربي وبالعكس هو يحفزه، ولولا العوائق الداخلية لكان المشروع الصهيوني محفزا للإبداع ضده ولمنافسته وإظهار عنصريته وعدوانيته. وهو اصغر بكثير من الثقافة العربية، وليس بإمكانه ان يهزم الثقافة العربية.

* هل ترى أن هنالك بنية ثقافية عبرية؟

- نعم بالتأكيد، اما هل هي قادرة على المجابهة فهذا مرتبط بتشخيصنا للحالة وقدرتنا على فهمها، فخصومتنا مع الاستيطان ومع عنصريته، وتناقضنا الوجودي مع الصهيونية يجب ان لا يمنع من رؤية ان هنالك مشاريع بناء ثقافة وبناء هوية وبناء مؤسسات إسرائيلية، وهذه ليست مجرد معطيات وانما مشروعات يقوم بها الفاعل التاريخي الحداثي القائم على بناء المؤسسات الحديثة وليس بعث ما قبل الحداثي فحسب. ففي حالة اسرائيل، الفاعل التاريخي حركة منظمة اسمها الحركة الصهيونية ثم الدولة. وأحد اهم بداياته إقامة الجامعة العبرية ولم يسمّها ''جامعة يهودية''، وانما سماها ''جامعة عبرية'' لأن الهدف هو إقامة ثقافة عبرية، والجامعة هي الباعث لذلك. واذا قارنّا بين هذا المشروع وبين ما ينتشر حاليا في الوطن العربي من أشكال التعلّم الخاص بالإنجليزية والمدارس الخاصة التي تعلم اللغة الإنجليزية، سنجد أنه لا يوجد مدرسة واحدة في إسرائيل تعلم بغير اللغة العبرية ولا يوجد موضوع واحد ولا تخصص واحد يدرس بغير العبرية في الجامعات الإسرائيلية. هذا يقود الى سؤال هو: كيف تبدو اسرائيل قادرة علميا ان تنتج كل هذا الإنتاج وباللغة العبرية فقط مع تشجيع معرفة الإنجليزية طبعا، ومن دون ان تكون العبرية عائقا، ولماذا يرى بعضنا ان اللغة العربية تشكل عائقا؟ لقد حاولوا ان يبنوا امة عمادها الثقافة العبرية. وحتى لو فشل المشروع السياسي الا انه نجح في إيجاد ثقافة عبرية، فهي موجودة في المسرح والأدب، ولا تستطيع إلا ان تتعاطى معها رغم انها نتاج دولة عنصرية. وهذه تجربة (مخبرية مهمة إن شئت) تدل على دور المؤسسات والإرادة في صنع الثقافة، وتوسيع وتطوير قوى إنتاج الثقافة، وتحدي الحداثة، وبناء اقتصاد مشترك وقطاعات إنتاجية، ليس اقتصاداً ريعياً كمبرادورياً يعتمد على الإعانات، وإعادة كتابة التاريخ كتاريخ قومي، وتوحيد لغة التدريس واعتبارها واحدة لكل الطبقات. حتى التأمين الطبي والتعليم للجميع ساهم برأيي في هذه العلمية.

..هذه مواد للتفكير، ويجب ان لا تعمينا مواقفنا عن ان نفكر كيف حدث هذا، ورغم كل ولاء اسرائيل لاميركا الا ان الإنجليزية لا تسيطر على الشارع، ولا تسمع في أوساط نخبهم كلمة إنجليزية. وهذا يقلقنا عربيا لأنك ترى ان هنالك شعبين في الدولة الواحدة وهنالك حواجز طبقية بينهم تتحول الى فروق ثقافية لأن هنالك محاولة لتحويل الطبقي إلى ثقافي .

* ناقشت كثيرا معوقات التحول الديمقراطي. الى أي حد يمكن ان ترى ان جذور هذه المعوقات ثقافية في بعضها او مجملها؟

- في بعضها نعم، لكن لا أوافق على ان تحل الثقافة محل العرق في النظرية العنصرية. فالثقافات ليست كيانات حية تحدد سلوكات الأفراد كما افترض العنصريون ان يحددها العرق. واعتقد انه حتى العوائق الثقافية منتجة تاريخيا ويمكن تحويلها، وليس بالضرورة انتظار التحول الثقافي عند شعب من الشعوب لإعطائه حقوقه المدنية، وإننا يجب ان ندرك أيضا ان الحقوق المدنية عند شعب من الشعوب تساهم في إعادة إنتاج ثقافته، فإعطاء الحقوق أو انتزاعها قد يكون أحد الطرق لتحويل الثقافة لأن ممارسة هذه الحقوق تسهم في تحويل هذه الثقافة.

اذاً الثقافة عائق موجود لكنها عامل متغير ومتحرك. فليس من المعقول ان تبنى ديمقراطية ليبرالية جاهزة كما هي وبآخر منتجاتها، وليس مكتوبا على شعب ما ان يبقى اسير اتهامه بثقافته. ليس هنالك شعب تحولت ثقافته السياسية مرة واحدة قبل ان يحقق نظام حكم أفضل، فهنالك تحولات تجري بالممارسة.

* بعد رواية ''الحاجز'' جاءت رواية حب في الظل''. كيف تقرأ هذه التجربة الشخصية؟

- إنها تجربة رائعة رغم المعاناة. وهذا واضح من خلال ردود الفعل خصوصا من قبل الشباب، ومن خلال أيضا ان مجال الإبداع واسع وليس بالضرورة ان نتقيد بالبنى القائمة. قال بعض النقاد ان عزمي بشارة يكتب الروايات من دون ان يدري. وبعضهم الآخر قال ان هذا ليس رواية، يعني أن ليس هنالك بناء روائي، وبعضهم الآخر قال ان هذا تبشير بالرواية الحديثة. لكنني قمت بالتعبير عما يجول بخاطري بشكل أدبي، وهذا هو الناتج. ولكن يتفق النقاد ان هذا أدب، وأضاف كثير منهم انه أدب إنساني وراق. وكان ذلك مصدر راحة، لأنه بالامكان استخدام هذه الأدوات لتمرير ما لا تستطيع تمريره بحرية، وأنا اكتب عندما تتاح لي الفرصة، لأنني أسيّر أمور أخرى كثيرة في الحياة ومنها الهموم الفكرية والسياسية، وأحاول ان انتهي منها لكي افرغ لعمل كهذا.

* وكيف يقيّم المفكر العربي عزمي بشارة الذي أصبح روائيا، المشروعَ الروائي العربي؟ والى أي مدى يمكن ان تسهم الرواية الفلسطينية في تحويل الإحباط الذي تكرس في أذهان فلسطينيي الداخل وتحويله إلى خطاب ثقافي مقاوم؟

- أنا لست ناقدا أدبيا ولا حتى من كبار قراء الرواية، ولا أستطيع ان احكم على المشروع الروائي العربي وان كان لي رأي ان العرب أبدعوا في ذلك. وأنا لست متفرغا للقراءة لغرض النقد وإنما للبحث، وبرأيي ان الرواية العربية قد وصلت الى قمم لا بأس بها، رغم أنها تتراجع الآن، أما الرواية الفلسطينية فإسهامها المحدود مهم جدا. ولن أتورط في الأسماء رغم وجود من أُجِلّ وأحترم بين الأحياء والأموات.

* صحافي أردني