تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
2 مارس, 2025

مساهمة عزمي بشارة في التأسيس للدولة الديمقراطية الليبرالية نظريًا

ملخّص: هذا المقال عبارة عن قراءة في كتاب المفكّر العربي عزمي بشارة مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات، ويبيّن فيه صاحبه كيف يعيد بشارة صياغة مفهوم الدولة انطلاقًا من مجادلة نقدية لما هو متوفّر في النظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية، واستنادًا كذلك إلى ما آل إليه واقع الدولة الديمقراطية الليبرالية في عالمنا الرّاهن. وما يخلص إليه المقال هو أنّ بشارة يؤسّس لنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية نظريًا، عبر إعادة الاعتبار لمكون الدولة، بوصفه عنصرًا قائم الذات في هذا المركّب، خلافًا للنظريات الليبرالية التي تهمّش القيم الجمعوية الدولتية لفائدة القيم الفردانية.

كلمات مفتاحية: نظرية الدولة، الليبرالية، الديمقراطية، بشارة.

 

Abstract: This article presents a reading of the book of the Arab thinker Azmi Bishara, The Question of the State: Philosophy, Theory, and Contexts. It shows how Bishara, in this book, reformulates the concept of the state based on a critical debate of what is available in philosophical, social and political theories, and based on the reality of the liberal democratic state in our current world. The article concludes that Bishara founds theoretically the model of the liberal democratic state by restoring consideration to the state component as an essential element in this complex. This contrasts with liberal theories that marginalize collective state values in favor of individual values.

Keywords: Theory of the State, Liberalism, Democracy, Bishara.


مراجعة أ. د. سهيل الحبيّب

المصدر: مجلة نقد وتنوير الصادرة عن جامعة الزيتونة في تونس – العدد الثاني والعشرون (كانون الأول/ ديسمبر) 2024، ص 559-572

الرابط: https://tanwair.com/wp-content/uploads/NAQED-WA-TANWAIR-22edth-559-572.pdf

 

1. مقدمة

يبدو الجزء الأول من منجز المفكر العربي عزمي بشارة في مسألة الدّولة الموسوم بـ "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات[1]على درجة كبيرة من الشمول، من حيث مقاربته جلّ الموضوعات المتصلة بمسألة الدولة، إذ لم نقل كلّها تقريبًا، مثل: علاقة الحاكمين بالمحكومين والجهاز البيروقراطي والشرعية واحتكار العنف والسيادة والمواطنة ... إلخ. صحيح أنّ هذه الشموليّة في طرق مختلف موضوعات مسألة الدولة بدقة، واستنادًا إلى عشرات المراجع المختصّة، يمكن أن يكون مدارًا لتثمین هذا المنجز[2]، لكنّنا نجد أنفسنا مرة أخرى مجبرين على التنصيص على أنّ قصر قيمة كتابات بشارة وأهميتها على هذا المستوى (مستوى الشموليّة في الإحاطة بالموضوعات المطروقة والدقّة في ضبط مفاهيمها)[3] هو من باب إغماط قيمتها الأهم وحجب إضافاتها الأبرز؛ أي الإضافات النظرية المنهجيّة التي تمثل محصّلة تلك المقاربات الشاملة والدقيقة التي يعالج فيها بشارة نقديًا ويجادل نظريًا أهمّ الكتابات التي تناولت الموضوعات المطروقة وأشهرها.

تحاول القراءة التي نقدمها في هذه الورقة أن تجتهد في بيان المساهمة الجادة والمعتبرة التي تمثل إحدى أهم الإضافات النظرية والفكرية لكتاب مسألة الدولة، ونعنى بها المساهمة في إعادة التأسيس نظريًا لنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، أو بالأدق الدولة التي يسودها نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي، ولا شك في أنّ هذا النموذج هو السائد كونيًا اليوم، ولا جدال في أنّ شطرًا هامًا من بلدان عالمنا الراهن ينسحب عليه توصيف دولة ديمقراطية ليبرالية، وأنّ شطرًا آخر تتوق شعوبه (مثل البلدان العربية التي انتفضت شعوبها خلال العشرية الماضية) إلى أن تكون دولًا ديمقراطية ليبرالية، بيد أنّ المفارقة تتجلى في كونه لا يوجد، سواء على الصعيد الفلسفي أو على صعيد العلوم الاجتماعية، بناء نظري متماسك يمكن اعتباره مؤسسًا لهذا النموذج الدولتي رغم سيادته واقعيًا وجاذبيته عمليًا. وهذه خلاصة من أهم الخلاصات التي استفدناها من منجز بشارة والتي رأينا من المفيد أن نجعلها في صدارة عناصر هذه الورقة تقديرًا منا بأنّ ذلك ييسّر عليه متابعة منطق القراءة التي تتضمّنها.

2. تعامل نقدي مع تراثين نظريين متنافرين

من أهم ما يمكن استشفافه من النقاشات التي عقدها بشارة مع الكتابات التي تناولت مسألة الدولة في الفلسفات والعلوم الإنسانية الحديثة، هو كونه لا يوجد منجزٌ نظري يمكن اعتباره مؤسسًا لما بات يسمى في عصرنا بـ "الدولة الديمقراطية الليبرالية"، من حيث كونه مركّبًا تمثّل فيه الدولة مكوّنًا قائم الذات، بصرف النظر عن النظام السياسي الديمقراطي النافذ والتشريعات الليبرالية السائدة، وكما يلاحظ بشارة استنادًا إلى رصيد الفكر الليبرالي الحديث في مختلف مراحله، "ليس ثمّة نظرية ليبرالية في خصوص الدولة عمومًا، بما في ذلك الدولة في ظلّ الأنظمة الأخرى، وحين يعالج الإنتاج النظري الليبرالي بشأن التيارات الفكرية عمومًا، مثل التعددية والنخبوية والماركسية والجمهورانية والديمقراطية الراديكالية والأهلية وغيرها، فإنّه يقيّمها بوصفها أنظمة حكم تبرّرها أيديولوجيات متعلقة بالدولة، كما تقيّمها بموجب موقفها من الدولة الديمقراطية الليبرالية وفيها. النظرية الليبرالية في الدولة هي في الحقيقة نظرية في الدولة الليبرالية؛ وبعد أن تبنّت الديمقراطية، أصبحت نظرية في الدولة الديمقراطية الليبرالية. هذا هو أفقها، وما هو غير ذلك يُفهم بالتضاد" (ص 240).

في تقديرنا، لا يخرج الأفق الذي يتشوّف إليه بشارة في منجز مسألة الدولة، في المطاف الأخير، عن هذا الأفق ذاته (التنظير للدولة الديمقراطية الليبرالية)، غير أنّ الإضافة النظرية النوعية التي حملها هذا المنجز في طياته تتمثّل في إعادة الاعتبار لمكوّن الدولة في هذا المركّب بوصفه مكونًا بنيويًا، كثيرًا ما يقع تهميش عناصره مقابل التركيز على عناصر المكونَين الآخرَين؛ أي المكون الديمقراطي والمكون الليبرالي.

إنّ أحد أهم الإشكالات التي أضاءها منجز مسألة الدولة، حسب رأينا، هو كونه لا يوجد بناء نظري متماسك قادر على تفسير معقولية الانسجام بين مكوّنات الدولة والديمقراطية والليبرالية وإبرازها، والذي يبدو في الواقع العملي لشطر مهم من بلدان عالمنا؛ ذلك أنّ الدولة الديمقراطية الليبرالية من حيث هي دولة من جهة، ويسودها النظام السياسي الديمقراطي (تعددية سياسية، وانتخابات حرة، وتداول سلمي على السلطة ...) والقيم الليبرالية (التشريعات التي تحفظ الحريات والحقوق المدنية خاصة) من جهة ثانية، تبدو تجسيدًا عمليًا يتحدى التنافر – حتى لا نقول التعارض – الذي وسم تاريخيًّا العلاقة بين تراثَين عريقَين في التفكير السياسي الغربي الحديث: التفكير الدولتي (نفضّل استخدام هذه الصيغة في اشتقاق نعت النسبة إلى الدولة)، والتفكير الليبرالي.

يبدو لنا منجز مسألة الدولة برمّته سيرًا بين هذين التراثَين النظريَين المتنافرَين. ولم يبدِ بشارة فقط اقتدرًا فكريًا كبيرًا على الاستيعاب النقدي لهذين التراثين المتنافرين، بل أبدى كذلك - وهذا الأهم - قدرة وكفاءة نظريتين فائقتين على زحزحة كل التراث عن مواقعه المتكلّسة، ذلك أنّ جزءًا معتبرًا من التحليل النقدي الذي أخضع له بشارة الطروحات والنظريات المتداولة في شأن الدولة كان مرتكزه أنّ الواقع العملي (سيادة نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية) قد بدّد الطروحات والتصورات النظرية التي تضع فكرة الدولة ومفترضاته وقيمها في طرفٍ نقيض من الفكرة الليبرالية وقيمها، ومن نماذج هذا الضرب من النقد المتواتر في الكتاب، ما جاء في مفتتح الفصل السادس منه حين أشار بشارة إلى الدراسات السائدة التي تتحدث عن تقليدين عمليين تكرّس كل منهما في شطرٍ من دول الغرب الحديث الغرب الحديث قبل أن ينتشرا كونيًا، يقول في هذا الصدد: "ثمّة دراسات متخصصة في الفرق بين التقليد الدولني في فرنسا وألمانيا اللذين انتشر منها هذا التقليد إلى الدول الأوروبية الأخرى خلال القرن التاسع عشر من جهة، والتقاليد السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة من جهة أخرى، يشدد التقليد الدولني، عمومًا، على استقلالية السلطة العمومية وتميّزها من المجتمع وطابعها المعياري، من ضمن ذلك دورها في حفظ الأمن والنظام والأخلاق العمومية والهوية الوطنية [...] وثمّة توتر بين مفهوم الدولة هذا ومفاهيم مثل الديمقراطية التي تحوّل الفصل بين الدولة والمجتمع إلى تمايز، أو تتمفصل داخل الوحدة ذاتها، المقاربات الأداتية للحكومة، ومحاولة اختزال الدولة في أجزائها (مؤسسات الحكم)، ومفاهيم دولة الرفاه التي ترى الدولة بوصفها مجموعة وظائف فحسب، فهذه المفاهيم تشكّك في كون الدولة كيانًا واحدًا وفاعلًا، ويرتبط به خير المجتمع" (ص 212).

نقدّر أنّ ما كتبه بشارة تعليقًا على هذا الطرح النظري، الذي يميز بين التراث/ التقليد الدولتي والتراث/ التقليد الليبرالي في تجارب دول الغرب الحديث، يمثّل المدخل المناسب الذي يمكن من خلاله أن نجلّي الخيط الناظم الذي يشق كتاب مسألة الدولة من أوّله إلى آخره؛ وهو التأسيس نظريًا لنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، كما قلنا. إنّ النقد الذي يوجّهه بشارة لهذا الطرح، في حيّز يقع في منتصف متن الكتاب تقريبًا، وقد استثمر فيه ما ركّمه من نتائج في الصفحات السابقة بخصوص تعريف الدولة بمفهومها الحديث والمكوّنات البنيوية التي تميّزها (والتي سنعود إليها في قادم السطور)، ومؤدّى الفكرة الرئيسية في هذا النقد هو أنّ سيادة النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي في أيّ بلد من بلدان العالم لا يعني مطلقًا غياب الكيان الدولتي بعناصره البنيوية التي يرصدها الدارسون في تجربتَي فرنسا وألمانيا وغيرهما.

يعترض بشارة أولًا على القول بأنّ حضور مظاهر "اللبرلة" السياسية والمدنية في أيّ بلد يعني انتفاء عناصر "الدولنة"؛ أي العناصر البنيوية التي تؤلف كيان الدولة بمفهومها الحديث، ويذهب إلى أنّ ما يميز الدولة التي يسودها نظام ديمقراطي هو تجسُّد تلك العناصر مؤسساتيًا، إذ يقول: "بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم وعلاقته بالمجتمع، وفي وجود ما يسمّيه دايسون تقاليد دولة (أي دولانية) أو غيابها، فثمّة أمور ثابتة في رأيي، تنطبق على جميع حالات الدولة الحديثة، وهي وجود سيادة على الأرض والسكان داخل حدود ترابية. وتتجلّى هذه السيادة في حقها الحصري في التشريع واحتكار الممارسة الشرعية. إنّ من يمارس ذلك [في الدول الديمقراطية] هو مؤسسات بذاتها، وليس كيانًا ميتافيزيقيًا اسمه الدولة، ولكن القدرة على تخيّل إطار جامع بين الحاكمين والمحكومين هي التي تمكّن من نسب السيادة والشرعية إلى هذه المؤسسات، ونسب المواطنة إلى المحكومين. وغالبًا ما يُسقط هذا الجامع المتخيّل على التاريخ بأثر رجعي" (ص 212-213).

ينصّص بشارة على أنّه "ثمّة تقارب مستمر، وتقليص للفجوة بين الدول ذات التقاليد الدولانية وتلك التي تفتقر إليها" (ص 213)، وعمدته في ذلك أنّ مظاهر الديمقراطية الليبرالية لا تنفي مظاهر الوحدة الكيانية للدولة، بل بالعكس، هي تعزّزها، فهو يتحدّث عن المجتمعات الغربية التي "تتميّز بقوّة التعددية والتمثيلية، وتقاليد الحوار والمحاجّة في الثقافة السياسية، ونظرة أداتية للحكم، ومفهوم براغماتيّ للسياسة، وتحليل اقتصاديّ لها، وتشديد على دور النخب، مقارنة للمؤسسات التنفيذية تأخذ في الاعتبار شخوص الحاكمين. وفي هذه الدول تمارس الطقوس التي تؤكّد الاستمرارية التاريخية لكيان الدولة، وأيضًا على العادات المتوارثة في تنظيم الحياة السياسية [...]. هذه كلّها في النهاية تؤدي، في رأيي، دور تأكيد الكيانية الواحدة، سواء أكان ذلك في التقاليد الدولانية أم في التقاليد الليبرالية" (ص 213).

إنّ ما يخلص إليه بشارة، في محصّلة هذا النقاش لهذا الضرب من الدراسات، يفيد أنّ ما تكرّس عمليًا وواقعيًا في الزمن الراهن لا يطابق ما هو متصوّر في المقاربات النظرية. وعلى وجه الدقّة، إنّ سيادة الديمقراطية الليبرالية، بكلّ مفترضاتها وقيمها التي تنصّص على علوية منزلة الفرد وحقوقه في أيّ بلد من البلدان، لا يعني انتفاء لما يفرضه كيان الدولة من قيم ومعايير جماعية، مثل: الشعور الهويّاتي الجماعي، وتغليب المصلحة العامة، وغير ذلك. ويذهب بشارة إلى أبعد من هذا؛ إذ يعتبر أنّ الديمقراطية الليبرالية الراهنة هي حصيلة صيرورة تفاعل بين التيارات التي تجادلت وتنافرت نظريًا، ويقول: "لقد تفاعلت تيارات عديدة جمهورية وديمقراطية وليبرالية وتعدّدية وجماعتية واشتراكية، حتى نتجت التركيبة الديمقراطية الليبرالية الحالية" (ص 214).

 

3. بين كون الدولة الديمقراطية الليبرالية واقعًا قائمًا وكونها طموحًا منشودًا: الحاجة الراهنة إلى التنظير

لكن ما الحاجة إلى التنظير للدولة الديمقراطية الليبرالية راهنًا؟ هذا السؤال يبدو وجيهًا في ظلّ القول بأنّ هذا النموذج "الدولتي" قد تكرّس على أرض الواقع في شطر مهم من عالمنا الحالي، متجاوزًا بشكلٍ عملي التنافر النظري بين منطق التفكير الدولتي والجماعاتي بصورةٍ عامة من جهة، ومنطق التفكير الليبرالي والحقوقي الفرداني بصورة عامة من جهة أخرى. لا نعدم، إجابةً عن مثل هذا السؤال، حججًا من جنس الحجج العامة التي تتوفّر على معقولية لا خلاف حولها، من قبيل القول إنّه من الطبيعي جدًا أن تواكب الأعمال النظرية، سواء الفلسفية أو العلمية الإنسانية، تطور الوقائع المُعاينة إمبريقيًّا في معاش المجتمعات الإنسانية، بمعنى آخر، توجد محفّزات موضوعية حقيقية ومشروعية كاملة، من وجهة المنطق العامّ الذي يحكم التفكير الفلسفي والعلوم الإنسانية والاجتماعية، لأن يظهر إسهام نظري اليوم في موضوع الدولة الليبرالية الديمقراطية من جنس الذي أنجزه بشارة في هذا الكتاب.

نحن نرى أنّ محفّزات منجز في مسألة الدولة، والحاجة الموضوعية التي استدعت كتابته في هذا الظرف بالذات، تتجاوز هذه التعليلات العامة على كمال مشروعيتها؛ ذلك أنّ الاستقرار المعتبَر الذي يشهده نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية في شطر هامّ من بلدان عالمنا المعاصر (خلُوّه من الأزمات والهزّات العنيفة مقارنة بالبلدان التي لم يستقرّ فيها هذا النموذج) ليس هو الذي جعل بشارة يفكّر في هذا النموذج، ويتشوّف إلى ما هو أبعد من المقاربات والمُستلخصات المتوفّرة في المنجز الفلسفي والعلمي الإنساني الغربي المعاصر. المحفّز الرئيس لمنجز بشارة، هو بالتحديد انتكاس طموح تسويد الدولة الديمقراطية الليبرالية في البلدان العربية، وخاصة منها تلك التي انتفضت شعوبُها في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، تشوّفًا لهذا النموذج (رقّعت مطالب تجسيداته العينية، مثل: الحرية، والكرامة، والديمقراطية ...).

غير خافٍ أنّ بشارة، المفكّر الذي عايش مخاضات الثورات والانتفاضات العربية من موقع الالتزام بمشروع الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة المواطنية (الدولة الديمقراطية الليبرالية) عربيًا، يعتبر أنّ هذه المخاضات بمثابة "المختبر الكبير" الذي يتيح من الحقائق والمعطيات الإمبريقية ما يمكّن من مراجعة الكثير من النظريات الاجتماعية والسياسية. وينخرط منجز مسألة الدولة، من حيث مخرجاته المضامينية، في هذا السياق حسب تقديرنا، أمّا من حيث المنهج، فإنّ هذا المنجز يمثّل متابعة للخيار الصعب الذي توخّاه بشارة في مشروعه الفكريّ برمّته، والذي يقوم على رفض مقولة "الخصوصية الحضارية" الماهوية الثابتة باعتبارها مقولة تفسيرية للمآلات المأساوية التي شهدتها وتشهدها الطموحات التغييرية في المجتمعات العربية المعاصرة، واعتبار أنّ المدخل إلى تفسير هذه المآلات هو فهم الخصوصيات التاريخية باعتبارها خصوصيات سياقية متغيّرة حفّت بمسارات التحديث والعَلمنة التي شهدتها المنطقة الغربية.

يقارب بشارة ما يسمّيه المسألة العربية، باعتبارها خاصًا ضمن العامّ الكوني، ويطرح أفق حلّها في نطاق مكاسب الحداثة وما بات مشتركًا بين شعوب المعمورة على اختلاف أصولها الحضارية والثقافية، ويتمثّل أصل هذه المسألة حسب رأيه في أنّه: لا القومية العربية قد نجحت في تجسيم مشروعها السياسي المتمثّل في دولة الوحدة، ولا الدول العربية القطرية القائمة نجحت في نيل مشروعية لدى الشعوب التي تحكمها. ليست المسألة العربية بهذا المعنى عنوان خصوصية جوهرانية؛ فهي من جنس قضايا جميع المجتمعات البشرية في العصر الحديث (علاقة الدولة والأمة السياسية بالقومية)، كما أنّ تعقيدات هذه المسألة لا تعود إلى أسباب هوياتية ميتا-تاريخية (غالبًا ما يتمّ ربطها بالإسلام باعتباره دين الغالبية العظمى من العرب)، بل إلى نتاج عوامل موضوعية طارئة حفّت بسياقات التحديث في المنطقة العربية وفي مقدّمتها الظاهرة الاستعمارية. ومن ثَمّة، فإنّ حلّ المسألة العربية في نظر بشارة هو من جنس ما هو "متاح للبشرية جمعاء" (والعبارة للمفكّر عبد الله العروي)، ويتجسّم في تحوّل الدول العربية القائمة إلى دول ديمقراطية ليبرالية؛ وهو ما يتيح إمكانية قيام اتحاد فيدرالي عربي بعد ذلك.

نعتقد أنّ استحضار معالم هذا المشروع الفكري لعزمي بشارة، هو المدخل إلى استكناه الدوافع الموضوعية الحقيقية لمسعاه في إعادة التأسيس نظريًا لنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية المكرّس في عالمنا الراهن، وعدم الاكتفاء بالمنجز النظري المتاح في الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية المعاصرة، وفي مقدّمته منجز الفكر الليبرالي بمختلف توجّهاته وفي مختلف مراحل تطوره. إذ نرى أنّ الانخراط في سياق، تمثّل فيه الدولة الديمقراطية الليبرالية طموحًا منشودًا لا واقعًا قائمًا، كان حاسمًا في حضور الروح النقدية العالية التي وسمت كتاب مسألة الدولة تجاه ما هو متوافر في المنجز الغربي المعاصر. وبالمثل إنّ الحقائق التي أفرزتها تجارب الانتقال الديمقراطي الفاشلة في البلدان العربية كانت حاسمة، في كشف مظاهر القصور في النظريات المتداولة حول الدولة، وأساسًا النظرية الليبرالية التي تبدو اليوم كأنّها هي التي انتصرت بسيادة نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية.

يشير بشارة في بعض مواضع الكتاب إلى ارتباط المنجز النظري المتاح بالسياق المخصوص للدول الغربية المعاصر التي رسخ فيها نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية واستقرّ، وإلى أنّه لا يمكن سحب الجدالات النظرية ومخرجاتها التي يفرزها هذا السياق على الواقع العربي، حيث ما يزال هذا النموذج مجرّد طموح غير متحقق، دون أن ينفي إمكانية الاستفادة منها، ويقول مثلًا: "جرى إحياء الفلسفة السياسية في عصرنا في سياق الحوارات بشأن المؤسسات والسياسات الأكثر تلاؤمًا مع القيم المشتركة (الحرية والمساواة) في الدولة الديمقراطية، وينسى ذلك كثيرون من المثقفين والباحثين العرب الذين يدأبون على إعادة إنتاج حوارات الليبراليين والجماعاتيين (Communitarians) الآتية من سياق آخر هو سياق الدولة الديمقراطية الليبرالية الراسخة وإسقاطها على الدول والمجتمعات العربية، في حين أنّ مهمات أخرى تنتظر الفلسفة في البلدان السلطوية متعلقة بنقد الدولة والمجتمع ونظام الحكم، ولا شك في أنّه يمكن الكثير من تلك الحوارات، شرط ألاّ ننسى السياق" (ص 64).

في مواضع عديدة من كتاب "مسألة الدولة" نستجلي أهمية سياق، مثل السياق العربي المعاصر، في استكشاف إشكالات لا يمكن أن تظهر معالمها في سياق تكون فيه الدولة الديمقراطية الليبرالية قائمة وراسخة، كما نستجلي في الوقت ذاته أهمية تخصيص هذه الإشكالات، باعتباره مثّل المقدّمات الضرورية للمراجعات والإضافات النظرية التي جاء بها هذا المنجز، يقول بشارة: "من الأمور المترتبة على التسليم بأنّ الدولة يُفترض أن تمثّل الصالح العام وخير المواطنين، وأنّ هذا في صلب مفهومها، [و] أنّه لا مبرّر لمكوّنات تعريفها، مثل احتكار العنف الشرعيّ والسيادة على إقليم وسكان والتشريع لهما، إن لم يكن فيه هذا كلّه خير للناس، لكن يمكن أن يتحوّل ادّعاء تمثّل الصالح أو الخير العام إلى حجّة لممارسة سياسات تتناقض مع وظيفة الدولة، فغالبية الاعتداء على الحريات تبرّر بالصالح العام" (ص 82).

يرصد بشارة في هذا القول صورة فكرة الصالح العام، وهي عمدة الفكر الدولتي الجماعاتي، وقد استحالت إلى غطاء للحكم الاستبدادي الذي لا يخدم فعليًا إلا مصلحة الحاكم الفرد وفئة زبانيّته، وهي بلا شك صورة عينية من واقع الدول العربية المعاصرة والراهنة (وغيرها مما يُعرف بـ "دول الجنوب") التي يسودها الحكم الفردي السلطوي القاهر. لو اقتصر بشارة على رصد هذه الصورة فقط لوجد نفسه، مثل غيره من المثقفين الناقدين للاستبداد السياسي، يعيد إنتاج الحلّ الليبرالي بعد أن استوعب الفكرة الديمقراطية: البديل من الحكم الاستبدادي الفردي هو تسويد نظام سياسي يؤمّن الحقوق والحريات (الليبرالية) والتعدّدية المدنية والسياسية ويوفّر شروط التنافس والتداول السلميَّين على السلطة. ولكن بشارة لا يكتفي بهذه الصورة، بل يردفها بصورة أخرى متابعًا القول السابق: "لكن من ناحية أخرى لا يترك غياب اعتبارات الصالح العام والتسليم بأنّ التفاعل الحرّ بين الأفراد والقوى الاجتماعية ينتج هذا الصالح العام، مجالًا لفعل الدولة، فلا بدّ من وجود تصوّر عنه لدى القوى التي تسيطر على أجهزة الدولة، والأخيرة قائمة أصلًا لأنّ لذلك مصلحة المجتمع، وهذا مصدر الإجماع عليها" (ص 82-83).

في هذه الصورة الثانية، يتحدث بشارة عن أنّ مبدأ الصالح العام في سياسة الدولة يمكن أن يغيب حتى في ظلّ سيادة الحريات والديمقراطية؛ وهو ما يعني أنّه مبدأ قائم بذاته وكامن في فكرة الدولة بمعناها الحديث، ولا يتولّد تلقائيًا عن تفاعل الذواتات الحرّة كما يخال الليبراليون. وفي تقديرنا، رغم أنّ بشارة لم يشر إلى ذلك، فإنّ التجارب الديمقراطية العربية المجهضة في العشرية الثانية من هذا القرن تمثّل أفصح مثال عينيّ على هذا الإمكان؛ إذ أفسح مناخ الحريات والتعددية والانتخابات الحرّة والنزيهة المجال لأن يلتبس العمل السياسي (من موقع السلطة كما من موقع المعارضة) بجميع أشكال المصالح الأنانية الفردية والفئوية والعشائرية والطائفية المذهبية والمناطقية (نسبة إلى مناطق مخصوصة في الدولة) ... إلخ، والتي عصفت بالفعل بكيانات الدولة وأضعفت وحدتها.

إنّ التفكير داخل سياق مثل السياق العربي المعاصر والراهن يحفز فعلًا على إعادة التمثّل النظري لنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، خاصة بعد أن أثبتت تجارب الانتقال الديمقراطي العربية الفاشلة أنّ المكوّنين الديمقراطي والليبرالي لا يصنعان وحدهما هذا النموذج. من هنا جاء عمل بشارة في كتاب مسألة الدولة، كما يبدو لنا، بوصفه إسهامًا نظريًا في هذا السياق، مرتكزًا بالأساس على إعادة الاعتبار لمكوّن الدولة في هذا النموذج؛ فإحدى أهم نتائج الكتاب، إذا لم نقل أهمّها بحسب قراءتنا، يترجمها قوله في الفصل العاشر بأنّه: "يبقى تصوّر وجود كيان سياسي متجاوز لنظام الحكم مسألة مهمّة. وقد اكتسب في الحداثة قدرًا من التركيب، يجعل التصوّر أقل افتعالًا من الماضي، أي بما يتجاوز التجريد المرتبط غالبًا بالأيديولوجيا الدولتية" (ص 373–374).

 

4. الدولة الحديثة بين التمايز والتطور: دينامية المفاهيم التي أحدثت الدولة الديمقراطية الليبرالية

كتاب بشارة هو في مفهوم الدولة أو بالأحرى في إعادة بناء هذا المفهوم، والشطر الأوفر منه ينسحب عليه هذا التوصيف؛ لأنّه يمثّل تناولًا لمختلف للعناصر البنيوية التي لا يمكن من دونها الحديث عن دولة بالمعنى الكامل والدقيق. يقف قارئ الكتاب عند أحياز واسعة منه يعالج فيها بشارة مسائل: الكيان الجامع للحاكم والمحكومين، والسيطرة على رقعة ترابية محدّدة ومركزة للسلطة بها، وإنشاء الجهاز البيروقراطي ووظائفه، وتجسيد الإرادة العامّة، واحتكار التشريع والعنف، والسيادة، والشرعية والمشروعية والمواطنة، وجميع هذه الموضوعات متداولة في الكتابات التي تناولت مسألة الدولة سواء منها ذات الطابع الفلسفي أو تلك التي تندرج في علوم الاجتماع أو السياسة أو القانون.

لن نتناول في هذه الورقة آراء بشارة التفصيلية في هذه الموضوعات، لأنها متاحة وظاهرة لكل قارئ عادي للكتاب، وسنتوقف هنا: أولًا، عند خيار منهجي إجرائي لفت نظرنا في معالجة بشارة لمختلف هذه الموضوعات، وإيضاح هذا الخيار المنهجي، هو الذي سيكون المدخل إلى المادة المضامينية التي نريد التركيز عليها في هذا الحيّز، والتي من خلالها نريد الاستدلال على الفكرة الرئيسة في هذه الورقة، ومفادها أنّ بشارة يعيد بناء مفهوم الدولة الديمقراطية الليبرالية نظريًّا عبر إعادة الاعتبار لمكوّن الدولة في هذا المركب الذي تهمّشه النظريات الليبرالية.

ما شدّ انتباهنا في الكتاب، هو أنّ بشارة اشتغل منهجيًا في العموم، وبشكلٍ متداخل، على محورين كبيرين، وهو يعالج هذه الموضوعات التي تمثّل المقومات البنيوية للدولة بمفهومها الحديث: المحور الأوّل، هو تحليل كيف أنّ هذه المقومات هي عناصر بنيوية تمفصلت بموجبها الدولة الحديثة، وتمايزت عن كل أشكال الكيانات السياسية التي شهدها التاريخ البشري في العصور ما قبل الحديثة، أمّا المحور الثاني، فيتعلّق بتحليل هذه العناصر، باعتبار أنّ دلالاتها ومفاهيمها قد خضعت لتطورات معتبرة، بل وحاسمة، في نطاق تطور واقع الدول ووظائفها ونظرة الناس إليها في الحداثة.

لن نتوقف طويلًا هنا عند المحور الأول، وسنكتفي بحديث بشارة المكثّف في الصفحات الأولى من الكتاب عن هذه العناصر، باعتبارها ناشئة في إطار الكيانات السياسية الوليدة مع بدايات الأزمنة الحديثة في أوروبا، ومن ثمّ في تمثّل العناصر البنيوية التي بها تمفصلت الدولة من حيث هي ظاهرة حديثة وتمايزت عن كلّ أشكال الكيانات السياسية التي عرفها التاريخ البشري قبل ذلك، وهو يتحدّث منذ البداية عن "كيان يشمل الحاكمين والمحكومين، أو ينتمي إليه الحاكمون والمحكومون. إنّ نشوء هذا المشترك هو من مقدّمات الدولة الحديثة، فلم يكن ثمّة مشترك مؤسّسي أو متخيّل يجمع الحكام والمحكومين في الدول ما قبل الحديثة" (ص 13-14)، كما يشير بشارة في السياق ذاته إلى "نشوء فئة القانونيين والمستشارين السياسيين، أي نواة بيروقراطية الدولة، ثمّ بدايات تمايز البيروقراطية في مؤسسات متخصصة" (ص 14).

من منظور بشارة، عرف هذا السياق نشأة جميع العناصر التي باتت النظريات والدراسات الاجتماعية والسياسية والقانونية تقدّمها، باعتبارها مقومات للدولة وعناصر تُعتمد في تعريفها، إذ يقول: "نشأ هذا الكيان الإقليمي الذي يشمل مؤسسات وحاكمين ومحكومين تدريجيًا، وهو كيان له حدود إقليمية، تمارس داخلها السلطة على سكّان الإقليم، وتُمركز التشريع واستخدام العنف فيه في أيدي سلطة مركزية، وتميّز بذلك الشرعي منه من غير الشرعيّ، إذ وصلت مركزة السلطة إلى حدّ احتكار وسائل العنف" (ص 14).

عند الحديث عن هذه العناصر مفصّلةً، يخصّص بشارة شطرًا من تحليلاته لإبراز طابعها، من حيث هي مقوّمات للدولة الحديثة دون سواها، ومؤدّى هذه التحليلات فكرة من أهم الأفكار الأساسية في هذا الكتاب، يكثّفها قوله: "إنّ مفهوم الدولة الذي نتحدث عنه ليس مفهومًا للدولة عبر التاريخ، بل هو مفهوم للدولة الحديثة، وإذا كان بعض عناصره قائمًا في الماضي فإنّه يعيد صوغ هذه العناصر ويُخضعها لجوهر الدولة الحديثة" (ص 112)[4].

تحليلات بشارة في هذا المعنى ذات أهمية لا تخفى، خاصة بالنسبة إلى الفكر العربي المهووس منذ عقود، تحت ضغط الهاجس الهويّاتي، بإيجاد مرادفات وأشباه ونظائر للظواهر الحديثة في "تراث الأمة"، غير أنّ التحليلات التي اتصلت بالمحور الثاني تبدو لنا أكثر أهمية، على الأقل من زاوية القراءة التي تقدمها هذه الورقة، ونعني بها محور الاشتغال على تحولات فهم عناصر الدولة الحديثة ومقوماتها وتطور دلالاتها في الفكر السياسي المعاصر والراهن. وينصّص بشارة منذ بداية الكتاب على أنّ العناصر التي يقع تناولها، باعتبارها مقومات للدولة، لا يمكن قراءتها فحسب من جهة بعدها التمييزي للدولة الحديثة عن الكيانات السياسية القديمة والوسيطة، بل تُقرأ كذلك من زاوية بعدها التمييزي بين أصناف مختلفة في نطاق الدولة الحديثة ذاتها، يقول في هذا السياق: "سواء احتجنا إلى مصطلح السيادة أم لا، فإنّ الدولة الحديثة قائمة في هذه الحالات جميعها، وفيها كلّها سلطة تشريعية تشرّع القوانين وجهاز بيروقراطي ومؤسسة تحتكر العنف، لكنّ ممارسة السلطة وكيفية توزيع السلطات فيها تختلف من مكان إلى آخر" (ص 58).

توصيف بشارة لهذا الاختلاف في نطاق الدولة الحديث، باعتباره واقعًا بين مكان وآخر (بين دولة وأخرى)، هو في واقع الأمر توصيف أوليّ؛ بالنظر إلى واقع الدول في عالمنا الراهن التي تختلف فيها السلط الحاكمة بين استبدادية قمعية وديمقراطية تحترم الحقوق والحريات، فمع تقدّمه في تحليل مدلولات هذه العناصر التي تشكّل مقومات الدولة الحديثة، سنكتشف أنّ هذا الاختلاف هو نتاج لتطور شهدته هذه المدلولات نظريًا وعمليًا في نطاق شطر من الدول المعاصرة، تلك التي توسم بالديمقراطية الليبرالية، في حين أنّ شطرًا آخر منها بقي دون هذا التطور، خاصة من الناحية العملية التطبيقية. يتعلق الأمر، على وجه الخصوص، بتطورات دلالية في مفهوم السيادة وفي مفاهيم أخرى تتداخل معه وتطورت بتطوره، وأهمها: الشرعية واحتكار العنف والتشريع، يقول بشارة: "لقد ارتبطت السيادة بحقّ التشريع، وهو ربط منطقي [...] فالتشريع وسريانه على إقليم وسكّان هو أهم ما يميز السيادة، وسلطة التشريع المستقلة ذات السيادة هي نتاج فصل بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية" (ص 265). بيد أنّ هذه السيادة المتجسدة في حق التشريع باتت تُنسب إلى الشعوب في الدول المعاصرة، لا إلى حكام أفراد أو سلالات نسبية أو فئات معيّنة (دينية، طبقية ...).

يدل تطور مفهوم السيادة في الفكر السياسي المعاصر حصريًا على معنى سيادة الشعب، وهذا يعني، حسب تحليلات بشارة، أنّه غير قابل للتجسّد عمليًا إلّا في إطار النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي؛ إذ "تبقى سيادة الشعب (مثل حكم الشعب) مفهومًا ميتافيزيقيًا إذا لم تترجم من خلال مؤسسات منتخبة تعبّر نسبيًا، للغاية، عن إرادة الغالبية، لذلك فالأهمّ هو أن تتوفر على إمكانية محاسبة المؤسسات التمثيلية دوريًا، وتوفّر الحريات اللازمة لتكون هذه الممارسات ممكنة" (ص 281).

وتما‍مًا مثل مفهوم السيادة، تبين تحليلات بشارة كذلك كيف "تطور مفهوم الشرعية (غير المشتق من مجرد الطاعة) بموازاة نشوء آليات السلطة التي تتيح احتكار العنف" (ص 113)، وينصّص بالمثل على أنّ الشكل المتطور لمفهوم الشرعية لا يكمن أن يجد تجسّده العملي في غير إطار الدولة الديمقراطية الليبرالية، إذ يقول: "صحيح أنّ الحكام في الدولة الحديثة قد يستندون إلى شرعية تقليدية وشرعية كارزمية (بلغة فيبر)، لكن النمط المبدئي في الدولة الحديثة هو الشرعية القانونية حيث تصاغ الصلاحيات بممارسة السلطة صياغة قانونية عامة بدساتير وقوانين تلزم المواطنين والسلطات، لكن في الحقيقة الإطار الوحيد الذي يكون فيه القانون ملزمًا فعلًا للسلطات هو النظام الديمقراطي الليبرالي" (ص 114).

ما حدث في العصر الراهن، في منظور بشارة، هو تطور مفاهيم السيادة واحتكار التشريع والشرعية واحتكار العنف في إطار الدولة الديمقراطية الليبرالية، بحيث "أصبح ممكنًا إطلاق الأحكام بعدم شرعية العنف الذي تمارسه سلطة دولة ما، مع أنّها تحتكره، بحكم تعريف الدولة، وتمارسه بموجب قوانينها، فقد تعتبر القوانين نفسها غير عادلة وتخدم أهدافًا غير شرعية بموجب قيم جديدة بدأت تنتشر في المجتمع وتحقق هيمنة" (ص 329).

على هذا النحو، حاولت تحليلات بشارة أن تثبت أن سيادة النظام الديمقراطي الليبرالي في الدول المعاصرة لا يعني أنّ القيم الديمقراطية الليبرالية نفت العناصر الدولتية وقيمها، أو أخذت مساحات أكبر على حسابها وتغلبت عليها، بل يعني أنّ تطورًا شهدته مفاهيم هذه العناصر ومدلولاتها بشكلٍ أصبحت معه منسجمة مع القيم الديمقراطية والليبرالية أو أصبحت هذه القيم قابلة للتطبيق في إطار دولة لا تعوزها مقومات السيادة والشرعية والمركزة واحتكار العنف والتشريع، ويشكّل بيان هذه الديناميكية التي شهدتها المفاهيم المتعلقة بمقومات الدولة الحديثة شطرًا من إضافات بشارة النظرية، التي تعيد الاعتبار لمكوّن الدولة في مركّب الدولة الديمقراطية الليبرالية. أمّا الشطر الآخر من هذه الإضافات - وهو الأهم في تقديرنا - فيتمثل في إعادة تعريف الدولة بالمواطنة؛ بمعنى إدراجها ضمن العناصر البنيوية التي تقوم عليها الدولة الحديثة.

 

5. المواطنة مقومًا للدولة المعاصرة أو الإمكانات التكثيفية والتجسيرية الواسعة لمفهوم المواطنة عند بشارة

دأب بشارة في كتاباته السابقة على تفضيل استخدام تعبير الدولة المواطنية، لتعيين النموذج الدولتي الواجب تسويده في الدول العربية القائمة، وهو يعتبر بوضوح أنّ من بين أهم عناصر حل المسألة العربية هو أن تكون المواطنة قاعدة لشرعية الدولة بدلًا من القومية، سواء في الدول العربية القطرية القائمة أو في أيّ كيان فدرالي يمكن أن يقوم بينها تجسيدًا للوحدة العربية، ويبدو لنا أنّ كتاب مسألة الدولة قد مثّل مناسبة لبشارة ليؤسّس نظريًا لخلفيات هذا الحلّ العملي، ضمن سياق مفاهيمي عام ومجرّد (أي غير مشخّص في الحالة العربية فقط)، يتعلّق بمقومات الدولة الحديثة وتطورها.

نكتشف بوضوح، مع ظهور منجز مسألة الدولة، أنّ حلّ المسألة العربية الذي يقترحه بشارة مشتق من تصوّر نظري حول طبيعة الدولة المعاصرة التي باتت تسود شطرًا هامًا من بلدان عالمنا الراهن وتتشوّف إليها بقية شعوب العالم المحرومة منها، ومنها الشعوب العربية؛ ذلك أنّ إحدى أهم الاستنتاجات التي يخلص إليها بشارة في آخر الكتاب قوله: "مع أنّ دور القومية التاريخي قد يكون حاسمًا في نشوء الدول، في مرحلة قوتها وضعفها، فإنّ المواطنة مكوّن ضروري من مكوّنات الدولة المعاصرة" (ص 399).

مكّن تحليل التطور التاريخي لمفاهيم العناصر التي تقوم عليها الدولة الحديثة، واستخلاص المدلولات التي باتت تحملها في الفكر المعاصر، بشارة من استخلاص ما مفاده أنّ الروابط القومية والأيديولوجيات القومية لم يعد بمقدورها اليوم لعب الدور عينه الذي لعبته تاريخيًا في قيام الدول وتماسكها، فمثل هذا الدور باتت تنهض به المواطنة والقيم المواطنية في الدول التي يسود فيها النظام السياسي الديمقراطي وتُحترم الحريات والحقوق؛ لذلك، فإنّ ما يعنيه بالدولة المواطنية هو الدولة الديمقراطية الليبرالية في المعنى المستخدم في هذه الورقة.

نُقدّر أنّ الاشتغال النظري الذي أنجزه بشارة عن مفهوم المواطنة هو من أهم مواضع القوة والإضافة في كتاب مسألة الدولة، ومؤدّى تحليلاته في هذا المستوى هو أنّ المواطنة ليست عنصرًا من عناصر الدولة أو مقومًا من مقوماتها فقط، بل هي العنصر والمقوم الذي تتمّيز به الدولة المعاصرة (الدولة الديمقراطية الليبرالية) في نطاق الدولة الحديثة بصورة عامة، وهو يؤكد بوضوح: "أنّ سكّان الدولة المعاصرة ليسوا موضوع سيادة فحسب، ولا جماعة سيادة تسمّى أمة فحسب، بل هم مواطنون" (ص 351).

يبني بشارة مفهوم المواطنة بشكلٍ يجعله مكثفًا للتطورات التي شهدتها الدولة في الحداثة، والتي أوصلت لصيغة الدولة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، ويجعل مفهوم المواطنة يتشابك بشكلٍ صميمي مع مدلولات مقومات الدولة الحديثة التي تتوافق مع الديمقراطية والحقوق والحريات، وأهمها: مدلول مقوم السيادة، وهو يستخلص أنّه "إذا كانت السيادة في الدولة الحديثة تتحدث بلغة القانون، أي تتحول إلى سيادة القانون، كما بيّنا في الفصل السابع من هذا الكتاب، وإذا كانت مشروطة بوجود شعب ومشتركات بينه وبين المؤسسات الحاكمة، وليست مجرّد رعية تخضع لأوامر، فالعلاقة المركّبة حقوق وواجبات هي من هذا المشترك؛ إنّها المواطنة، ولا دولة حديثة بدون مواطنة" (ص 342).

حين يتألف شعب الدولة من أفراد يملكون جميعهم صفة المواطنة المتساوية، فإنّ السيادة فيها لا يمكن أن تكون إلّا سيادة قوانين تسنّها المؤسسات التي تمثل عموم الشعب تمثيلًا ديمقراطيًا. وفي هذا المستوى يتشابك مفهوم المواطنة مع مفهوم الديمقراطية تشابكًا صميميًا أيضًا حسب تحليلات بشارة التي تقرّ بأن "حقوق المشاركة السياسية هي حصرًا ما يمنح المواطن وضعًا قانونيًا يستمدّ مشروعيته من مرجعيته الذاتية، في حين أنّ الحريات يمكن أن تمنحها سلطة ليبرالية غير ديمقراطية لجميع السكان بمن فيهم من لا يتمتعون بحق الاقتراع، والحقوق الاجتماعية يمكن أن تمنحها سلطة مستبدة، وقد تشكّل دولة الرفاه والقانون من دون الحاجة إلى الديمقراطية، أي قبل الحقوق السياسية، لكن في الدول الغربية الديمقراطية المتقدمة، أُضفي إلى هذه الحقوق طابع مؤسسي" (ص 262).

لا يكثّف مفهوم المواطنة، كما يصوغه بشارة، شطرًا معتبرًا من العناصر المضمّنة في الفكرة الدولتية الحديثة والأخرى المضمّنة في الفكرة الديمقراطية الليبرالية فحسب، بل هو يجسّر ما يبدو من هوة بين عناصر الفكرتين، نعني بذلك العناصر التي تعلي من قيم الجماعة ومصلحة الوطن والمنافع العمومية التي تقوم عليها فكرة الدولة الحديثة من جهة، والعناصر التي تقدّس الحقوق والحريات الفردية وأولها حق المشاركة في تدبير الشأن العام، وهي جوهر التوليفة الديمقراطية الليبرالية من جهة ثانية؛ ذلك أنّ البناء المفهومي للمواطنة عند بشارة ينتهي إلى الأفق التالي، فيقول: "في الديمقراطية الليبرالية تبلغ المواطنة النضج، وفيها تتوفر الإمكانية على الأقل لتحقيق المفهوم، لا لناحية الحقوق والواجبات التي تتألف منها فحسب، بل لناحية وعي المواطن بالمسؤولية الكامنة في العضوية في الدولة تجاه الصالح العام والمجال العمومي" (ص 351).

لا يقضم مفهوم المواطنة عند بشارة أيًا من الحقوق والحريات التي يمكن أن يتحمس لها أي ديمقراطي ليبرالي يعيش في ظلّ نظام سياسي استبدادي، فقط هو لا يقدمها باعتبارها حقوقًا وحريات للإنسان الفرد في مطلق الأحوال (طبيعية فطرية على شاكلة متخيّل بعض فلاسفة العقد الاجتماعي)، بل هي حقوق وحريات للفرد من حيث هو عضو في دولة حديثة بعينها، لها إقليم محدد وسيادة وتشريعات موحدة وأجهزة تحتكر العنف ... إلخ. بهذا المعنى نرى أنّ مفهوم المواطنة، كما يصوغه بشارة، يكثّف العناصر الدولتية والديمقراطية والليبرالية معًا ويجسّر ما يبدو بينها من هوّة، فيكون بذلك مفهوم المواطنة حلقة من حلقات إعادة الاعتبار لمكوّن الدولة في مركّب الدولة الديمقراطية الليبرالية في هذا الكتاب، بل يبدو لنا الحلقة الأهم.

6. خاتمة

كتاب مسألة الدولة منجز في التنظير للدولة الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، خارج المتاح في أدبيات الفكر الليبرالي، وإضافات بشارة النظرية التي لا لبس فيها، حسب تقديرنا، تكمن في إبراز مكوّن الدولة وإعادة الاعتبار له بوصفه عنصرًا قائم الذات في هذا المركّب، لا يمكن إلحاقه بمضامين القيم الديمقراطية والليبرالية ومقتضياتها. موضوعيًا، لا يمكن لعمل نظري من هذا الجنس أن يصدر عن أعمال فلسفية أو علمية إنسانية تشتغل على واقع الدول الغربية المعاصرة وتستوحي إشكالاتها منه فقط، فكما يقول بشارة: "يصبح تمييز نظام الحكم من الدولة في الحالة الديمقراطية الليبرالية الراسخة متعذرًا، ليس لأنّه لا يختلف عنها مفهوميًا، فمقومات استمرار الدولة [...] قائمة، بل لأنّ التمايزات بين الدولة ونظام الحكم انتقلت إلى نظام الحكم نفسه" (ص287).

وحدها تجارب مثل تلك التي عاشتها بلدان عربية خلال العشرية الثانية من هذا القرن (بلدان "الربيع العربي") يمكن أن تحثّ على إعادة التفكير في نموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية، من زاوية استكشاف أهمية العنصر الدولتي فيه وإبرازه؛ وهو ما أنجزه بشارة في هذا الكتاب بقدرات تحليلية ونقدية وتنظيرية فائقة في تقديرنا. صحيح أنّ بشارة لا يشير إلّا لمامًا لهذه التجارب، لكن آثارها ماثلة بوضوح في رأينا، خاصة حين يرتّب ما يشبه "التوصيات العملية" على مستخلصاته النظرية في مثل قوله: "يُفترض أن يشدّد الديمقراطي الليبرالي الحريص على تحديد سلطة الدولة ولجم ميلها إلى التجاوز على حقوق الفرد، على شرط الدولة المستقرة، إذ إنّ الدولة المستقرة شرط للتعددية السياسية والحريات المدنية والتنافس الديمقراطي، فضلًا عن أنّ التغيّر الذي يزعزع كيان الدولة لا يقود إلى تعددية ديمقراطية في الدولة بل إلى كيانات متعددة، إنّه لا يقود إلى الحريات بل إلى الفوضى التي تهدّد الحريات" (ص380).

 

الهوامش: 

[1] عزمي بشارة، مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023). وسنكتفي في هذه الورقة بإيراد كل شاهد من هذا الكتاب بتعيين صفحته بين قوسين في المتن.

[2] أنظر مثلًا قول خالد زيادة: "ويمكن أن نعتبر مسألة الدولة كتابًا يملأ الفراغ في الدراسات المتعلقة بالدولة نفسها. وبسبب كثافته، تجدر الاستفادة منه في كليات العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية؛ إذ يوجد فيه جانب تعليمي أيضًا، وهو كتاب يقدّم لكل أكاديمي مهتم مادة موسوعية وشاملة في موضوع الدولة"، ينظر: طارق متري [وآخرون]، "مناقشة كتاب عزمي بشارة، مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات"، مراجعات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 30/1/2024، ص 2، شوهد في 15/8/2024، في: https://acr.ps/1L9zQn7 

[3] سبق لنا نقد حدود مثل هذه القراءة في منجز بشارة الدين والعلمانية في سياق تاريخي. في هذا الصدد، ينظر: سهيل الحبيّب، العلمانية من سالب الدين إلى موجب الدولة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 16.

[4] الغريب أنّ إحدى الورقات المنشورة المحكّمة حول كتاب بشارة هذا أفاضت في الحديث عن المنظور الأنثروبولوجي الذي يقرن ظهور الدولة بظهور الحضارة منذ آلاف السنين، وحبذا لو فعلت ذلك في سبيل طرح بشارة الذي يقرن الدولة بالعصور الحديثة، لكنّها فعلت ذلك من باب بيان أهمية موضوع الدولة الذي طرقه بشارة، بحسب صاحب الورقة، استنادًا إلى اقتناعه بأهمية الدولة في حياة النوع البشري العاقل. ينظر، "المداخلة الثالثة - أنطوان سيف"، في: متري [وآخرون]، ص 11-12.