تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"في نفي المنفى": من مواطنة اندماجيّة إلى أخرى تتحدّى بالتناقض

2018-07-30

مهند مصطفى

 

"المثقّف العموميّ"

ستشكّل هذه القراءة بالنسبة إليّ قراءة ثانية للكتاب، فقد نشرت سابقًا مقالًا خصّصته لقراءة كتاب "في نفي المنفى"، في ما جاء فيه بخصوص الفلسطينيّين في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948؛ ومع ذلك، فإنّ ثمّة الكثير في ما يمكن قوله حول هذه الحوارات، في كلّ مرّة بشكل مختلف ومن زاوية أخرى، لكن لا بدّ من أن أستهلّ مداخلتي من النقطة الّتي بدأت بها مقالتي السابقة، والّتي أعدّها تلخيصًا لدور بشارة السياسيّ والفكريّ في صفوف الفلسطينيّين في أراضي 48، إذ يؤكّد بشارة أنّ العمل السياسيّ يجب ألّا ينفصل عن الأخلاق؛ هذا هو الفرق بين المناضل ومَن يمتهن السياسة وظيفةً.

والنضال عند بشارة ليس نضالًا سياسيًّا مقطوعًا عن نضاله الفكريّ، كونه مفكّرًا عربيًّا فلسطينيًّا، وهنا يقدّم بشارة نموذجًا للمناضل السياسيّ والمفكّر الملتزم، وهو ما أسماه في كتاب آخر "المثقّف العموميّ"، وهو مصطلح صكّه بشارة نظريًّا من وحي الربيع العربيّ، بينما مارسه مناضلًا في السياسة والفكر هنا، أيِ الممارسة السياسيّة الّتي جسّدها، من خلال دوره السياسيّ العمليّ في الحقل السياسيّ الفلسطينيّ، وبين السياسة والفكر كما يسلكها وينتج من خلالها في منفاه، وذلك عبر مقاربة العلوم الاجتماعيّة مقاربةً أخلاقيّة ملتزمة بمشروع سياسيّ فكريّ، يتمثّل في المشروع الديمقراطيّ، والمواطنة، وإعادة التفكير في النظام السياسيّ العربيّ والدولة القطريّة العربيّة؛ لذلك يقول بشارة في حواره: "لست سياسيًّا بالمعنى السائد لمصطلح رجل السياسة، بل مناضل؛ بمعنى أنّي قمت بعمل سياسيّ ضدّ الظلم ومن أجل العدل" (ص 29).

غياب المدينة

ثمّة ملاحظة مهمّة، لا بدّ من الإشارة إليها عند قراءة مقولات بشارة، في ما يتعلّق بالفلسطينيّين في أراضي 48، ولا سيّما تلك المتعلّقة بتحليله لواقعهم وعلاقتهم بالحركة الصهيونيّة والدولة اليهوديّة؛ فبشارة يترك لنا دائمًا في كلّ سؤال شذرات تستحقّ البحث؛ فهو لا يسهب بل يضع الأفكار، والمقولات، والمبادئ العامّة الّتي تحتاج إلى أبحاث نظريّة وتجريبيّة، فعلى سبيل المثال، فكرة غياب المدينة، لم يجرِ بحثها بعمق من زاوية علم الاجتماع الفلسطينيّ، وهي نموذج تحليليّ ومفاهيميّ، يستحقّ أن يبذل فيه البحث النظريّ من جهة، والبحث الإمبريقيّ من جهة أخرى.

فمثلًا، حول مسألة غياب المدنيّة وحضور الريف، يشير بشارة إلى ثلاث خصوصيّات تتعلّق بالفلسطينيّين في أراضي 48: فقدان المدينة، وفقدان القرية، والتحوّل إلى هامش لمشروع استيطانيّ نقيض (ص 135). يشير بشارة إلى الفرق بين الريف العربيّ في أراضي 48 والريف العربيّ بعامّة، في مقاربة سوسيولوجيّة مهمّة:

"هذا الريف هو الأغرب في الوطن العربيّ كلّه، فالقرية العربيّة في الداخل تكبر وتكبر بلا حدود، وما عاد لديها أرض زراعيّة، وأبناؤها غالبًا عمّال وموظّفون تقع أماكن عملهم خارجها. في لبنان مثلًا، يحافظ الريف على مساحته تقريبًا؛ لأنّ ثمّة هجرة مستمرّة منه، وفي الريفين السوريّ والمصريّ الأمر نفسه، ثمّ إنّه ريف زراعيّ بحكم تعريفه، أمّا القرية الفلسطينيّة الّتي نتحدّث عنها فتكبر باستمرار؛ لعدم وجود مدينة تهاجر إليها، وتصبح بالتدريج بلدةً مزدحمة، كأنّها مدينة من دون بنية مدنيّة، وتركيبتها السكّانيّة غير مدنيّة، إنّها بلدات من دون زراعة، ومجمّعات سكنيّة لأناس متحدّرين من فئات فلاحيّة، تحوّلوا عمّالًا وموظّفين وطبقات وسطى ..." (ص 135).

استعمار كولونياليّ

يقارب بشارة مسألة الفلسطينيّين في أراضي 48 ضمن مجمل القضيّة الفلسطينيّة؛ فلا يرى انفصالًا لا فكريًّا ولا سياسيًّا بين المسألتين، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى المقاربة المهمّة الّتي يقدّمها للقضيّة الفلسطينيّة بصفتها قضيّة استعمار كولونياليّ، فهو يعتقد أنّ القضيّة الفلسطينيّة تأثّرت بفعل مسألتين، لا تزال آثارهما وانعكاساتهما تضربان بها، نحو القدرة على تفكيك الصهيونيّة، وحقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ، وحقّ العودة، وتحقيق العدالة لهذا الشعب المقهور. المسألتان هما المسألة اليهوديّة والمسألة العربيّة. وفي ما يتعلّق بالمسألة الأخيرة، يعتقد بشارة أنّ غياب حلّ المسألة العربيّة، الّتي تتمثّل في حقّ تقرير المصير للأمّة العربيّة، والمشروع الديمقراطيّ العربيّ، يسهم في بقاء قضيّة فلسطين دون حلّ؛ لذلك من المثير أن نرى أنّه عندما يتناول بشارة في حواره، مسألة الخطاب الديمقراطيّ والمواطنة وسؤال الدولة في العالم العربيّ؛ فإنّها لا تختلف كثيرًا عن مقاربته للخطاب الديمقراطيّ والمواطنة، في تحدّيه للمشروع الصهيونيّ والدولة اليهوديّة؛ فمقاربته النظريّة الفكريّة مقاربة أخلاقيّة أيضًا؛ فالمقاربات الأخلاقيّة تبقى ثابتة بتبدّل الأحوال والسياقات، وهنا فكرة المثابرة عليها.

مغادرة مسألة الأقلّيّة وحقوقها

يوضح بشارة في هذا الحوار، أنّ المواطنة تحمل في ذاتها تحدّيًا للصهيونيّة إذا أُخِذَتْ إلى مداها البعيد، مع هويّة وطنيّة فلسطينيّة، وهنا جاء اقتراح بشارة في اجتماعات تنظيم الحركة الوطنيّة وبداية تأسيس التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، وكانت استراتيجيّته كما يلخّصها في هذا الحوار على النحو الآتي:

"لنأخذ، إذن، قضيّة المواطنة الّتي تتضمّن خصوصيّة عرب الداخل في الاعتبار، ونذهب بها حتّى النهاية؛ كي ندخلها في تناقضٍ مع الطبيعة الصهيونيّة لإسرائيل، وفي الوقت نفسه، نبني الحركة الوطنيّة، ونؤكّد الهويّة العربيّة الفلسطينيّة لعرب الداخل وحقوقهم الجماعيّة كونهم سكّانًا أصلاء. وغادرنا هنا تمامًا مسألة الأقلّيّة وحقوق الأقلّيّة" (ص 118).

عمل برلمانيّ... بلا تهافت

ملاحظة أخرى، لا بدّ من الالتفات إليها في هذه الحوارات، وهي أنّ بشارة يطرح جميع القضايا الّتي صُوّرت وكأنّها "ملتبسة" في بعض الخطابات الإعلاميّة والشعبيّة، ويناقشها بصراحة ولا يتجاوزها، مثل العلاقة بالنظام السوريّ وحزب الله، وترشيحه لمنصب رئاسة الحكومة عام 1999، وعمله البرلمانيّ، وحتّى علاقته الشخصيّة بمحمّد حسنين هيكل.

ولا يتعامل بشارة بأسلوب الوعظ السياسيّ وهو في المنفى، ولا سيّما عند الحديث عن الفلسطينيّين في أراضي 48، فمثلًا، لا يزال يعتقد بأهمّيّة العمل البرلمانيّ العربيّ في أراضي 48، رغم النقد الشديد الّذي يوجّهه إلى هذا العمل، وهو نفسه الّذي وجّهه وهو يمارسه، فمن جهة يرى بوجوبه، ومن جهة ثانية ينتقد التهافت عليه من الحركة الوطنيّة.

لا شكّ في أنّ الدور المركزيّ الّذي أدخله بشارة إلى الخطاب السياسيّ للفلسطينيّين في أراضي 48، كما يظهر من حواراته مع صقر أبو فخر، الّتي لا يمكن أن يدّعي أحد بالسبق الفكريّ عليها، ليس لكونه تنظير سياسيّ فلسفيّ أو أكاديميّ، إنّما بتحويله إلى خطاب سياسيّ، وإعطاء معنًى جديدٍ لمفهوم المواطنة، ينتقل بها من مفهومها الاندماجيّ المنتهي بها ضمن البنية الاستعماريّة، من دون تحدّي هذه البنية، إلى مفهوم يتحدّى البنية ويزجّها في تناقضات مع ذاتها، أي خطابها الدعائيّ، ومع مفهوم الديمقراطيّة الإسرائيليّة المأخوذ من القرون الوسطى. في هذا السياق يشير بشارة إلى أنّ تحقيق المساواة لا يكون إلّا من خلال نزع الصفة الكولونياليّة عن إسرائيل (ص 131).

إغلاق دائرة؟

لا بدّ لي من التحدّث عن شعوري تجاه هذا الحوار، وهو شعور لا أعلم مدى مصداقيّته وواقعيّته. أعتقد أنّ بشارة يغلق في هذا الحوار دائرة اهتمامه الفكريّ بشؤون الفلسطينيّين في أراضي 48، وقد أنتج لنا، منذ أوائل التسعينات تحديدًا، مادّة نظريّة وسياسيّة مهمّة عن الفلسطينيّين، لا تزال ذات صلة في دراستهم بعامّة، ودراسة فلسطينيّي أراضي 48 بخاصّة، إلّا أنّه، على ما يبدو، يكتفي بذلك، وربّما يمثّل هذا الحوار بداية نهاية الاهتمام الفكريّ، ولا أقول السياسيّ، بمفهوم القلق عليهم.

وفي الوقت نفسه، يمنح بشارة القضيّة الفلسطينيّة جلّ اهتمامه من منفاه؛ فهي قضيّة مركزيّة لديه، ولها علاقة بالمسألة الكبرى الّتي يعالجها منذ اندلاع الثورات الديمقراطيّة العربيّة، وهي المسألة العربيّة.

إذًا، الحوار مع بشارة في هذا الكتاب حول الفلسطينيّين في أراضي 48، تلخيص تجربة فكريّة وسياسيّة بالفعل، لكنّ الحوار في المسائل الأخرى تلخيص لما أنتجه إلى حين إجراء الحوار، ولا يمثّل القول الفصل ولا نهاية المقال.

إنّه، أي الحوار، تلخيص تجربة من جهة، وبداية تجربة جديدة من جهة أخرى، وفي التجربتين نرى الرابط بين الفكر والأخلاق والسياسة.

 

 

المصدر: موقع فسحة ثقافية