تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عن نسبية الحلّ الديموقراطي عند عزمي بشارة

2018-01-19

*بلقاسم القطعة

ما الديمقراطية؟ وما الذّي تعدنا به؟ تتراوح الإجابة عن هذين السؤالين في الأكاديميا العربيَة بين المبالغة في تمجيد النظام السيّاسي الديمقراطي وتصويره حلًّا شاملًا، وبين تصغيره والتنفير منه والنزوع نحو تبرير السلطوية وتطبيعها. وبين هذين الخطيّن نجد اتجاهًا وسطيًا يُؤمن بالحل الديمقراطي دون تحمّيله ما لا طاقة له به، ويملك من الشجاعة والتواضع العلميين ليقول إنّه لا يدّعي أنّ الديمقراطية هي الحلّ على منوال الإسلام هو الحلّ، مُقّرًا بهذا بنسبية الحلّ الديمقراطي وحدود تطبيقاته الفعليَة.

"عزمي بشارة: الديمقراطية ليست هي الحل على نمط الإسلام هو الحلّ، ولكنها خيار في تنظيم المجتمع يضمن الحقوق وسيادة القانون"

كمثال على هذا الاتجاه الوسطي والنسبيّ في التطرق للحل الديمقراطي، نجد مساهمات المفكّر العربي عزمي بشارة؛ الذّي يعرّف نفسه ديموقراطيًا مع إدراك تامٍ لحدود ما يعدُ به هذا المفهوم، وما يقدر على تغطيته من جوانب الحياة الاجتماعية الواسعة.

في كتابه المميّز "المسألة العربية: مقدّمة لبيان ديموقراطي عربي"، وتحديدًا في الصفحة التاسعة من الطبعة الثانية الصادرة عن "مركز دراسات الوحدة العربيَة" في بيروت، يُشير عزمي بشارة بوضوح إلى أنّ "الديمقراطية ليست هي الحل على نمط الإسلام هو الحلّ، ولكنها خيار في تنظيم المجتمع يضمن الحقوق وسيادة القانون أكثر مما يضمنه تنور الاستبداد المستنير". وعلى الرغم من أنّ هذه الطبعة صدرت سنة 2010، إلاّ أنّ مضمون الاقتباس أعلاه ما زال قادرًا على تفسير تعثّر التحول الديمقراطي من جهة، وفشل الإسلاميين من جهة أخرى، خاصة بالإسقاط على تجربة الاخوان المسلمين في مصر.

من الواضح أنّه من الصعب علينا فهم ما سبق دون استحضار مفهوم الأزمة. وهي التّي تعلمنا العلوم الاجتماعية والإنسانية أنّها تنشأ حين يحدث تفاوت بين المتوقع والواقع؛ فعندما يقدّم الديمقراطيون الديمقراطية، التّي لا تعدو عن كونها نظامًا سياسيًا في مقابل الاستبداد كما يُفهم من إسهام بشارة، وكأنّها حل متكامل يحتوي كلّ جوانب الحياة الإنسانية، فإن إمكانية حدوث الأزمات المجتمعية تكون أعلى، من منطلق أن المجتمع ينتظر قطاف ثمار الديمقراطية الملموسة، والتّي تنعكس على مجريات حياته اليومية البسيطة، وتحسن ظروف المعيشة أوّلها. نفس المنطق يُمكن سحبه على جعل الإسلام حلًا جامعًا شاملًا، وما لذلك من عواقب. إذْ إنّه ومن الأخطاء الشائعة التّي يرتكبها الإسلاميون تصوير أنفسهم خطابيًا باعتبارهم بديلًا مقدّسًا عن الآخرين، وكذا الاستعانة بمكانة المقدّس في نفوس الأفراد عوض الاعتماد على برنامج سيّاسي واضح التوّجهات والمعالم.

من البديهي التساؤل عن حدود الديمقراطية التّي تعبّر عنها أطروحة عزمي بشارة؛ وهي بالنسبة له "خيار في تنظيم المجتمع يضمن الحقوق وسيادة القانون". مبدئيًا لا تغدو الديمقراطية عند عزمي بشارة عن كونها خيارًا سياسيًا يقع ضمن خريطة واسعة من الخيارات الأخرى التّي مازالت حاضرة في عالمنا. فالمجتمعات الإنسانية المُعاصرة لا تعيش في مجملها في إطار ديموقراطيات، وإنّما نجد صفًّا واسعًا من أنظمة الحكم غير الديمقراطية التّي استقرّت بغَضّ النظر عن ديناميكيات الاستقرار وآلياته. في مستوى ثانٍ، فإن الديمقراطية عند عزمي بشارة وسيلة لتنظيم المجتمع؛ وربّما بعبارة أخرى تنظيم الصراع المجتمعي حول السلطة. ففي كلّ المجتمعات الإنسانية توجد جماعات تتصارع فيما بينها بهدف التموقع على رأس هرم السُلطة؛ من هنا يأتي الخيار الديمقراطي لوضع حدّ لهذا الصراع عبر إنتاج معايير وقيّم يتم عبرها تنظيم عملية الوصول إلى الحكم وآجال البقاء فيه، وكذا طرق مغادرته.

تتّم ترجمة هذه الضوابط في شكل دستور ديموقراطي ملموس وقيّم ما وراء دستورية، تلتزم بها الأطراف السياسية المؤمنة بالحلّ الديمقراطي.  في هذا الجانب يسجّل النظام الديمقراطي تفوّقه على الأنظمة الأخرى، فحدوث أزمة التداول وانتقال السلطة نادرة في الديمقراطيات مقارنه بالأنظمة غير الديمقراطية التّي قد يصل فيها الأمر  حدّ الحروب الأهلية.

يُضاف إلى ما سبق، قدرة الخيار الديمقراطي على خلق ضمانات متعلقّة بمسألة الحقوق، وكذا سيادة القانون. ففي الظروف العادية تُزوَّد الأنظمة الديمقراطية بآليات حقوقية ورقابيَة من شأنها ضمان حقوق المواطنين وجعلهم متساوين أمام القانون، دون الحاجة إلى تدخّل وسائط بدائية لإحقاق تلك الحقوق كالطائفة والقبيلة والعشيرة والإثنية وغيرها؛ لتُصبح بذلك صفة المواطنَة كافية للولوج لعالم الحقوق المشروط دائمًا بحزمة من الواجبات، المترتبة عن كون الفرد عضوا في جماعة مواطنيَة.

"الديمقراطية عند عزمي بشارة وسيلة لتنظيم المجتمع؛ وربّما بعبارة أخرى تنظيم الصراع المجتمعي حول السلطة"

من هذا المنطلق تتفوّق الديمقراطية عن غيرها من الأنظمة في نظرتها للفرد باعتباره جزءًا من جماعة وطنية مواطنية، يُمسك رابط المواطنة القانوني أجزاءها. وعلى الرغم من أن العديد من الأدبيات النظرية النقدية، رأت في المواطنة حالة إقصائية تجاه أولئك الموجودين في الخارج، إلاّ أنّها تعدّ أقلّ ضررًا من تقسيم المجتمع إلى مجموعات ثانوية دينية أو غير دينية، يُتيح الانضمام إليها حصة أكبر أو أصغر من الحقوق والموارد الماديّة والمعنوية.

المثير للاهتمام في تحديد عزمي بشارة لماهية الحلّ الديمقراطي هو عدم اعتباره خيارًا جيّدًا لذاته؛ وإنّما حين يقارن بما هو أقّل منه، وهو الاستبداد، المستنير تحديدًا. نفهم من هذا أنّ الديمقراطية باعتبارها ظاهرة اجتماعية لا تقيّم بِمعزلٍ عن الظواهر المحيطة بها، وإنّما عبر مقارنتها، واستنتاج محاسنها وقدراتها على إعادة انتاج نفسها مع أقّل قدر من الخسائر. من جهة أخرى، يمكننا الفهم أنّ مقارنة الديمقراطية بما ليست هي؛ تُتيح لنا مقارنتها بما هي. أي مقارنة بين الديمقراطيات. فالديمقراطية ليست حلًا جامدًا يتم سكبه داخلَ إطار مجتمعي ليشتغل بطريقة ميكانيكية، إذْ هي حالة متحركة تحمل ثنائية السلبية والايجابية وتملك القدرة إما على التقهقر والتراجع أو التطوّر والتحسّن. وكما أنّ السلطوية سلطويات، فإنّ الديمقراطية ديمقراطيات تشترك إجمالًا في قدرتها على تنظيم الصراع السلطوي داخل المجتمع وضمان قدر متميّز من الحقوق وسيادة القانون، إذا ما قورنت بغيرها من نماذج الحكم.

إذًا، تبدو لنا مساهمة المفكّر العربي عزمي بشارة القاضية بأنّ الديمقراطية ليست ذلك الحلّ الذي يُحاكي اعتقاد الإسلاميين بأنّ الإسلام هو الحلّ، كعملية لإعادة الديمقراطية إلى طريقها الطبيعي وإبعادها عن المزايدات والتلميعات الأيديولوجيَة المتعصبّة والجامدة. أي أنها دعوة للتواضع في طرح المشروع الديمقراطي كبديل للاستبداد والطغيان السياسيين، دون المبالغة أو التفريط فيه. والأهّم من ذلك تفادي أي أزمة توقعات من شأنها تقويض الحلّ الديمقراطي، واستغلال ذلك من طرف قوى غير ديموقراطية تتغذّى على فشل الديمقراطية، أو بعبارة أكثر دقّة فشل الديمقراطيين.

كنقطة ختام، فإن نسبية الحلّ الديمقراطي عند عزمي بشارة تُبنى أوّلًا على كون الديمقراطية خيارًا من بين خيارات مجتمعية عدّة. وثانيًا، على أنّها نظام سياسيّ جيّد، ليس لذاته، وإنّما إذا ما قُورن بغيره من الأنظمة.

*باحث جزائري