تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة.. في تفكيك داعش

2019-02-26

مصطفى ديب

 

يخوض ما تبقّى من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" آخر معاركه في قرية الباغوز شرق الفرات، معقله الأخير بعد خسارته غير المفاجئة للمساحات السابقة التي سيطر عليها بين سنة 2013 و2014، وأعلن فيها عن قيام الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا. وفي السنوات التي تلت إعلان التنظيم عن ولادة دولته، شغل الرأي العالم المحلي والعالمي في آن معًا، وكان على رأس أولويات الجميع دولًا وإعلامًا. بالإضافة إلى الكتّاب والباحثين الذين سعوا إلى تفسير هذه الظاهرة المفرطة في التوحش.

بناءً على ما سبق، بات هناك الكثير من الكتب التي تناولت هذه الظاهرة، بغضّ النظر عن الهدف من وراء ذلك، أو عن الجودة في المضمون وما تقدّمه، فكانت هناك كتب متعدّدة تنطلق من مواقف سياسية مسبقة، وأخرى تستغل صعود داعش لخدمة أفكارها أو مقولاتها وغير ذلك.

المفكّر العربي عزمي بشارة في كتابه الجديد "تنظيم الدولة المكنّى داعش: إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، في اشتغاله على تفسير هذه الظاهرة يبدأ بتصنيف الكتب الموجودة في التداول، وكلّ ما كُتب حول تنظيم الدولة، من أجل تفسير هذه الظاهرة بالاستناد إلى أدوات بحث علمية رصينة، مراعيًا كلّ التحوّلات والمتغيّرات المحلية والعالمية المتعلّقة والمرتبطة بداعش بكل تسمياته السابقة، وعرض ارتباطها وعلاقتها بصعود الأخير.

بشارة في كتابه هذا يبدأ بتصنيف الكتب الموجودة في التداول أولًا؛ يتحدّث عن كتب تجارية يصفها بالوجبات السريعة التي تلبّي الطلب، ويكون الهدف من ورائها إشباع فضول القارئ الغربي تحديًدا. وكتب من تأليف رجال دين مسيحيين يصفها بالتبشيرية وذات الأهداف المتعدّدة. هذان النوعان من الكتب، يقدّمان داعش للقارئ باعتباره نموذجًا لحركة دينية متطرّفة متولّدة بشكلٍ طبيعي من النصوص الدينية الجاهزة، تلك التي تحضّ على العنف وتدعو إلى استهداف الآخر.

في المقابل، هناك كتب أخرى من تأليف رجال دين مسلمين في الغرب، كان الهدف منها هو التصدّي لمقولات الكتب السابقة، وربط داعش بالدين الإسلامي. ويشير بشارة إلى أنّ هذه الكتب وجدت نفسها في مسار التنافس مع تنظيم الدولة على تأويل النصوص الدينية، فلم تقدّم بحثًا جدّيًا يخرج عن دائرة الوعظ والخطابات الإنشائية.

تُجاور الكتبَ السابقة كتب من أخرى من نوع آخر، ومن تأليف كتّاب يمينيين يؤكّد بشارة أنّهم حاولوا من خلالها تأكيد صحّة وصواب مقولاتهم الأيديولوجية والثقافية ضدّ الإسلام والمسلمين. فبعض هذه الكتب ذهبت لتؤكّد أنّ داعش ما هو إلّا الإسلام نفسه، وأنّ المشكلة تكمن في القرآن والسنّة النبوية، لا في إساءة استخدامهما. وأنّ ما يدفع الإرهابيين إلى ارتكاب الجريمة موجود في القرآن نفسه. إذَا، هي كتب يكون الإرهاب عند مؤلّفيها قديمًا قدم الإسلام نفسه.

لكنّ كتبًا كهذه تُصنّف ككتب دعوية لا أكثر، تعرّضت لانتقادات واسعة في الغرب، باعتبارها انطلقت من مواقف سياسية مسبقة لمؤلّفيها، وتفتقد لأدوات البحث العلمي الرصين. فما يعتمد عليه هؤلاء، هو شرعيو داعش الذين يقدّمون من خلال الفتاوى والممارسات الترهيبية الدليل الإرشادي لهم. وهم، أي الشرعيون، يسعون لإثبات صحّة ما جاء في هذه الكتب من مقولات تفيد بأنّ داعش تتويج لتعاليم الإسلام، كمحاولة لكسب الشرعية، بينما هي في الأساس ظاهرة استثنائية يجب أن تدرس في سياق التحوّلات الاجتماعية والسياسية الحديثة والمعاصرة.

يتحدّث بشارة عن كتب أخرى حاولت فهم ظاهرة داعش بالاعتماد على مقاربات بحثية مختلفة؛ كالتدخّلات الخارجية، وعنف الأنظمة، والاحتلال الأمريكي، والخلافات الفكرية ضمن التيار السلفي الجهادي، وأزمة الدولة الوطنية. ولكنّ هذه الكتب برأي بشارة لا تساهم في تفسير هذه الظاهرة في سياقها. وفي الآن ذاته، اعتبرت كتب أخرى أنّ ظاهرة كداعش والقاعدة هي حديثة العهد، ولا تُفسّر بصعود الأصولية. وأنّ الإرهاب لا يتأتّى من تطرّف الإسلام، بل من أسلمة التطرّف. وترى أنّ الإسلام بحدّ ذاته لا ينتج العنف.

هناك مؤلّفات أخرى أكّدت، بحسب بشارة، أنّ العنف ليس مرتبطًا بالإسلام أو الجهاد، فهناك مجموعات أخرى متمرّدة تمارس العنف بأيديولوجيات متعدّدة. ووصلت هذه الكتب إلى نتيجة مفادها أنّ منع العمل السياسي السلمي يتحمّل جزءًا من نشوء التمرّد والظروف المواتية للعنف. وفي نهاية عرض بشارة لمضامين هذه الكتب، نقدها ومناقشتها، يرى أنّ التدخلات الأجنبية والاحتلال الأمريكي للعراق تحديدًا، لم يأخذا نصيبهما من تحليل الباحثين للظاهرة. فالاحتلال نتجت عنه ولادة مجموعات مقاتلة له في العراق، لا سيما بعد دعمه للشيعية السياسية، ووقوع البلد في نطاق النفوذ الإيراني، ما ولّد عند السنّة مشاعر سخط وطنية وطائفية.

يرى مؤلّف "الثورة والقابلية للثورة" أنّ ما سبق من مقارباتٍ وأدواتٍ بحثية لا تكفي وحدها لتفسير ظاهرة تنظيم الدولة، وعنف عناصره. فالسلفي ليس جهاديًا بالضرورة. والخلفيات السياسية كالاستبداد والعنف وسيطرة الطائفية السياسية على أنظمة الحكم أمر يتعرّض له ملايين البشر، والاحتلال كذلك. ولكنّ قلّةً فقط من تصل إلى درجة ممارسة العنف في هذه الظروف. لذلك، هناك بعض الكتب توسّلت السيكولوجيا وتحليل البنية النفسية لفهم ظاهرة داعش، شرط أن نتذكّر أنّ أصحاب الخلفية الاجتماعية ذاتها لا يستقرّون على الاستنتاجات نفسها في تجاربهم الشخصية.

تأتي ضرورة التركيز على الجانب السيكولوجي من ضرورة تحليل ردود فعل الإنسان العادي على الظلم والإهانة والإحباط كما يقول بشارة. فالإحباط يولّد عنفًا من الضروري أن نعرف متى يصبح موجّهًا نحو الداخل أو نحو الخارج. ومن الضروري كذلك معرفة أثر الإذلال النفسي والجسدي غير المبرّر وغير المحق. في هذا السياق، الحدس وحده بحسب المؤلّف يكفي للتوصّل إلى أنّ هذه المؤثّرات قد تؤدّي بالإنسان إلى ردود فعل انتقامية عنيفة بغضّ النظر عن التوجّه.

يشير بشارة إلى فائدة البحث الحقيقي في الدوافع السيكولوجية والثقافية في الانضمام إلى داعش. ويحدّد هذه الدوافع بما يلي: أولًا، ردّة الفعل على العنف الطائفي. وثانيًا، مظاهر القوة ونجاح داعش في تخويف الغرب بصورة عامّة، والشيعة بصورةٍ خاصّة. ثالثًا وأخيرًا، ما يوفّره داعش من إمكانيات للتوبة والتطهّر من الذنوب عند الجنائيين السابقين. فالتنظيم يضمن لهم ممارسة العنف بشكله الجديد، أي كفريضة دينية بثوابٍ عند الله. ولكن، يؤكّد بشارة في الآن ذاته أنّ التحليلات النفسية تكون ذات فائدة إن ظلّت ضمن حدود معينة، فهي سوف تخطئ هدفها إن حاولت أن تحلّ مكان التحليل السياسي والاجتماعي التاريخي للظاهرة.

يرفض بشارة إذًا المقاربات الثقافوية لنشوء ظاهرة داعش، باعتبارها تمثيلًا لثقافة ما أو لدين معين، لكنه في نفس الوقت لا ينحاز إلى المقاربات البنيوية الشاملة، التي ترى أن الظاهرة تمثل نتاجًا لظروف بنيوية حاسمة، ولا يرى أنه يمكن فهم الظهور السريع للتنظيم الجهادي، من خلال السياسيات الدولية والظروف الإقليمة وحسب، ولكنه يرد هذه الظاهرة إلى جملة من العوامل المركبة، المتصلة بتطور مفهوم الجهاد والجهادية، داخل مسار متأزم للدولة القومية العربية، ومحاصصة طائفية عميقة، وظرف اجتماعي سياسي محلي وإقليمي في آن، بالإضافة إلى كل ما يمثله ذلك من انعكاسات في ذوات الأفراد وحياتهم اليومية.

الجهاد بين فكر تنظيم الدولة والحضارة الإسلامية

بنى داعش فكره الديني بحيث يقتصر على خمسة جوانب تتمحور حول مبدأ الطاعة العمياء. والجهاد عنده، بناءً على فكره ومقولات شرعييه، فرض عين على كل المسلمين. ولكنّ بشارة يؤكّد أنّ الجهاد في الحضارة الإسلامية عمومًا هو فرض كفاية وليس فرض عين، مُفرِّقًا هنا بين الجهاد بمعناه المقصود منه قتال الكفّار في بلاد المسلمين وإن لم يحشدوا للقتال؛ والجهاد بمعنى دفع الصائل المعتدي، ذلك الذي يصبح الجهاد عنده فرض عين على كل المسلمين.

ولا يعبّر الجهاد الأولى، القتال، عن معنى لفظ الجهاد الأصلي، ولا عن معنى المصطلح في القرآن والحضارة الإسلامية عمومًا. فالجهاد هو القتال لرد الصائل والدفاع عن أرض المسلمين، هذه هي القاعدة العامّة. أمّا الجهاد بمعنى القتال فمسألة يؤكّد بشارة أنّها ارتبطت بالظروف. وفي الكثير من الأحيان، طالب القرآن المسلمين بوقف القتال وضبط النفس. وفي حالات أخرى، أدان العدوان، ودعا إلى التوقّف عن القتال إذا طلب الأعداء السلم، وأقاموا الصلاة. النتيجة إذًا أنّ هناك تضاربًا في مضامين آيات القرآن في بعض الحالات، ما يستدعي فهم هذه الآيات في سياقها المتعلّق بأسباب النزول. فبعض مضامين هذه الآيات صحيح في موقف وسياق معيّن ومحدّد، وبعضها يصحّ لنبيٍّ رسولٍ، لا لبشرٍ عاديين. وبعضه الآخر يصحّ لكلّ زمانٍ ومكان. إذًا، من المفروض فهم كل شيء بحسب السياق.

من الجهاد، ينتقل إلى مصطلح "المجاهدين"، فيقول إنّ الاستخدام الحديث للمصطلح كان بهدف النضال ضدّ المستعمر، ومن قبل حركات وطنية محلية حاولت أن تمنح القتال ضدّ المستعمر بعدًا دينيًا، فكان يُقال للمناضلين آنذاك مجاهدين. أمّا مصطلح "الجهاديين"، فهو كما يقول بشارة صفة لم يعرفها الإسلام من قبل. بالإضافة إلى أنّه، بجوار مصطلح الجهادية، يعبّران عمليًا عن أدلجة حديثة للجهاد، بحيث يتحوّل إلى هدف قائم بذاته. وهذه الأدلجة التي بدأت في كتابات سيد قطب وعبد السلام فرج، جعلت من الجهاد فرض عين لا فرض كفاية. وحاول فرج من خلال الجهاد نفسه أن يبرّر العنف الهادف لإسقاط الأنظمة الحاكمة، تلك التي كُفّرت لأنّها لا تحكم المسلمين بما أنزل الله، وإن نطق الحكّام بالشهادتين. وقد دعا فرج نفسه أيضًا إلى قتال جميع من يقاتل في صفوفهم، حتّى المكرهين منهم. وإن قتلوا على يد الجهاديين فهم بحسب فتوى لابن تيمية شهداء عند الله.

يصف عزمي بشارة مزاجًا كهذا بالمتطرّف، ويقول إنّ تبرير العنف الحركي المعاصر بتسخير سور من القرآن والأحاديث النبوية والتراث الفقهي انتقائيًا، أنتج نموذجًا للتقليد في الفكر السلفي الجهادي عمومًا. فجميع الأمثلة المتكرّرة لاحقًا عند منظّري هذا التيار الجهادي، والنهج التبريري الذي اعتمده فرج، يتكرّر لتبرير سياسات عنيفة راهنة. ومن هذا المنطلق، ولغرض الاستفادة المطلقة، جعل السلفيّون حروبهم جهاد دفع، أي فرض عين على المسلمين في كلّ مكان. ويُشير المؤلّف هنا إلى أنّ بعض من دعا إلى الجهاد، كعبد الله عزام وغيره من المنظّرين، لم يكفّروا المسلمين أو يعتدوا على المدنيين بالعمليات الإرهابية والتفجيرات، على عكس ما دعا فرج غيره إليه.

وللوصول إلى تحليل دقيق للجهاد، يدعو بشارة إلى التمييز بين فهمه في المراحل التاريخية، والتمييز بين أشكال التديّن، أي بين تديّن شعبي وحركي ومؤسّسي. ولكن من غير الممكن العثور على أي من أنماط التديّن هذه نقيًا ومنفصلًا. وهنا يشدّد على أنّ الجهاد ضدّ المستعمر الأجنبي، سواء أسمّي دفعًا للصائل أم مقاومة للاحتلال، هو الأكثر قربًا من التديّن الشعبي. وكجزء من الالتباس في فكر التيارات السلفية الجهادية، بما في ذلك داعش، يرى بشارة أنّ التديّن بصورته الشعبية والحكايات الأسطورية المتصّلة به، والتي دأب منظّرو هذه التيارات على انتقادها، كان حاضرًا في هذا الفكر في حالاتٍ معيّنة تظهر أن لا غنى لها عنه. فهو وسيلة للتواصل لا مع الجمهور فقط، بل للتواصل أيضًا مع ذاتها، أي التنظيمات السلفية، في حالات الهزيمة والابتلاء. ويقول المؤلّف إنّ الدين هنا يُغادر الأيديولوجية برهةً ويعود إلى وظيفة مانح الراحة، والأمان والدواء الشافي للنفوس المضطّربة كذلك.

داعش والتمايز عن القاعدة والتيارات السلفية

ثمّة دون شك اختلاف كبير ظهر بين تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة بعد الإعلان عن ولادة الأوّل. والخلاف لا يقتصر على موضوع أو فكرة معيّنة فقط. هناك أولًا الاختلاف حول مفهوم الجهاد وأنماطه وأساليبه، وهو خلاف بين منظّري وقادة التيّار السلفي الجهادي ككل، دون أن يقتصر على القاعدة وداعش. فهناك من يعتبر أنّ  من الضروري  أن يكون الجهاد بقيادة ورؤية وهوية سلفية، أي أن يكون جهادًا لا يستثني استهداف المسلمين ممن يختلفون عقائديًا وفقهيًا عن هذا التيار المتطرّف، وكذلك القيام بعمليات إرهابية ضدّ المدنيين. وهناك في المقابل من يدعو إلى جهاد كلاسيكي لا يستهدف إلّا المعتدين فقط، مع ضرورة تقبّل الاختلاف والابتعاد عن التكفير. ويعتبر منظّرو التيار الأخير أنّ التيارات المتطرّفة التي انتشرت داخل التيار السلفي الجهادي مصدر ضعف وليس قوّة. ويقول أبو مصعب السوري إنّ هذه التيارات وضعت عوائق أمام تحشيد فئات واسعة من المجتمع الإسلامي، الأمر الذي أفقد التيار الجهادي شعبيته، وجعل الجهاد نخبويًا.

يؤكّد بشارة ضمن السياق السابق أنّ تيار السلفية الجهادية، والجهاديون العالميون المترحّلون من بلدٍ إلى آخر أيضًا بهدف الجهاد باعتباره فرض عين، رغم أنّ جهادهم وفق تعريفهم لأنفسهم هو جهاد طلب، أي كفاية؛ كانوا دائمًا مجموعات صغيرة من العقائديين والمغامرين، ولم يرتقوا يومًا إلى تشكيل تيار في الأمّة. ويبين ذلك مدى انفصال السلفية الجهادية عن واقع المجتمعات الإسلامية، وأنماط وعي المسلمين.

إذًا، الخلاف حول الجهاد ومفهومه ليس محصورًا بين القاعدة وداعش والشرعيين في كلا التنظيمين فقط. ولكن، في المقابل هناك خلافات تنحصر بينهما فقط، باعتبار أنّ الأخير، ولفترةٍ من الزمن، كان فرعًا للقاعدة في العراق، ما يعني أنّ الخلافات ليست مستجدّة، وأنّ الانشقاق، فكريًا وتنظيميًا، لم يحدث بعد الإعلان عن الدولة الإسلامية، وإنّما يعود إلى الفترة التي كان داعش فيها هو قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين. ففي الوقت الذي كانت تركّز فيه القاعدة على الحرب ضدّ أمريكا باعتبارها أساس النظام في الدول الإسلامية، سلك الزرقاوي ومن بعده أبو عمر البغدادي وأبو بكر البغدادي، طريقًا آخر كان الهدف فيه محاربة كل من الشيعة وإيران بصفتهم الخطر الداهم وأعداء الأمّة. وتميّز طريق دولة العراق بتجاوزه أسلوب المفخخات واستهداف الجيش الأمريكي، إلى استهداف الشيعة والمدنيين. وأثارت هذه الممارسات نفور أغلبية المسلمين الساحقة، وهيأت الجو للصحوات والفصائل السنّية الأخرى للحدّ من نفوذ وقوّة التنظيم. فالفصائل أدركت أنّ تنظيم الزرقاوي غير معني بإقامة تحالفات ضدّ الاحتلال، بقدر ما تشغله مسألة أن يفرض رؤيته وزعامته عليها بالقوّة. ما معناه أنّ التنظيم، بكلّ تسمياته اللاحقة، ليس معنيًا بمقاومة الاحتلال، وإنّما بخوض معركة الإسلام ضدّ المشركين والكفّار والرافضة، فلم تميّز بين احتلال وحكومة شيعية أو فصائل سنية مقاومة.

يُفسّر بشارة السلوك السابق لدولة العراق بالتنافس والصراع على زعامة السلفية الجهادية والإمارة على المجاهدين. ومن المعروف أنّ هذا التنافس كان قائمًا بين الدولة والقاعدة. ما معناه أنّ الخلاف بينهما له جذور أعمق، لا تتعلّق بفكرة الدولة فقط. ففكرة إعلان الدولة الإسلامية بعد إجبار الاحتلال على الانسحاب، بحيث تملأ هذا الفراغ في المناطق السنية تحديدًا، هي استراتيجية طُرحت في تنظيم القاعدة، أو وافق عليها. ما يؤكّد أنّ الخلاف بين القاعدة والتنظيم لم يكن حول فكرة الدولة، بل على القيادة بمعنى تبعية الأخير لقيادة القاعدة وطاعته لأوامرها.

الخلاف بين التنظيمين هو صراع على قيادة التيار السلفي الجهادي بعد ضعف قيادة القاعدة المركزية. لكنّ عزمي بشارة يتحدّث أيضًا عن خلافٍ آخر يتمحور حول الأسلوب. فقيادة وشرعيو القاعدة أدركوا أنّ فشل عدد من التجارب الجهادية السابقة يعود إلى الأساليب المتبّعة من قبل الجهاديين، لا سيما تلك المتعلّقة بالتعامل مع المجتمعات المحلية، وفرض الجهاديين لأفكارهم بالقوّة والإكراه. وبناءً على ذلك، سعى الشرعي السابق في تنظيم القاعدة عطية الله الليبي إلى تأسيس منهجٍ جديد يضبط علاقة الجهاديين بالمحيط الاجتماعي. ويركّز المنهج على تصحيح الخطاب الجهادي بحيث ينطلق من اهتمامات الناس ومصالحهم، والبعد عن الغلو، وتقييد التكفير مع حصره بدائرة ضيّقة من العلماء الشرعيين، وقبول المتخالفين فكريًا وطائفيًا وكذلك دينيًا ما لم يشاركوا في قتال الجماعة الجهادية، الأمر الذي يساعد في بناء حاضنة اجتماعية، ويمنع تكرار تجربة الصحوات العراقية.

اتّبعت جبهة النصرة في بداياتها منهج عطية الله الليبي، ونجحت في ذلك الوقت ببناء حاضنة اجتماعية انهارت مؤخّرًا بفعل تغيّرات في السلوك والأسلوب. بينما تمايز داعش بمنهجٍ مختلفٍ عن السابق، بل يتعارض معه. فالأخير، منذ عهد الزرقاوي، لم يهتم بتحشيد المسلمين والاهتمام بتوفير قاعدة شعبية له قبل عن الإعلان عن دولته. بل ركّز على التحشيد الطائفي كما يقول بشارة، فكان استهداف الشيعة استفزازًا للردّ العنيف على السنّة، ما يدفع بالسنّة إلى الرد أيضًا، تمهيدًا لاندلاع حرب أهلية يجتمع فيها السنّة خلف الأحقّ بتمثيلهم لجهة صرامته مع الشيعة. بذلك، كانت دولة العراق تسير بعكس توصيات ابن لادن ومن بعده الظواهري، بقبول الاختلاف والتعدد تحت سقف الجهاد ضدّ أعداء الأمّة، وضرورة احتواء من يختلف معهم في المسائل العقائدية. كما أكّد ابن لادن أنّ الدولة الإسلامية ليست ضمن استراتيجيات القاعدة، وتوقّع فشلها في حال قيامها لأهمية مسألة التوقيت في هذا الموضوع. وبن لادن نفسه كان يدعوا إلى استراتيجية إعلامية تستهدف استعطاف الجماهير، وتظهر الصورة الحسنة للجماعة، عكس داعش التي سعت من خلال الإعلام إلى ترهيب الجماهير.

يوضّح كلّ ما سبق حول سياسات واستراتيجيات تنظيم الدولة في التعامل مع المجتمعات المحلية، السنية تحديدًا، أنّ ما جرى من حديث عن حاضنة محلية ساهمت في تمدده غير صحيح. ويقول بشارة حول هذه القضية إنّ إضعاف الدولة خارجيًا، عبر الاحتلال كما في العراق، أو داخليًا عبر ثورة شعبية كما في سوريا، من الطبيعي أن يؤدّي إلى تشكيل البنى الاجتماعية ما دون الوطنية ملاذًا للفرد، وإذ بالاحتجاج على نظام يستخدم الولاءات الطائفية يبلور هو الآخر خطابًا طائفيًا. ومع ضعف الحركات الوطنية الشاملة، كانت الفصائل الإسلامية السياسية، بما في ذلك السلفية الجهادية، جاهزة وقادرة على ملء الفراغ، والرد على العنف بالعنف.

إذًا، فإن الظروف التي نشأ وتمدّد تنظيم الدولة فيها، متعلّقة بفشل أنظمة الحكم المتداخلة مع بنية الدولة والمجتمع، على نحو قاد دون شك إلى فشل الدولة ذاتها. ويشير بشارة إلى أنّ تمدّد داعش لم يقم على مقوّمات قوّة ذاتية حقيقية، كالحفاظ على الذات، وإعادة إنتاج سلطة على السكّان، بل تمدّد بسبب ضعف الدولة. ما معناه أنّ تمدّد التنظيمات الجهادية ونشوء البيئة الملائمة لفعل ذلك قد تكون تزامنًا مع انحسار نفوذ الدولة وعدم تمكّنها من القيام بمهماتها، وفشلها في التعامل مع المواطنين.

يضاف إلى ما سبق نظام المحاصصة الطائفية السياسية في العراق، وتفوّق الشيعية السياسية فيه، وحلّ الجيش العراقي، والتمدد الإيراني، واعتماد النظام السوري على الولاءات الطائفية والاجتماعية والعنف المفرط في قمع الحراك الواسع؛ قد أوجد كذلك الأمر حاضنة في المجتمع السنّي، ولكنّها ليست حاضنة لداعش. فبشارة يرى أنّ أوساط واسعة من المجتمعات السنية في سوريا والعراق قد تحوّلت إلى حاضنة للاحتجاج عمومًا. وداعش فرض نفسه على هذه المجتمعات بالقوّة بعد أن تفوّق على الآخرين بالقوّة والمزايدة في التحريض الطائفي. ولم ينجح في جذب عدد كبير من السكّان المحليين إلى صفوفه. ما معناه أنّ المجتمعات السنية كانت جاهزة لاحتضان أي انتفاضة أو ثورة ضدّ الحكومة المركزية، سواء أكانت إسلامية أو غير ذلك.

في هذا السياق، يقول بشارة إنّ عودة نمو وإحياء تنظيم دولة العراق بعد ضموره بفعل تمرّد الفصائل الإسلامية والصحوات ضدّه، يعود إلى سياسات المالكي الطائفية، والقمع في السجون العراقية بعد سنة 2010، وانسحاب الولايات المتحدّة من العراق، ووقف تمويل الصحوات، وشن الأسد حربًا شاملة على الثورة السورية، ونشوء مناطق محرّرة خارج سيطرة الدولة بجهود الجيش الحر وغيره من الفصائل. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ دولة العراق بعد أن تمدّدت لتصير الدولة الإسلامية في العراق والشام، اعتمدت على المناطق المحرّرة في التمدد والانتشار، فلم تفرّق بين الكفّار والمسلمين الذين يرفضون مبايعتها فيها، وتآمرت على الفصائل التي تسيطر على تلك المناطق، وكانت براغماتية في التعامل معها، تخوض حربًا ضدّها حينما تريد، وتعقد معها هدنة للتجهّز لحرب جديدة. ومن المفيد أيضًا الإشارة إلى أن إعادة هيكلة وإحياء تنظيم الدولة بعد ضموره كان على يد ضبّاط سابقين في الجيش العراقي.

وكتأكيد على خطأ مقولات الحاضنة الاجتماعية في المجتمعات السنية، خصّص بشارة صاحب كتاب ثلاثية "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" فصلًا كاملًا للحديث عن الحياة في ظلّ داعش. وما يظهر في هذا الفصل هو معاناة السنّة تحت وطأة حكم التنظيم، والرفض القاطع لوجوده. ولعلّ أبرز ما جاء في هذا الفصل هو التأكيد على أنّ السنّة وغير السنّة في هذه المجتمعات كانوا على ثقة مطلقة بأنّ مصيره، أي داعش، هو الزوال واستحالة استمراره. ويعرض بشارة في هذا الفصل محاولات داعش لبناء عادات وتقاليد، مجتمعية أو دينية، تتناقض مع ما هو موجود في تلك المجتمعات. وكذلك محاولاته بناء إنسان جديد وفقًا لثقافته، والقيام بخلق حالة من العصيان على المبادئ الأساسية في المجتمعات السنية.

 

المصدر: ألترا صوت