تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"الطائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيَّلة" لعزمي بشارة: الدولة والمواطنة

2018-07-10

حسام أبو حامد

 

في عام 1860، بلغت الأزمة الطائفية ذروتها، بين جبل لبنان وجبال الشوف، لتمتد إلى دمشق. ووفاء للتقليد النبوي في حماية “أهل الذمة”، وانتصاراً لقيم التسامح الإسلامي، يحاول الأمير المتنور عبد القادر الجزائري، إخماد “الفتنة” وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن صعوبات الاندماج أبقت “الفتن” ناراً تحت الرماد، وتراكمت عوامل فشل المشروع الوطني الاندماجي والتوحيدي. وكان المفروض أن تتوفر مع الدولة الوطنية، بعد الاستقلال، حلول للمشكلة الطائفية، بتوفير فرص الاندماج والتشارك في المشروع الوطني.

ما إن استولت العسكرتارية العربية على الحكم، حتى ألغت العمل بالدساتير التي وضعت ما بعد الاستقلال، والتي أتاحت نوعا من تعددية سياسية، لصالح دساتير تتناسب والطبيعة الشمولية لتلك الأيديولوجيات. فصادرت الحريات، وعطلت الحياة السياسية لصالح قوانين الطوارئ وحكم الفرد، وهيمنت على وسائل الإعلام. وباسم الوحدة الوطنية، نظرت إلى الأقليات معوقات للوحدة، أو طابوراً خامساً، لا سيما حين تتوفر امتدادات لها خارج الحدود، فألغت باسم الوطنية الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية.

ولم تكن العلمانية الموظفة سياسياً، والمختزلة في العداء للدين (لم ينج من التسييس)، والتي أُسبلت على القومية العربية، ومشروعات الوحدة، سوى واجهة لمجتمعات تقليدية غارقة في الانقسام والتقوقع على الذات، يسودها الاعتقاد بالخلاص الفردي على حساب الخلاص الجماعي.

في غياب الدولة المدنية التشاركية، وما يتناسب معها من تعددية تتيح للدولة حياداً تجاه عقائد مواطنيها، فلا تمارس إقصاء أو فرزاً لهم على أساس الانتماءات والولاءات، تغيب الهيكلية السياسية التي توفر المحمولات الدستورية والقانونية للمواطنة الحقيقية، لم تتوفر الفرص لبناء مجتمع تعاقدي، يضمن حقوق الأفراد، ولا لوطن يتسع للجميع. بل على العكس، فقد أدى استثمار الطائفية ورقة سياسية من الأنظمة، من خلال سياستها في اللعب على التناقضات، لتكريس سلطتها على حساب المجتمع والمواطن، إلى اختلال التوازنات، وتعميق الصراع بين الانتماءين، الوطني والفرعي، ما أفضى إلى أزمة هوية سياسية لمختلف الجماعات ضمن الدولة الواحدة.

عملت الطائفية السياسية على تراجع الشعور بالانتماء الوطني، لحساب الانتماء الديني والمذهبي والعرقي، الذي شكل تهديداً وجودياً مستمراً للمجتمعات العربية. وبفضل هذه الطائفية، وفي لحظات الانتفاضات أو الاحتجاجات الاجتماعية الكبرى، بدت المطالب الوطنية الجامعة ضبابية، سرعان ما توارت خلف المطالب الفئوية، والمصالح الشخصية، والنزعات الانفصالية، والأصوليات الدينية وعنف الأنظمة، فاستشرست “الأكثريات” في الحفاظ على وجودها، و”الأقليات” في الحفاظ على مصالحها ومكاسبها. أما التطهير العرقي والقتل على الهوية المذهبية والدينية والسياسية، فهي نتائج، يسقط معها وهم البقاء على الحياد، فيصبح الجميع في حرب ضد الجميع.

هل الطائفية أزمة هوية بقدر ما أصبحت أزمة في هيكلية النظام السياسي العربي؟ ألم تتحول   الطائفية أيديولوجيا للدولة جعلت منها طائفة، في مواجهة الطوائف الأخرى، وأقلية في صراع الأقليات؟ لماذا غابت سيرورة إدراك وتأمل واع للذات، تسمح ببناء هوية ثقافية وطنية، لصالح هويات ترتكز على الذات التي تُعرّف نفسها من خلال دورها في مواجهة الآخر؟ كيف حلّ فقه الطوائف مكان الأيديولوجيا في بناء عوالم رمزية متخيلة بآليات دفاعية جديدة، تسير بنا إلى الدويلات، بدل الدولة، وإلى الجماعة بدل الوطن، وإلى المليشيات بدل الأحزاب والسياسة، وإلى الثقافات البدائية بدل المشاريع الثقافية؟

الطائفية والطائفة المتخيلة

يتناول عزمي بشارة في هذا الكتاب الجديد* الكيفية التي تشكّل بها الطائفية طوائف دينية معاصرة، هي في حقيقتها كيانات متخيلة، بوصفها موضوعاً رئيساً. ويذهب إلى أن التبعية للدين عموماً لم تشكّل كياناً اجتماعياً قائماً بذاته، إلا أهلياً أو محلياً، ومن خلال بنى اجتماعية قائمة. أما الطائفة، فهي متخيل اجتماعي حديث، وطوائف هذا العصر الدينية هي واقع متخيل يقوم على انتماءات “تبعثها” الطائفية السياسية انطلاقاً من عناصر انتقائية في تاريخ الجماعة، وتعيد إنتاجها على مستوى مختلف كلياً، في شروط تاريخية- سياسية جديدة، وبوظائف جديدة.

يميز بشارة بين الطائفية الاجتماعية والطائفية السياسية. ففي حالة المجتمع التقليدي، لا معنى للفصل بين طائفية سياسية وأخرى اجتماعية، وحتى بين طائفة وطائفة، فلا وجود في تلك المجتمعات للطائفية بوصفها أيديولوجيا منفصلة عن البنية الاجتماعية ذاتها. الطائفية السياسية ممكنة في المجتمعات الحديثة التي لم تنجز فيها سيرورة الحداثة علمنة الوعي الاجتماعي، أو على الأقل، لم تتراجع فيها أهمية الروابط الأهلية لمصلحة الروابط التعاقدية على مستوى المجتمع المدني، ولا لمصلحة العلاقة بسلطة الدولة.

يُلحّ بشارة على دينامية التخيل وإعادة إنتاج الظاهرة في الوعي، فالرابطة بين أبناء الطائفة، بمعناها الحديث، هي علاقة معنوية تقوم على الانتماء بين أفراد لا يشكلون جماعة، بل جماعة متخيلة، وأن شرطها هو أفول الجماعات بمعناها القديم. فالطائفة الدينية المعاصرة هي جماعة متخيلة مؤلفة من أتباع دين أو مذهب وقد أعادت بناء منشئها وأصولها ونصوصها وسلسلة مؤسسيها وموروثها الشعبي الروحي بما يسبغ عليها بواسطة التخيل سمات التماسك والوحدة. إنها طوائف متخيلة مع أنها موجودة ومؤثرة في الواقع، لكن ليس بوصفها كيانات اجتماعية حقيقية، أو بنية هي ذاتها مصدر التصورات المتشكلة عنها، بل هي نتاج عملية إنتاج تصورات عند أناس بأنهم ينتمون إلى جماعة، تبدأ تصوراتهم عن الآخرين الذين تضمهم إليهم الجماعة من هذا الانتماء المشترك.

من هنا يرفض بشارة اعتبار الطائفية ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية، وملازمة لها، فلم تكن السياسة قائمة كمجال عمومي في عهود ما قبل الدولة الحديثة حيث لم تول الزعامات أهمية لتسييس العامة، أو تطييف طوائفها سياسياً، ولذلك لم تكن الطائفية السياسية ممكنة. فالطائفية ليست من إنتاج الطائفة، بل بالعكس، تستدعي الطائفية الطائفة من وعي الناس وتعيد إنتاجها كيانا متخيلا في شروط تاريخية وسياسية حديثة.

ثيولوجيا الخلاف على الإمامة

يذهب بشارة إلى أنه تمت عملية إسقاط الطائفية السياسية للانقسام الطائفي على التاريخ ليظهر وكأنه تاريخ طوائف، هذه هي حال صراع طائفي شيعي سنّي أُسقط على التاريخ الإسلامي. والإسقاط على التاريخ ليس سمة الحداثة وحدها، فقد جرت في القرنين الثالث والرابع الهجري عملية إسقاط الخلاف المذهبي المتبلور في حينه، وما رافقه من صراع سياسي على بدايات الإسلام، لتبدو تيارات القرن الرابع المذهبية وقد كانت دائماً أحزاباً ثابتة منذ وفاة النبي.

تم بذلك التأسيس لثيولوجيا الخلاف على الإمامة، مع أن الخلاف على خلافة النبي لم ينشب على أسس ثيولوجية، ولم يعلله أصحاب النبي دينياً، ولا نعثر في واقعة سقيفة بني ساعدة إلا على تعليلات قبلية، بينما اتخذ الصراع ضد عثمان وضد الأمويين بالقرابة والمصالح، والسياسية التي تراوح بينهما، وليس بالفقه والعقيدة. وكان الصراع طوال العهد الأموي صراعاً قيسياً- يمانياً، لم يتخذ شكلاً مذهبياً، أو طائفياً واضحاً.

حتى التأسيس الثيولوجي المتأخر للصراع على الإمامة تحول إلى مذاهب في تفسير النص، ولاحقاً إلى اختلاف لاهوتي مذهبي، ولم تتحول هذه الاختلافات إلى طوائف اجتماعية عابرة للمحلات الصغيرة إلا بعد قرون أخرى. بل ما تشكل جماعةً هو الجماعات الدينية الصغيرة المتجاورة، التي تغطي مناطق محددة، وتتمازج ببنى قرابية مثل العشيرة والقبيلة، أو تجمعات القرى التي تنسب نفسها عشائرياً، وبهذا المعنى اتخذ الخلاف الشيعي السنّي شكل جماعات اعتقادية واضحة في بغداد فقط، حيث اتخذت الخصومة شكل مناوشات واقتتالات بين جاراتها وحاراتها في القرن الرابع الهجري، بين الشيعة والحنابلة، وليس بين الشيعة والسنّة كما يُسقطه بعض الباحثين على التاريخ.

تفكيك الانقسام السنّي- الشيعي

في ضوء مفهوم الطائفة المتخيلة، يمضي بشارة في تفكيك الانقسام السنّي- الشيعي، فيدحض أن يشكل الشيعة والسنة طوائف بمعنى جماعات. لم تكن السنّة طائفة ولا إسلاماً أصلياً انشقت منه الفرق الأخرى، بل إسلام الفقهاء في مواجهة ما اعتبروه زيفاً وانحرافاً، إنه مذهب الفقهاء المحدثين والمتكلمين المناهضين تارة للفكر المعتزلي، وأخرى للزيدية والشيعية والإمامية وغيرها. أما الردود الشيعية الثيولوجية اللاحقة، فظل محورها علاقات القرابة العائلية المقدسة (آل النبي)، ووصيته لابن عمه عليّ، ولاحقاً السمو بعلاقة القرابة في النور الإلهي الكامن في علاقة الأرحام.

لم تتعدّ دلالة لفظ الطائفة الفئة أو الجزء من كل إلى دلالات اجتماعية أكثر عينية، ليعني جماعة اعتقادية، إلا في العصر الحديث. ولم يعوّل عليها المصنفون في فرق الإسلاميين، بل استعاضوا عنها خصوصا بلفظة “الفرقة”، الذي يعني ببساطة الأتباع، أو الأحزاب، أو الطائفة، بمعنى جماعة من الناس. لقد نشأت الفرق الإسلامية بوصفها انقسامات عقيدية لا كيانات اجتماعية.

تبنت الفرق تفسيرات وتأويلات اعتقادية ومذهبية فقهية للنصوص المقدسة في مجرى التناقضات الاجتماعية والسياسية، لتغطية صراعاتها السياسية الاجتماعية، أو مواقفها المتخيلة من هذه الصراعات، وأدوارها وبقايا معتقداتها السابقة على اعتناق الإسلام، وهويتها، وعصبياتها التواشجية، وغالبا ما تطابقت هذه الانقسامات مع الانقسامات القبلية.

تَحوّل حديث الفرقة الناجية الموضوع في أواخر القرن الثالث الهجري إلى “باراديام” يختزل شبكات مفهومية واعية، ولا واعية، تعمل على مستوى التاريخ اللاحق الطويل في تعريف الجماعات، أو الفرق السنية والشيعية نفسها، ونشأ نوع كامل من الأدبيات الإسلامية أساسه حديث مشكوك في صحته، وأصبح موضوع التصنيف هو التمايز الاعتقادي للشيعة (على تياراتها)، والسنّة، منذ النصف الثاني للقرن الثالث الهجري، وجد مع البغدادي في كتابه “الفَرْق بين الفِرَق”، في القرن الخامس الهجري، مرحلة حاسمة في تطوره بتشكل السنة والشيعة جماعتين مذهبيتين في بغداد حصراً.

رغم التوظيف الديني للحديث المذكور، لم يتطور مفهوم الطائفة من دلالته الوصفية المحايدة لتتضح ملامح مضمونه المعياري السلبي، إلا في مراحل متأخرة (يصعب العثور عليها في القرن الرابع الهجري) في مجرى تحولات الاجتماع السياسي الإسلامي، بعد نشوء مفهوم الأمة الإسلامية وتفرقها إلى “ملوك طوائف”، فأسقط المفهوم السلبي على انقسام الأمة إلى فِرَق.

يوضح بشارة أن الفرقة هي الجماعة الدينية النقية القائمة على رابطة الدين وحدها، وهي كيان اجتماعي صغير نسبياً، وقائم في الواقع على أساس واحد، هو اتّباع الدين أو المذهب. تعود الحداثة، على كل حال، وتمكن الناس من تصور الفرقة في مجتمعات غير مُعَلْمَنَة ثقافيا فتقوم جماعات متخيلة من اتّباع دين معين من دون حتى شرط الإيمان، ومن دون أن يكون مثل هذا الكيان الاجتماعي قائماً، لينتقل المشرق من القبائل إلى الديانات، وتُحوّل الطائفية الديانات من جديد إلى قبائل. إنها تصنع قبائل لم تكن قائمة من قبل، هي الطوائف الدينية المتخيلة.

مع ضعف الدولة العربية نشأت حالة تداخل بين الصراع الإقليمي والتقسيمات الطائفية في البلدان العربية، ما هدد بالعودة إلى حالة الصراع السابقة بين العثمانيين والصفويين، وتأثيراته الهدامة في النسيج الاجتماعي العربي، حيث تعيد بعض القوى والجماعات تخيل الصراعات ذات الطبيعة المذهبية السنية- الشيعية، اليوم، في ضوء فهم غير علمي ولا تاريخي (أسطوري غالبا) للصراع العثماني – الصفوي.

التطييف بين الاجتماع والسياسة

يذهب بشارة إلى أنه في حالة السنَّة تمأسست الحدود المذهبية الواضحة في ظل حكم المماليك للشام ومصر، من خلال إعادة صياغة الهوية المذهبية ضد الفرق الشيعية والعلوية الغالية في المشرق، في مرحلة الصراع مع المغول تحديداً، أما في حالة الشيعة، فبدأت هذه العملية في بغداد في ظل حكم البويهيين، واكتملت وتمأسست في ظل حكم الصفويين.

في ظل هذا الانقسام المذهبي (وقبله وبعده) لا يجد بشارة صحة في افتراض انقسام ديني سياسي في الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها ظاهرة أيديولوجية، أو واقعا اجتماعيا متميزا بثبات نسبي على شكل طوائف، إلا مع القرنين السابع والثامن الهجريين (ولكن دون أن نستخدم المصطلحات والمفردات ذاتها)، وصولا إلى العهد العثماني – الصفوي، حيث أَخضَعت كلا السلطنتين المؤسسة الدينية وجهازها للدولة، في ظل هيمنة الثقافة الدينية اجتماعيا، لينقسم المجتمع في تأييده ومعارضته للحكم القائم على شكل جماعات، راحت تبرر ذاتها وتُشَرْعِن اختلافاتها مع الآخرين بتفسيرات مختلفة للدين، انتهت إلى تبرير ذاتها بحقوق مسلوبة، ومظلومية تاريخية، وغيرها.

كان للمؤسسة الدينية دور في تشكيل الطائفة الدينية، شيعية وسنية (مع ضرورة التمييز بينها وبين الطائفة بوصفها أيديولوجيا سياسية، ونظاماً اجتماعياً سياسياً). عملت هذه المؤسسة على تحديد العقيدة، وتقريب مفهومها إلى العامة بأن ربطت معها العبادات التي يفترض أن تكرر الرواية التاريخية لهذه العقيدة، وحراستها من الانحراف.

لكن ألم تتحول فرق إسلامية في مراحل معينة إلى سلالات حاكمة (قرامطة، فاطميون، حمدانيون..)؟ برأي بشارة، لا يعني ذلك تحول السلطان إلى طوائف دينية لهذه المذاهب، خلافاً لحالة التطيّف التي عرفتها المجتمعات في أوروبا على مبدأ (الناس على دين ملوكهم)، فلم تكن السياسة قائمة بوصفها مجالا عموميا في عهود الخلافة الإسلامية، والدولة السلطانية، حتى العثمانية ما قبل التنظيمات الحديثة، ولذلك لم تكن الطائفية السياسية ممكنة، أما ما كان ممكنا منها فتجلى في التنافس بين الزعامات التي انتمت إلى جماعات إثنية، أو قبلية، أو دينية، على النفوذ والمواقع والحظوة عند السلطان. تسييس العامة أو تطييف طوائفها سياسيا، لم يخطر ببال تلك الزعامات، لأن مجال السياسة لم يكن مفتوحا للعامة أصلا. إن مشاركة العامة في السياسة، وبالتالي تسييس الطوائف عموديا، هو نتاج العصر الحديث.

مورست الطائفية الاجتماعية من خلال الحفاظ على حدود بين أتباع الطوائف المختلفة، وتجلت في الأعراف والعادات التي تحفظ هذه الحدود، فالفارق بين الطائفة والطائفية الاجتماعية ضئيل جدا، من حيث إن الطائفة تنظيم اجتماعي ينتج وعيه الاجتماعي أيضا، وليست كائناً دينياً محضاً. أما الطائفة السياسية، فظاهرة جديدة، لكنها ليست بلا جذور، فالحركات السياسية الأولى في الإسلام كانت فرقا دينية، ولكن عناصر السياسي والديني لم تنفصل في الوعي، بل كانت وحدة واحدة، وما يميز الطائفية السياسية هو الوعي بالطائفة الدينية كياناً اجتماعياً، وتسييسه، وهذا ما يعيد إنتاجها ظاهرة جديدة.

لم تكن الطائفية الدينية، بمعناها المعاصر، في المراحل التاريخية السابقة على القرن التاسع عشر، بنية اجتماعية أساساً، إلا في حالات الأقليات في أماكن الإقامة، بوصفهم جماعات محلية، وكذلك في حالة الفرق الدينية الباطنية والغالية، وما رسب من مفهوم الطائفية المعاصرة هو التعصب لجماعة تعرف بالدين والمذهب الذي تنتمي إليه، أو يتبعه أعضاؤه، والمقصود فعلا هو التعصب للجماعة، الذي لا يعني بالضرورة التعصب للمذهب نفسه.

يبين بشارة أن ما يميز الطائفة الدينية أنها جماعة هوية، تميز نفسها وتحدد الآخرين عبر الانتساب إلى العقيدة، أو المذهب، الذي يبرز بوصفه محدداً اجتماعياً وسياسياً ذا أهمية، يتحول في المجتمعات المتدينة والمتعددة الديانات، في الوقت ذاته، إلى كيان اجتماعي سياسي، له دور في المجال العمومي. ونصل مع بشارة إلى نقطة حاسمة منهجياً ومعرفياً، وهي أن الأيديولوجيا تنتج في عصرنا من السعي إلى ردم الفجوة بين الوعي والممارسة الاجتماعية، لتعمل بشكل مبدئي على إعادة صياغة الواقع بما يتلاءم مع الممارسة، أو تلائم الممارسة مع تصورات الواقع. هذه الفجوة بين الممارسة والوعي الاجتماعي لم تكن موجودة في السابق، فلم تنفصل الهويات، ولا انتماءات الفرد، ولا كان الوعي مخالفا للممارسة اليومية.

الطائفية بوصفها أيديولوجيا

يؤكد بشارة أن هناك ظروفاً تاريخية محددة لبروز الطائفة كجماعة مرجعية للفرد، ومن ثم نشوء الطائفة كأيديولوجيا، فلم تكن الطائفية، ولا حتى المظلومية الطائفية، تحتل مكان الصدارة في المشرق العربي في الماضي القريب، إذ حيّدتها تفسيرات أخرى لطبيعة الدولة وسياساتها، مسنودة بأيديولوجيات غير طائفية غالباً، وانتماءات أخرى همّشت الطوائف بين الانتماء المحلي، والانتماء القومي والوطني، وتغلّب عليها أحياناً حتى الانتماء الحزبي السياسي القومي أو اليساري، وبدا أن الطوائف الدينية بوصفها كيانات اجتماعية سياسية متجهة إلى زوال. لكنّ الطائفية ظلت قائمة في الخفاء أو العلن، وعندما سنحت لها الفرصة التاريخية للتحول إلى خطاب سياسي ووعي يحكم القيم السلوكية في الحياة اليومية، أعادت إنتاج الطوائف على نحو مختلف كلياً عما كانت عليه، لقد أعادت إنتاجها طوائف متخيلة.

الصراعات الطائفية في العالم العربي اليوم تعبر عن سيرورة معاكسة للتجربة الأوروبية. هناك، قادت الحروب الدينية إلى الدولة بحثاً عن السلم الأهلي. أما هنا، فقاد فشل الدولة الوطنية في بناء الأمة إلى العجز عن دمج الجماعات على أساس المواطنة، في محيط إقليمي يتّسم بالصراع (لا سيما الإيراني السعودي)، والتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، مما أدى إلى استثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة، ليتطور لاحقا إلى صراع على تاريخ البلاد، شكله “نحن” مقابل “هم”.

يتساءل بشارة عن مدى تغلغل الخطاب الوطني والقومي المعادي للطائفية الذي ساد مع بدايات الدولة الوطنية بعد أن أخفق استبداد الدولة في دمج أمة مواطنية تحترم فيها الفوارق الدينية، والهويات الفرعية. لم تتجذر الروح الوطنية حين عمل حكم العسكر على مطابقة الفوارق الاجتماعية مع الطائفية، بالمقابل، نشأت “الأكثريات” و”الأقليات”، بتحويل الأكثرية إلى طائفة في الموقف من النظام السائد، بوصفه نظام أقلية، حين استند قادة هذا النظام إلى ولاءات وشائجية ومحلية توسعت إلى ولاءات طائفية.

رغم سيادة الخطاب الرسمي المعادي للطائفية، ركزت المواقف من النظام على التناقضات بين قمعية الدولة، وخطابها غير الطائفي والمعادي للطائفية، مما جعل هذا الخطاب ضحية لموقف الناس المغترب عن خطاب الدولة الرسمي، ووجد عقل المُضطَهَد الطريق لربط الاضطهاد بجماعات هوية حاكمة (طائفية أم جهوية أم غيرها)، وفي خضم الصراع للحفاظ على قاعدة النظام الاجتماعية لم تتورع الدولة عن استخدام الانتماءات الطائفية والأهلية، كما استخدمت الخطاب الديني حين لزم الأمر. الدين بدوره يتحول على يد المعارضة، بعد تسييسه وتشويهه، إلى أداة سياسية تعبوية.

غابت مشاركة المواطنين سياسياً، وثقافياً، وفي غياب التمثيل ظلت الدولة بنية خارجية، وفي مناخ انتهى فيه الأمر إلى استثارة عصبيات طائفية على يد الحكم والمعارضة، مثّلت الجماعات الأهلية، والمجتمعات المحلية القائمة (والمتخيلة) بالنسبة إلى المواطن الفرد بديلاً أخلاقياً، ومرجعياً قيمياً، لكنه لا يقوم، في هذه الحال، على عرف الجماعة وتقليدها، بل على سرديات مستحدثة عن ماضيها المركب بفعل هذه السرديات، وعبر قيمية مستنسخة منه، كما يقوم على التمييز من الجماعات الأخرى بـ “التآخي” و”التنافر”.

تقوم تلك السرديات ببناء الهوية مولدة جماعات متخيلة تقمع الخيار الإيماني الفردي، لتنافس الانتماء إلى الجماعة الوطنية الأوسع، لتصبح الطائفة، في مرحلة متقدمة، مركباً اجتماعياً أيديولوجياً فاعلاً في خصومة مع المواطنة، وضد الدولة الحديثة في الوقت ذاته.

التحدي الأخلاقي في دولة المواطنة

يشوه استبداد السلطة كل شيء، حتى العلمانية برأي بشارة تُفرّغ من محتواها، لتصبح تقديسا للدولة أو للنظام، مع نزعة استهلاكية متحللة من القيم تحل مكان المبدأ العلماني الإنساني، المتمثل بإمكانية إقامة مرجعية أخلاقية خارج النص الديني، ومركزية الإنسانية في الإنسان، والإنسان في الكون، وحقه في السعادة.

يأخذ تطور بنية الانقسامات والاصطفافات أشكالا جهوية، وطائفية تعيد بناء العصبية الحزبية على أساس استثارة تلك العصبية الطائفية بإهاب جديد، ليس للأيمان بها، بل لاستخدامها في الصراع على السلطة الحزبية والسياسية. وفي غياب الاتفاق على المعايير الأخلاقية المترتبة على الانتماء للأمة تبرز مشكلة أخلاقية حقيقية، تغيب معها الضوابط الذاتية، والمحاذير الضرورية للحفاظ على المجتمع، ويصبح كل شيء متاحاً في التنافس السياسي.

هكذا تبرز المسألة الطائفية لدى بشارة أزمةً سياسيةً، وفي الوقت نفسه أزمةً أخلاقيةً تعكس وظيفة الهوية بإحلالها مكان القيم، والتعصب محل المعايير الأخلاقية، ما يؤدي إلى طمس الحدود بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، لتحل محلها الحدود بين “نحن” و”هم”. ولا يرى بشارة حلا لهذه الأزمة المزدوجة خارج الدولة، والمواطنة الديمقراطية ومفهومها، سواء أقامت المواطنة على أساس التعددية الثقافية واللغوية والقومية، أم على أساس اندماجي.

كانت الدولة هي الحل التاريخي للحروب الدينية في أوروبا، ولكن الانتماء العابر للطوائف يتضمن بعداً هوياتياً قومياً أو وطنياً، أو كليهما، وتحتاج المواطنة إلى هيمنة منظومة قيمية تشكل أساساً لها ولدستورها، فلا بد في الحالة العربية من الجمع بين القيم الإنسانية الكونية التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية، والميراث التاريخي العربي الإسلامي. هذا هو التحدي.

*كتاب “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة”، المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات (ط1: بيروت، آذار/ مارس 2018)

 

المصدر: صفحات سورية