تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
2 يونيو, 2025

الدولة والدولة العربية في مشروع بشارة الديمقراطي: مقاربات فلسفية سياسية

محمد عثمان محمود

ملخص 

تتناول الدراسة موضوع الدولة في مشروع عزمي بشارة الفكري الديمقراطي، من خلال مقاربات فلسفية سياسية في اليوتوبيا والرولزية والمواطنة والمجتمع المدني والعدالة، ولا سيما ضمن السياق العربي، وتنطلق من الأسئلة التالية: ما موقع أطروحات الدولة عند بشارة في سياق مشروعه؟ وما علاقة الدولة، بما هي مواطنة في جزء مهم من تعريفها، بالمجتمع المدني والعدالة؟ وما وجه المقارنة بمقاربات جون رولز واليوتوبيا السياسية؟ وتحاجّ الدراسة بأن الإجابة (الفرضية) هي: لم ينشغل رولز بنظرية الدولة، بل بأسئلة مطروحة في إطار الدولة الديمقراطية الليبرالية الراسخة (العدالة إنصافًا بوصفها يوتوبيا سياسية واقعية)، في حين يركّز بشارة جهده على تطوير نظرية الدولة وبلورة مفهومها (أطروحاته في الدولة بوصفها يوتوبيا سياسية واقعية أيضًا). هدف بشارة الرئيس هو تأكيد شروط الوصول إلى نظم ديمقراطية في السياق العربي، والمسألة عنده تبدأ منطقيًا بالدولة، وما له صلة بنشوئها وتطورها (العلمنة، والأمة، والقومية والطائفية ... إلخ)، وتنتهي بالديمقراطية وما له صلة بها (المواطنة والمجتمع المدني والعدالة والانتقال الديمقراطي ... إلخ). وتتوسل الدراسة، من أجل تأكيد فرضيتها ومقارباتها والإجابة عن أسئلتها، منهجية جدلية (محاجّات) تحليلية مقارنة.

كلمات مفتاحية: دولة، دولة عربية، ديمقراطية، جون رولز، عدالة، عزمي بشارة، مجتمع مدني، مواطنة، يوتوبيا سياسية.

مراجعة: محمد عثمان محمود* في العدد الثاني والخمسون من الدورية المحكّمة تبيُّن للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية.

* أكاديمي وباحث في الفكر الفلسفي والسياسي، ومحرر ومدقق بالعربية. من أهم مؤلفاته: محمد عثمان محمود، العدالةالاجتماعية الدستوريةفي الفكرالليبرالي السياسيالمعاصر (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014).
___________________________________________________________________________________________

مقدمة

يتابع بشارة، الذي تتناول أعماله قضايا ذات أهمية نظرية وعملية راهنة عربيًا، مشروعه الذي يمكن وصفه بـأنه مشروع عربي تنويري ديمقراطي، من خلال إصدار مؤلَّفه الأحدث الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار (2024)؛ ما يأتي إيفاءً منه بما وعد في مؤلَّفه التأصيلي مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات (2023). يتوّج بشارة في هذين المؤلفَين المتكاملين مشروعه الذي بدأت ملامحه العامة وأطروحاته ومقولاته الرئيسة تدخل حقل التداول العربي والتأثير فيه لدى المشتغلين بالعلوم السياسية والاجتماعية والإنسانية عامةً، والفلسفة السياسية والنظرية السياسية خاصةً، منذ حوالى ثلاثة عقود، أي منذ أن صدر المجتمع المدني: دراسة نقدية (1996)، وبعد أن صدرت المؤلفات الآتية تترى: في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (2007)، والدين والعلمانية في سياق تاريخي بجزأيه ومجلداته الثلاثة (2013-2015)، والانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (2020)[1]

مشروع بشارة عربي أولًا، لأن المسألة العربية تقع في موضع القلب منه، في سياق اهتمامه الفكري السياسي العام ودراسته نماذج وتجارب نظرية وعملية عالمية تاريخية وراهنة مقارنة، والإفادة منها في السياق العربي، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "لا مجال إلا لتفعيل العقل في استنباط نماذج نظرية، انطلاقًا من قيم كونية، مع نظرية استقرائية للواقع العربي"[2]. ومشروعه تنويري أيضًا، لأن أحد همومه الرئيسة يتمثل في إزالة المغالطات والالتباسات المتعلقة بالمفاهيم المهمة المتداولة في الخطاب الفكري والسياسي والإعلامي والثقافي والشعبي والشعبوي والثقافوي النخبوي العربي وغير العربي، منذ إصداره المجتمع المدني: دراسة نقدية، الذي يوضح فيه الأهمية الحاسمة لربط المفهوم بالسياسة وما له من صلةٍ بالدولة، وبوصفه طريقًا إلى الديمقراطية وبوصف الدولة شرطًا له. بعد ذلك، ولا سيما في مرحلة الربيع العربي وما تلاها، تناول بشارة مفاهيم الشعبوية والسلفية والطائفية والحرية والعدالة والثورة (ثورات الربيع العربي خاصةً) وعلاقة الجيش بالسياسة والعلمانية والدولة عامة والدولة العربية خاصة، وميّز بين القومية والأمة وأكد أهمية مفهوم أمة الدولة، وهي أمة المواطنين في دولة، في مقابل المفهوم التقليدي بشأن الدولة-الأمة التي باتت مرادفًا للدولة القومية في التداول العربي، وعلاقة ذلك بالمواطنة التي يحاجّ بشأن أهمية إدراجها في تعريف الدولة الحديثة المعاصرة وأطروحاتها. أخيرًا، لا حاجة إلى قول آخر لتوضيح أن المقولة الرئيسة المفتاحية في مشروع بشارة هي الديمقراطية (عامة وفي السياق العربي خاصة)، وما يرتبط بها من موضوعات الدولة والمواطنة والمجتمع المدني والعدالة[3].

ما تزال الدراسات المهتمة بمشروع بشارة تخطو خطواتها الأولى مقارنةً بغزارة إنتاجه وضرورته وجدّته وأصالته. وجلُّ ما نشر مما له صلة حتى الآن، بما له من أهمية كبيرة، مراجعات كتب ومناقشاتها. ومن أمثلة ذلك قراءات وجيه كوثراني ومحمد جمال باروت ومحمد الطاهر المنصوري (1955-2016) للمؤلَّف الموسوعي الذي لاقى انتشارًا وتأثيرًا أوسع من غيره، وهو الدين والعلمانية في سياق تاريخي، إلى جانب قراءة عبد الوهاب الأفندي لكتاب الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، وحيدر سعيد لكتاب الطائفة، الطائفية والطوائف المتخيلة وآفاق الدراسات ذات الصلة بعده، وطارق متري وخالد زيادة وأنطوان سيف وساري حنفي لكتاب مسألة الدولة. هنا، ثمة ما هو جدير بالملاحظة في فهم مقاربات بشارة، بما هي مقاربات عابرة للتخصصات والمناهج، فالقراءات التي تناولت مشروعه في مؤلَّفه الموسوعي هذا (الدين والعلمانية في سياق تاريخي) جاءت في سياق الدراسات السياسية والقانونية (الدستورية خاصةً)، ولا سيما فيما تطرق إليه بشأن الدولة، والأمر ذاته ينطبق على جزء مهم من مؤلفاته. لم تأتِ أهمية هذا العمل، وانتشاره الواسع والسريع وتأثيره الكبير من جهة أنه مهم في ذاته وموضوعه فحسب، بل من جهة أنه تأسيسي إرهاصي لكثير من مقاربات بشارة في الديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني والطائفية، والدولة عامة والدولة العربية خاصة. يُضاف إلى ذلك أن "قصة الدولة"، في وجهٍ رئيس من وجوهها، هي "قصة العلمنة وتمايز المجال السياسي من مجالات أخرى، مثل الدين والأخلاق"[4]. ثمّ "إن أي مقاربة مفيدة للدولة، حتى لو انطلقت من الفلسفة السياسية المشتقة من فلسفة الأخلاق، يجب أن تجمع بين الاستفادة من عمل المؤرخين بشأن نشوء الدول ونظريات علم الاجتماع، وكذلك العلوم السياسية والقانونية"[5].

يناقش سهيل الحبيّب هذا المؤلَّف الموسوعي الدين والعلمانية في سياق تاريخي، في كتاب عنوانه العلمانية من سالب الدين إلى موجب الدولة: راهنية مشروع بشارة عربيًا[6]، ومصطفى أيت خرواش في كتاب عنوانه نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية[7]. يتناول الأول، على نحو رئيس، العلمانية عند بشارة في هذا المؤلَّف[8]، ومؤلَّفين آخرين هما: في المسألة العربية والمجتمع المدني، الأمر الذي لا يغطي موضوع الدراسة التي بين أيدينا تغطيةً مباشرة، باستثناء ما له صلة بالانتقال من "سالب الدين إلى موجب الدولة"، وخصوصًا في الفصلين الثاني والسادس، ما يمكن عدُّه النقطة التي يتوقف عندها المؤلف، قبل أن تُتابع مقولات بشارة ذات الصلة لاحقًا، في مسألة الدولة والدولة العربية، وهما لاحقان منطقيًا ويكملان الدين والعلمانية في سياق تاريخي. وينطبق الأمر ذاته على كتاب خرواش، باستثناء أنه لا يرهص لموضوع الدولة و"الوعي الدولتي" الذي قاربه الحبيّب، فهو معني أساسًا بتتبع ملامح نظرية بشارة في العلمانية والظاهرة الدينية، إلى جانب وقوفه المهم على مقارباته الناقدة المفندة للمغالطات السائدة ذات الصلة، كونيًا وعربيًا (نقد السرديات الكبرى). 

يضاف إلى ذلك بعض الأبحاث التي لا تغطي مباشرة موضوع الدراسة التي بين أيدينا، ولا تتطابق معها في الأسئلة والأهداف والمقاربات البحثية، وإنما تتقاطع معها ضمن السياق العام لمقاربات بشارة بشأن الدولة والديمقراطية والعدالة والمجتمع المدني، وأهمها دراسة الحبيّب "مشروع عزمي بشارة في التحول الديمقراطي عربيًا: دراسة مقارنة في زمن البحث عن شروط القابلية لتطبيق الديمقراطية"[9]، ودراسة يوسف بن عدي "نقد المفاهيم في المشروع الفكري العربي: عزمي بشارة نموذجًا"[10]، ودراسة محمد حمشي "المجتمع المدني والدولة في الجنوب الكبير.. ما القيمة المضافة لكتاب المجتمع المدني: دراسة نقدية في دراسات الجنوب الكبير؟"[11]. يأتي عمل بشارة في مسألة الدولة بوصفه الأساس الذي يسبق منطقيًا أعمالًا مرجعية أخرى، فضلًا عن أن هذه الأعمال مكملة له، في سياق الهدف الرئيس للمشروع (الديمقراطية)، ولا سيما المجتمع المدني والانتقال الديمقراطي والدولة العربية، إلى جانب إمكان عَدّه محايثًا لأعمال أخرى، أو لاحقًا بها، ومكملًا لها، وخصوصًا الدين والعلمانية في سياق تاريخي والطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة.

أولًا: أطروحات الدولة: المثال السياسي المعياري واليوتوبيا السياسية الواقعية

لا بد من تكثيف ما خلص إليه بشارة في مسألة الدولة وأكده في مقدمة الدولة العربية، بوصفه أساسًا مرجعيًا في فهم أطروحاته التي يخلص إليها في السياق العربي. إنّ الدولة الحديثة المعاصرة، بما هي محاكاة للنموذج الذي تطور في أوروبا، جاءت نتيجة تمايز السياسي من غيره وإخضاعه له، بما في ذلك الديني (علمنة بما هي فصل وإخضاع)، وهي تحتكر العنف القانوني والتشريع في نطاق حدودها[12]، إلى جانب مؤسساتها اللاعنفية، وجبايتها الضرائب وما لها من مؤسسات أخرى وبيروقراطية وحدود ترابية، وهو أمرٌ بات نموذجًا ناجزًا جلب فرضه نزاعات. وتتمايز هذه الدولة من النظم والأشخاص، وتقوم على المشترك بين الحكام والمحكومين، وهو ما يتمثل في المواطنة بوصفها عضوية في دولة، لا جماعة قومية (وأي انتماء دون وطني أو متجاوز له)، وإن تطابقتا في حالات، والسيادة فيها ليست للحاكم، بل لهذا المشترك وما يقتضيه من سيادة للقانون، أي للمواطنة التي تعني الانتماء إلى أمة الدولة أو أمة المواطنين لا الدولة-الأمة أو الدولة القومية التي نشأت تاريخيًا بوصفها انتماءً إلى الجماعة القومية؛ ما يقتضي شمول تعريف الدولةِ المواطنةَ والوقوف على التوتر القائم بين مفهومها (المواطنة) ومفهوم السيادة، فالمواطنة مركّب من الحقوق والواجبات التي تنظم العلاقة بين الفرد والدولة، إلى جانب التوتر بين مفهومَي الدولة وواقعها. ومن شأن الأيديولوجيا كذلك قصر مفهوم الدولة على مبدأ واحد، وهو أمرٌ يجدر بالفلسفة ذات الصلة تلافيه. ولا تنشأ الدولة بمعزل عن منظومة دول تتبادل الاعتراف بالسيادة، ولديها مصالح في المحافظة على إطار كل دولة منها[13]. والأهم في هذا السياق أن الدولة العربية المعاصرة محاكاة لنموذج الدولة الناجز[14]، وهذا ينطبق على الدول العربية بنوعَيها العريق؛ وهو نوع ذو نواة ترابية قبل الاستعمار وفي أثنائه وبعده (مصر وتونس والمغرب) والأقل عراقة؛ وهو ما نشأت حدود سيادته من تقاسم وتقسيم وتجميع استعماريَّين (سورية والجزائر وليبيا والأردن والسودان مثلًا)، مع ملاحظة أن الفرق بينهما يكمن في مدى قوة الشرعية التاريخية للدولة، وأن الأطروحات أعلاه تحاجّ بشأن عدم اقتصار الشرعية على التاريخية منها، وأنه لم يعد ثمة فرق بين هذه الدول لناحية مصادر شرعيتها والإجماع عليها[15]

يخلص بشارة إلى هذه الأطروحات باتباع أدوات منهجية كثيرة تكاد تغطي الممكنات ذات الصلة كلها، الأمر الذي حقق له توازنًا فكريًا أو تأمليًا واسعًا[16] تتسم به النظرية السياسية المعيارية وفلسفتها السياسية[17]، ومكّنه من الإحاطة بموضوع الدولة من جوانبه كلها تقريبًا، فلم يغفل عمّا له صلة بهذا الموضوع من بدائل واقعية ومثالية ونظرية وعملية وأيديولوجية وفلسفية وتاريخية وراهنة، وذلك بطريقة نقدية، سلبيًا أو وإيجابيًا، ولجأ إلى "التحليل التاريخي لنشأة [الدولة الحديثة] وتطورها، والاستقراء من الدول القائمة"، وتطوير مفهوم نظري بشأنها، "وهو يختلف، بما هو نظري، عن واقع الدول القائمة"[18]، الأمر الذي ما إن يُسِّر له الشيوع حتى نشأ توتر بينه وبين الواقع؛ إذ لم يعد تعريف الدولة مقتصرًا، نظريًا ووفق مقتضيات الواقع وتطوراته، على احتكار العنف الشرعي (ماكس فيبر، من دون اختزال تام) والسيادة (بطريقة اختزالية، من جان بودان Jean Bodin (1530-1596) إلى كارل شميت Carl Schmitt (1888–1985))[19]؛ لأن وظائف أخرى باتت متوقعة من الدولة، وأهمها ما له صلة بالشرعية والمواطنة[20]. إن ما يخلص إليه بشارة من أطروحات يمثل، وفق تعبيره، ما "ينبغي أن تكون عليه"[21] الدولة من ناحية مفهومها نفسه، وهو أمرٌ لا يخرج في جوهره عن دور رئيس يؤديه فيلسوف السياسة، وهو تقديم المثال السياسي أو الـ "ما ينبغي السياسي" أو "اليوتوبيا [السياسية] الواقعية"، وهي "سبر لحدود الإمكان السياسي العملي" وتأمل في الممكن الذي لا توجد حدوده في الواقع على نحو دائم، بحسب جون رولز (1921-2002) في العدالة بوصفها إنصافًا[22]، فـ "ما يظهر من الواقع، في أحايين كثيرة، يكون فقيرًا إزاء الممكنات الكامنة فيه"[23]كذلك، فإن ما قصده مانهايم بمصطلح "اليوتوبيا النسبية" هو ذلك التصور الذي يسعى لكسر قيود الواقع القائم وتجاوز حدوده. وهذا النوع من اليوتوبيا يتميّز من الأيديولوجيات التي تُعدّ وعيًا زائفًا يعمل على إخفاء حقيقة الواقع وتشويهه[24]، وهو يختلف أيضًا عن اليوتوبيات المثالية التي تطرح تصورات خيالية بعيدة من إمكانات التحقق الفعلي.

في حال اتفاق بشارة والمهتمين بمشروعه، كليًا أو جزئيًا، مع حسبان أطروحاته، في صورتها المثالية التي استمدها من الواقعي والراهن والتاريخي والاجتماعي والسياسي والنظري الفلسفي والفكري العام، يوتوبيا واقعية نسبية كامنة في مفهوم الدولة نفسه وممكنة من حيث المبدأ في كل دولة على حدةٍ (عند رولز، هي دولةٌ ناجزة فعلًا لمجتمع ذي تقاليد ديمقراطية ليبرالية يراد لها أن تكون عادلة اجتماعيًا وفي المستويات المؤسساتية كلها)، وخصوصًا أن الواقع يشي بتأكيد الدولة وشرعيتها في السياق الدولي، حتى في حالات دول مخفقة وفاقدة لشيء من احتكارها العنف الشرعي ضمن نطاق سيادتها، فإنه (بشارة) لا يبدو متفائلًا بشأن إمكان اليوتوبيا الواقعية في العلاقات بين الدول أو المجتمعات في المستوى الكوني، بالصورة التي حاول رولز المحاجّة بها بين الشعوب الديمقراطية الليبرالية المساواتية وما دعاه "المجتمعات الهرمية التشاورية السمحة"، في كتابه المهم قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام. فالعلاقات الدولية المعاصرة لا تسير في هذا الاتجاه ولا تحاكيه، وهي تشهد انتهاكات خطِرة سافرة للقانون الذي تواضعت عليه ودعته قانونًا دوليًا، ولا سيما ما يرتبط بانتهاك سيادة الدول وحقوق الإنسان وتقرير المصير[25]، مثل احتلال العراق وانتهاك سيادته من خارج إطار الشرعية الدولية المزعومة، والتعامي عن الجرائم الإسرائيلية المستمرة حتى الآن في حق الفلسطينيين (تهجير، وتطهير عرقي، وفصل عنصري ... إلخ)[26]، فضلًا عن المساهمة فيها ودعمها (دول غربية)، وغير ذلك كثير.

ثانيًا: أطروحات الدولة بوصفها يوتوبيا سياسية واقعية كاشفة للزيف الأيديولوجي: بين بشارة ورولز

جاءت المقاربة الرولزية، بوصفها يوتوبيا سياسية محورها قيمة العدالة في دولة راسخة مستقرة نسبيًا ومجتمعها ذو تقاليد ثقافية ليبرالية ديمقراطية (توازن نسبي معقول بين الحريات وصور المساواة)؛ ما من شأنه تفنيد المزاعم الأيديولوجية للنيوليبرالية (فريدريش فون هايك Friedrich August Hayek (1899-1992)، وميلتون فريدمان Milton Friedman(1912-2006)) والفلسفة الليبرتارية التي تؤسس لها وتسوغها (نوزيك) وهي القائلة بالرجوع إلى المقاربة الليبرالية الجذرية، ومفادها التشكيك في شرعية الدولة وأنها تحتمل قدرًا كبيرًا من الدمار (آدم سميث، 1723-1790)، والدعوة إلى الحد من دورها وتدخلاتها ووظائفها (دولة الحد الأدنى)، أي أن يترك كل شيء لتعاملات المواطنين واتفاقاتهم، ما عدا الجيش ومؤسسات إنفاذ القانون[27]، إلى جانب كشفها أوجه الخلل والقصور في الأيديولوجية الماركسية والاشتراكية الجذرية غير الليبرالية بشأن مفهوم الدولة ووظائفها. أما مقاربة بشارة ومحورها الدولة، والمواطنة جزء رئيس في تعريفها وبوصفها طريقًا إلى الديمقراطية، بتوسط المجتمع المدني على نحو رئيس (إذ لا مجتمع مدنيًا قويًا فاعلًا بلا مواطنة قوية فاعلة، ولا دولة قوية بلا مجتمع قوي)، فقد جاءت أيضًا لكشفت أوجه الخلل والقصور في خطاب الأيديولوجيات السائدة ذاتها، ولكن ليس من ناحية التركيز على حقيقة العلاقة الوثيقة بين قيمتَي الحرية والمساواة وأن أي تفريط في أحدهما واقعيًا يؤدي إلى خلل كبير في الأخرى؛ ما يفقد المجتمع والدولة توازنهما واستقرارهما، إنما من ناحية شرعية الدولة ورسخوها وتعمّق وظائفها وأدوارها وتوسعها يومًا بعد يوم[28]، وهي ما تحرص المنظومة الدولية على المحافظة عليه رسميًا، دولًا ذات سيادة، حتى في حالات دول فاشلة جزئيًا أو كليًا[29]. يضاف إلى ذلك التمييز بين النيوليبرالية والليبرالية الجديدة المتفقة والعدالة الاجتماعية، فالثانية سياسية قامت على مبدأ "دولة أقل ومجتمع أكثر"، بينما الأولى جذرية مكرسة للتفاوتات والمظالم الاجتماعية (إفراط في الحريات وتفريط في المساواة)، وجاءت لاحقًا تعبيرًا عن أزمة الدولة الرعائية أو ما يعرف بدولة الرفاه، وهي ليست كذلك، لأنها اجتماعية في الحد الأدنى وجاءت إنقاذًا لأزمات الليبرالية الرأسمالية، لا تحقيقًا للرفاه[30]

إلى جانب ذلك، تنجح مقاربة بشارة في إزالة التشويش الذي يأتي به الجدل غير المفيد مما تثيره الجماعتية، وهي ما تفضي إلى تأكيدها المقاربات التعددية الثقافية (ويل كيمليكا وتشارلز تايلور، وغيرهما) على نحو ما[31]، في مواجهة مزاعم الحياد الليبرالي في الشأن العام عامةً[32]، أي في مستوى الدولة ومؤسساتها، إلى جانب السائد من مغالطات بشأن معاهدة ويستفاليا ودورها التاريخي في نشوء الدولة في العصر الحديث[33]، والعقد الاجتماعي الذي يُقدَّم بوصفه المقاربة الليبرالية والديمقراطية الحصرية، وبات خطابًا أيديولوجيًا وثقافويًا ضاق أفقه بشأن الدولة وشرعيتها التعاقدية المفترضة؛ فمقاربات العقد الاجتماعي (هوغو غروتيوس Hugo Grotius (1583–1645)، وتوماس هوبز Thomas Hobbes (1588-1679)، وصامويل بوفندورف Samuel von Pufendorf (1632–1694)، وجون لوك John Locke (1632-1704)، وجون جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712-1778)، وإيمانويل كانط Immanuel Kant (1724-1804)، وحتى رولز) لاحقة لنشوء الدولة الحديثة أو محايثة في البدايات، وما هي إلا محاولات لفهمها وتفسيرها فكريًا تأمليًا[34]. إن "الدولة في حد ذاتها لا تنشأ في عقد اجتماعي" فهو "في أفضل الحالات نظرية في فهم الدولة [ما يسوغ] رؤية معينة لها ولصلاحيتها، ولمفهوم العدالة فيها"[35]. المقاربة الرولزية ذاتها تعاقدية افتراضية يُرجى أن تجد ما يسوغها ليبراليًا في العقل العام وفق مقاربة الإجماع المتشابك المعيارية، ولكن ذلك يكون حول مبادئ العدالة الدستورية في دولة ديمقراطية راسخة؛ ما يجعلها، بهذا المعنى، بعيدة راهنًا من السياق العربي وهمومه بشأن ما يبدو أنه أزمة شرعية الدولة ذاتها ومدى رسخوها (أزمة نظم حاكمة وشرعيتها لا شرعية دولة، وفق ما يحاجّ بشارة)، فضلًا عن أنها دولة ما زالت تعاني مشكلات عميقة في الشروع بالانتقال الديمقراطي، مع ملاحظة أن رولز يحاجّ نظريًا بشأن تأكيد أهمية الحياد السياسي الليبرالي (الديمقراطي) فيما يخص الهويات والانتماءات الجماعتية الثقافية، وهي جزء مهم مما يسمّيه المذاهب والعقائد الشاملة المعقولة، سياسيًا ليبراليًا أو ديمقراطيًا، من أجل احتوائها في ظل المواطنة بوصفها هوية أمة الدولة، وهو أمرٌ يتفق معه بشارة ويعمل على التأسيس له عربيًا.

تقف مقاربة بشارة أيضًا على مغالطات الخطاب الأيديولوجي للقوميين والإسلاميين الجذريين وتفنده، على الرغم من تراجع حدته وتأثيره في الفضاء العربي العمومي، بشأن الدولة والمواطنة؛ إذ في حين نشأت المواطنة بوصفها عضوية في جماعة متخيلة هي القومية التي تشكل مدخلًا إلى العضوية في الدولة في العصر الحديث، فإن المواطنة في الدولة الحديثة المعاصرة تجاوزت ذلك وتحولت إلى رابطة من الحقوق والواجبات قائمة بذاتها، فـنشأت أمة الدولة المؤلَّفة من المواطنين بغض النظر عن قوميتهم، والمغالطة تأتي هنا من المطابقة بين الرابطتين الوطنية والقومية الإثنية نظريًا، حتى لو اقتربتا من ذلك في الواقع؛ ما يأتي ردًّا على التشدد القومي الأيديولوجي القائل إن "الأمة هي القومية الإثنية التي قد تكون عابرة للحدود من جهة [.. والقائل بـ] أثننة الشعب داخل الدولة من جهة ثانية. لكن وجود فرق لا يعني بالضرورة وجود تناقض بين هوية الأغلبية وثقافتها القومية بوصفها عنصر تماسك من جهة، والأمة المواطنية التي تشمل جميع المواطنين من جهة أخرى"[36]، وهو ما ينطبق نقديًا (سلبيًا) على الخطاب "القومي العربي الوحدوي [الذي] ينطلق من وجود أمة عربية لم تحقق استقلالها في دولة"، وعلى الخطاب الإسلامي الجذري السائد[37] القائل بأولوية الانتماء سياسيًا إلى الأمة الإسلامية والسعي لاستعادة يوتوبيا الخلافة التي توحدها[38]

إن ما يميّز، جوهريًا، اليوتوبيا السياسية الواقعية النسبية التي تمثلها مقاربة بشارة من يوتوبيا الأمة الإسلامية الواحدة في ظل خلافة إسلامية موحدة، ويوتوبيا الأمة العربية كلها في دولة واحدة (من دون إغفال الفرق بينهما، ولا سيما أن القومية مثلت مدخلًا إلى تطور أمة الدولة في حالات حديثة كثيرة، وهي ما يمكنها أن تمثل في حالات عمقًا هويتيًا ثقافيًا في إطار الدولة وأمتها) يكمن في أن يوتوبيا الخلافة لا تستند إلى استقراء واقع الدولة الحديثة المعاصرة ونشأتها وتطورها في السياق العربي والإسلامي والدولي، بل إلى نصوص دينية تنبّئِية (صحيحة، وفق معايير علوم الحديث)[39]، ولكنها غير محددة زمنيًا ومكانيًا وكيفيةً، إلى جانب أنها تعبير عن حنين إلى استعادة تاريخ مجيد، منذ انهيار آخر دولة وحّدت جزءًا مهمًا من المسلمين سياسيًا، وخصوصًا في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي، وهي الدولة العثمانية (خلافة عند بعضهم)، أو يمكن القول إنها تعلق بشرعية تاريخية تجاوزتها الدولة الحداثية المعاصرة إلى صور أخرى من عناصر الشرعية وقوتها، بالمعنى الذي يجادل بشأنه بشارة في مسألة الدولة والدولة العربية. تعبّر يوتوبيا الخلافة الإسلامية والدولة العربية الواحدة (من المحيط إلى الخليج!)، عن حلول تأملية غير واقعية لأزمات عميقة لا حلول واقعية ممكنة لها، وهو أمرٌ يجد ما يسوغه في الوعي الجمعي، تاريخيًا، وثقافيًا، ولغويًا وعقائديًا. والمشكلة الأخطر لا تكمن في الوعي اليوتوبي في ذاته، بل في تطوره إلى وعي أيديولوجي جذري يحدّ من رحابة الأبعاد الأخلاقية والإنسانية والحضارية الكامنة في الإسلام والعروبة؛ فالأيديولوجية تعمل في أحايين كثيرة على تضييق أفق الثقافات والفلسفات والأديان وانفتاحها ورحابتها، وتؤدي بها إلى منظومات فكرية إقصائية مغلقة، على العكس من اليوتوبيا الواقعية النسبية بما تمثله من أمل وطموح بشأن واقع اجتماعي سياسي أفضل. 

يضاف إلى ذلك، أنه حتى الإسلاميين الساعين إلى حكم الدولة القُطرية القائمة، باسم الدين لتطبيق الشريعة، والتخلي عن الأمل الذي تمثله يوتوبيا الخلافة، يسلبون الدولة ذاتها احتكارها التشريع (كليًا أو جزئيًا)[40]، وهو أساس تعريف الدولة الحديثة، إلى جانب القفز عن تاريخ تطورها وهو تاريخ علمنة؛ ما يعني نكوصًا إلى مراحل عدم الفصل بين المجالين العام والخاص وإساءة "تقدير قوة الدولة العربية واتساع قاعدتها الاجتماعية"[41]. إن ما يميز مقاربة اليوتوبيا الواقعية النسبية من غيرها يتمثل في أساسها الواقعي وإمكانية التحقق تحققًا ملموسًا، فهي نموذج يتميز ببنية محددة؛ ما يجعلها مفهومًا دائم الضرورة للمجتمعات الإنسانية، بعيدًا من المعنى الخيالي الذي يحط من قدرها. وهذا ما تحاول الأيديولوجيات السائدة قوله؛ ليس لأن اليوتوبيا المضادة غير واقعية، بل لأنها تكشف الزيف الأيديولوجي وغياب الشرعية السياسية اللذين تحاول إخفاءهما[42]. يؤكد بشارة في هذا السياق "أن فهم الظواهر الاجتماعية المركبة جدًّا، مثل الدولة، انطلاقًا من مبدأ واحد، مهما كان عقلانيًا أو أخلاقيًا، يمكن أن يتحول إلى أيديولوجيا"[43]. وهو الأمر الذي يتفق تمامًا وما يذهب إليه رولز في ليبراليته السياسية القائمة على مبدأَي العدالة الدستورية، ويتمثل في "عدم تحول الدولة إلى أداة أيديولوجية [..] تفرض رؤيتها وعقيدتها [...] بما في ذلك المذهب الليبرالي [...] ذاته، وأي عقيدة علمانية أخرى، في حال أريد لها أن تتحول إلى أيديولوجيا"[44]

إن هدفًا رئيسًا لبشارة في مسألة الدولة يتمثل في الإرهاص نظريًا لمسألة الدولة العربية خاصةً؛ إذ يقدم "مساهمة نظرية [... في] تطوير تعريف الدولة ودلالة شمول المواطنة فيه، والعلاقة بين السيادة والشرعية والمواطنة، [...] والعلاقة بين الأمة والقومية، والتمييز بين الدولة ونظام الحكم"[45]. يعاني السياق العربي مشكلات عميقة ذات صلة واقعة فعلًا، إلى جانب الوعي المشوش السائد، وهو وعي أيديولوجي في جزء كبير منه، بشأن الدولة والمواطنة والسيادة والشرعية والأمة والقومية ونظم الحكم؛ ما يبقي الدول العربية متعثرة في عملية الانتقال الديمقراطي والاستقرار بنظم ديمقراطية مستدامة تمثل هدفًا رئيسًا لمشروع بشارة. لذلك، لا بد من الوقوف على الأهمية الحاسمة لإدراج المواطنة في تعريف الدولة، وربط ذلك بما استهل به بشارة مشروعه بشأن المجتمع المدني، خدمةً لهدفه الرئيس المتمثل في الديمقراطية؛ فالدولة التي تحقق في التعرف إليها الأطروحات المذكورة، بنسبة كبيرة، هي دولة تنشد الكمال النسبي الذي يطرحه المثال السياسي، وهي دولة مآلها إلى أن تحكم بنظم ديمقراطية. أما واقع الدولة العربية الراهن، فهو تحقيق الحد الأدنى لوصف الدولة واستمرارها، ما يتمثل في "البيروقراطية المركزية والجيش النظامي والحدود الترابية الثابتة، وأخيرًا الجنسية /المواطنة"[46]؛ أي إنها ما تزال بعيدة من محاكاة مثال الدولة في أكمل صورها الواقعية الممكنة، ولو نسبيًا جزئيًا، ما يعني أيضًا أنها ما تزال بعيدة من تحقيق المواطنة، بما هي وجه آخر للسيادة وحقوق وواجبات (سيادة القانون)، لا جنسية أو تبعية للدولة فحسب[47]، فضلًا عن أنها ما تزال مفتقرة إلى مجتمع مدني مؤثر سياسيًا.

من الممكن القول إن الدولة، بوصفها مثالًا سياسيًا يشمل في تعريفه المواطنة بالمعنى الذي يؤكده بشارة، هي دولة آيلة إلى أن تكون دولة ديمقراطية، أو دولة متكاملة وكاملة الأركان ومحكومة بنظام ديمقراطي في محطة تالية من تطورها. فالدولة الأوروبية حققت، في العصر الحديث، جزءًا مهمًا مما خلص إليه بشارة من أطروحات، قبل أن تحكم بنظم ديمقراطية حديثة معاصرة متفاوتة في محاكاة المثال السياسي الديمقراطي الليبرالي، عبر طرائق شتى أتت على نظم حكم غلبة غير ديمقراطية، لا على الدولة ذاتها التي باتت واقعًا ومفهومًا مؤكدًا. هنا تبرز أسئلة رئيسة في سياق مشروع بشارة: لماذا الدولة أولًا؟ ولماذا المواطنة، بما هي جزء مهم في تعريف الدولة؟ ما علاقة الدولة، بما هي مواطنة في جزء مهم من تعريفها، بالمجتمع المدني والعدالة، ولا سيما في السياق العربي؟ تحاول الدراسة فيما يأتي الإجابة عن ذلك باعتماد المقاربة والمحاجّة لتأكيد فرضيتها الرئيسة.

ثالثًا: المواطنة جزءًا من تعريف الدولة وشرطًا للديمقراطية

لا تمثل المواطنة، عند بشارة، العنصر الأهم من بين مقومات الديمقراطية ومقدماتها فحسب، بل إن فهم تطور الديمقراطية لا يعدو كونه تطورًا للمواطنة وتعميمًا لها، وإن "فكرة المواطنة وممارستها، حتى قبل أن تكون ديمقراطية، مقدمةُ النظام الديمقراطي"[48]. إنها المواطنة بمعنى العلاقة بين الفرد والدولة لا الجماعة، سواء أكانت قومية أم إثنية أم دينية أو طائفية، أي هوية اجتماعية سياسية لأمة الدولة لا جماعتية، فمثلًا يقتضي القولُ بأمّة دولة قولَ مجتمع دولة مؤلَّف من مواطنيها، مثل مجتمع مصري ومواطن مصري، وهو ما لا يتناقض والقول مواطن مصري ثم قبطي، من باب أن الهوية السياسية الاجتماعية الجامعة الأساس هي مصري، أما قبطي فهي هوية جماعتية ثقافية ينتمي الفرد إليها أو إلى غيرها من دون أن يضر ذلك بالحقوق والخيارات الفردية ذاتها التي تؤكدها المواطنة في الدولة المصرية، لا الانتماء الجماعتي الثقافي بذاته. إن ما تطرحه الجماعتية (والمقاربات التعددية الثقافية) يبتعد بالمواطنة من جوهرها في الفضاء العمومي، ويتم الخلط في سياقها بين التعددية الجماعتية، وهي واقعة لا مندوحة من الوقوف عليها في إطار المواطنة بما هي حقوق وواجبات وبوصف الانتماء إليها خيارًا فرديًا (أو يفترض أنه كذلك، مع أن الانتماء إلى جماعة ما ليس خيارًا فرديًا غالبًا)، وبين التعددية الحزبية السياسية. وفي حال تطابق التعددية الحزبية والتعددية الجماعتية، فإن الدولة لا تسير في اتجاه أن تحكم بنظام ديمقراطي ما، بل في اتجاه نموذج محاصصة توافقي[49]. ومن أمثلة ذلك النظم القائمة راهنًا في لبنان (طائفية) والعراق (طائفية، وقومية إثنية وثقافية ولغوية)[50] والصومال (قبلية)، وهي نماذج محاصصة يفترض أن تكون توافقية.

إن الثقافة الديمقراطية، بما هي ثقافة عامة لمواطنين في دولة (أمة الدولة)، لا إمكانية لانتشار مضمونها المتمثل في احترام قواعد اللعبة الديمقراطية وثقافة الحقوق، فيما يخص علاقة الفرد بالدولة والشركاء في المواطنة، من دون ممارسة ديمقراطية لا إمكانية لتوافر شروطها قبل وجود نظام ديمقراطي لا سبيل إليه من دون دولة راسخة تمثل فيها المواطنة وجهًا آخر للسيادة. فالمواطنة، حتى قبل تداول السلطة بالانتخاب، هي الإمكانية الوحيدة لممارسة سيادة القانون والمساواة أمامه، ولممارسة حد أدنى من الحقوق أمام تعسف السلطات والنظم، والمطالبة بالحقوق السياسية؛ إذ يتوقع المواطن حقوقًا سياسية بحكم هويته الرئيسة (المواطنة) التي تجاوزت تمامًا في الدولة الحديثة المعاصرة المأمولة المنشودة عربيًا، وفي حالات مشابهة، هوية الرعية التي لا تتوقع حقوقًا وحريات سياسية وإنسانية عامة، بل معاملة حسنة وتسامحًا. في الديمقراطية، يتحقق مفهوم الدولة مثلما يتحقق مفهوم المواطنة، ولا تكون المطالبة بالديمقراطية من أجل تداول السلطة سلميًا فحسب؛ فممارسة الديمقراطية تقود أيضًا إلى توسيع مفهوم المواطنة ذاته واستكماله، وتأكيد أن حكم الأغلبية من خارج منطلق المواطنة ولغرض آخر غير تعميق حقوق المواطن وتنظيمها هو في الواقع دكتاتورية باسم الأغلبية. فالديمقراطية (الإجرائية) ليست حكم الأغلبية، بل حكم ممثلي الأغلبية وفق قيم ومبادئ أهمها المواطنة[51]. يؤكد بشارة أن كيانًا سياسيًا ينقسم بين دولة ورعايا، لا مواطنين، لا تتطور فيه جدلية تقود إلى ديمقراطية، لأنه لا تتفاعل فيه جدلية الفرد والمجتمع والدولة، وهي الوحدة التي تنبت جدلية مواطن ومجتمع مدني ودولة ديمقراطية. إن الدولة من دون مواطنة لا تجسد فكرة سيادة الشعب، وهو أمة الدولة من المواطنين، ولا تمثل مصدر شرعية سياسية، بما في ذلك شرعية الدولة ذاتها (من ذلك حق أي شعب في تقرير مصيره السياسي والبقاء في دولة ما أو الاستقلال عنها، عبر استفتاء مباشر مثلًا)، ولا تعزز فكرة الحقوق وتطورها، ففي دولة ديمقراطية تشتق الحقوق من المواطنة، الأمر الذي تطور إلى درجة عدّ الهوية والحقوق الجماعية أحد الاشتقاقات الممكنة من حقوق الفرد، بما هو مواطن. بهذا المعنى، تُعدّ المواطنة، بما هي هوية يتساوى بها الجميع في دولة، ناظمًا حصريًا للعلاقة بين الفرد والدولة؛ ما يحيد الهويات الدينية والقومية وغيرها في علاقة الفرد بالدولة، من دون سلب الحق في الانتماء إليها، ما دام ذلك لا يتعارض وحقوق المواطنة، بما بلغته من درجة تطور ديمقراطي ليبرالي[52].

مع تطور المواطنة بدأ التمييز بين هوية أمة الدولة وهي أمة المواطنين، بما هي وجه آخر السيادة، وهوية قومية أو دينية تحافظ على التماسك الوطني، من دون أن يكون لها دور سياسي في الدولة الديمقراطية التي لا يمكن أن تكون دولة دينية، أو قومية إثنية أو طائفية مسيّسة للطوائف أو أي مزاعم ومطالبات جماعتية. فالانتماء إلى المكونات الجماعتية في الدولة الديمقراطية الليبرالية يقارَب نظريًا بوصفه خيارًا فرديًا لكي يقوم على فكرة المواطنة، لا على حسابها. إن أي تنظير بشأن الدولة ونموذجها لا يرتكز إلى المواطنة، بهذا المعنى، يفضي بالضرورة إلى نماذج تستند إلى انتماءات ما قبل وما دون وما يتجاوز الوطنية (الجماعتية وامتداداتها السياسية، داخليًا وخارجيًا)، أي نماذج لا تسير في اتجاه ديمقراطية ليبرالية مساواتية مواطنية، ومن ذلك ما يعرف بنموذج "الديمقراطية التوافقية" التي يرى بشارة عدم صحة وصفها بالديمقراطية أصلًا[53].

رابعًا: الدولة بما هي مواطنة شرطًا للمجتمع المدني والديمقراطية

لا سبيل إلى فهم موضوع المجتمع المدني، على الرغم من إمكان تمييزه من بين مجالات عمومية أخرى، وتفسيره والتنظير له والوقوف على دوره النقدي الديمقراطي، من خارج المجال السياسي والدولة، بما هي مواطنة بالمعنى المشار إليه أعلاه عند بشارة الذي يؤكد أن المجتمع المدني "يقود إلى الديمقراطية، لأنه عملية تطور الديمقراطية ذاتها [...] والمعركة الحقيقية للمجتمع المدني، في الدول التي لا يتوافر فيها [نظم حكم ديمقراطية، هي] معركة الديمقراطية [ضمن] مجال الدولة"[54]، وأن أمة الدولة القائمة على أساس المواطنة هي "أمة نحو الخارج ومجتمع مدني نحو الداخل"[55]، وأن "المجتمع المدني صيرورة فكرية وتاريخية نحو المواطنة والديمقراطية عبر مجموعة من التمفصلات والتمايزات في العلاقة بين [...] المجتمع والدولة"[56]؛ ما يعني أن العلاقة بين الدولة الحديثة المعاصرة والمواطنة والمجتمع المدني والديمقراطية علاقة جدلية مركّبة، يفضي أحد عناصرها إلى الآخر ويقتضيه وجوديًا زمنيًا أو/ و منطقيًا، مع ملاحظة أن نقطة الانطلاق هي أن الدولة وشرعية وجودها لم يعودا موضع شك.

يزيل بشارة الالتباس المتأتي من استعارة مقولات جاهزة، لا تلائم سياقات دول بنظم غير ديمقراطية أو انتقالية، مثل السياق العربي، بشأن المجتمع المدني، ولا سيما عند القول إن الأخير تمثله منظمات غير حكومية وإنه لا سياسي، وهو أمرٌ يأتي نتيجة غياب إدراك الدور الذي أداه تاريخيًا في تطور الديمقراطية في السياق الغربي، وهو دور سياسي مرتبط بالدولةوتحديد سلطاتها. لا يتطور المجتمع المدني في أثناء ضعف الدولة، فهو "وليد قوة الدولة، ومن أجل موازنة هذه القوة"، وهو "نتاج تحديد صلاحيات الدولة [... وعلاقتها بالمجتمع] لأن هناك خوفًا من أن تُخضع الدولةُ المجتمعَ كليًا"، فتصير في حالات قوةً أيديولوجية شمولية. إن "المجتمع المدني ليس نتاج هدم الدولة أو تراجعها أو زعزعتها، وإنما هو نتاج تحديد العلاقة بينها، كمجال السلطة واحتكار القوة، وبين المجتمع المفترض فيه أن يكون مصدر شرعيتها"[57]. يخلص بشارة، في هذا السياق، إلى أنه لا سبيل إلى فضّ العلاقة بين المجتمع المدني والمواطنة وأمة الدولة، بما يتجاوز نسبيًا مفهوم الدولة الأمة والقومية (الثقافية الهويتية واللغوية)، ويميز الأخيرة من القومية الإثنية وغيرها من انتماءات دون وطنية ومتجاوزة لها، ويرسم حدودها (القومية) ودورها ولا يغفل أهميتها، بوصفها مدخلًا إلى تطور أمة الدولة في سياق تطور الدولة الحديثة المعاصرة[58]. إن عدم التطور إلى مرحلة أمة الدولة، على أساس المواطنة، يعني استمرار صعود هذه الانتماءات، وهو ما تستثمره أنظمة غلبة انتهازية للاستمرار في السلطة، إلى جانب أنها لا تعمل على (وفي أفضل حالاتها أخفقت في) إنجاز الاندماج الاجتماعي (على أساس المواطنة) الذي يلحّ بشارة على تأكيد أهميته الحاسمة في الوصول إلى مرحلة أمة الدولة، وبغير ذلك "لا ينشأ في الوعي مجتمع مدني قائم على العلاقة بين المواطن، بانتماءاته المختلفة في حيزه الخاص، وبين الأمة (التي يتسع فيها المجال للعديد من الانتماءات) والدولة التي تعبر عن الكيان السياسي للأمة"[59].

يعيد بشارة الاعتبار السياسي وما له صلة بالدولة والمواطنة والديمقراطية إلى فهم المجتمع المدني، وخصوصًا في السياق العربي، فمقولة المجتمع المدني مرتبطة بـ "مقولة الأمة [أمة الدولة] وكلاهما يقف أمام الدولة كمصدر لشرعيتها في الحالة الديمقراطية [...] أما إن لم تجد الأمة تعبيرًا سياسيًا عنها في الدولة [أو في التوق إليها على الأقل] فلا مكان للأمة الحديثة، أمة المواطنين، الأمة السياسية، ولا للمجتمع المدني. والعلاقة المباشرة بين الموضوعين، في الحالة العربية، هي فقدان [أنظمة قائمة] للشرعية [...] ومن غير الممكن أن نبحث عن المجتمع المدني العربي [...] إلا بعلاقة متينة مع عملية تشكل الكيان السياسي للأمة (العربية) في الوعي على الأقل [من دون القول بضرورة قيام دولة عربية واحدة متخيلة] فعدم تحقق الأمة في الوعي لا يقيم مقامها أمة سورية وأخرى يمنية [... إلخ]"[60]، بل انتماءات جماعتية وشائجية وما إلى ذلك من انتماءات دون قومية ودون وطنية أو متجاوزة لهما (مثل سني وعلوي وشيعي وجنوبي وشمالي، وكردي وعربي إثنيًا لا ثقافيًا هويتيًا ولغويًا ... إلخ). لا بد، إذًا، من الانتباه عربيًا إلى ضرورة عدم "تحويل المجتمع المدني إلى شاهد زور" أو غائب أو مُغيَّب عن هموم السياسة والدولة، لأسباب ثلاثة: هي "إن المجتمع المدني يقوم فقط في فضاء العلاقة المتبادلة مع الدولة [... و] إن هنالك ارتباطًا لا تنفصم عراه بين تشكيل الأمة وتشكيل المجتمع المدني الذي يعني انتماءً قائمًا على المواطنة [... و] إن المعركة من أجل الديمقراطية هي معركة سياسية"[61].

خامسًا: المواطنة عدالةً وديمقراطيةً اجتماعيةً

يؤكد بشارة أن المواطنةَ "منظومةُ حقوق وواجبات"[62]، وهذا الأمر لا بد من أنه مفضٍ إلى التفكير في العدالة، وهي في ديمقراطية ليبرالية عدالةٌ تبدأ بالدستور وتمر بما دونه من قوانين وتشريعات ولا تنتهي عند أقل مسألة تخص المواطنين في دولة، وهي صيغة متوازنة معقولة في التوفيق بين الحريات وصور المساواة. وهذا يعني أن من بين نماذج كثيرة للديمقراطية يذهب التفكير إلى صورة من صور الديمقراطية الاجتماعية، الأمر الذي لا يبتعد ببشارة من المقاربة الرولزية في نهاية المطاف، ولكن بعد تحقيق رسوخ الدولة، بما هي مواطنة أولًا؛ ومن ثمّ السير في اتجاه أن تحكم بنظام ديمقراطي، يبدو أنه وفق هذا المنطق اجتماعي، مع الانتباه دائمًا إلى أن العدالة الرولزية دستورية اجتماعية لمجتمع مستقر بنظام ديمقراطي ليبرالي ما زالت المجتمعات العربية بعيدة منه[63].

إن صلة الحقوق بالعدالة تعني ربط العدالة بالمواطنة[64] في دولة حديثة معاصرة، وإن ربط المواطنة بالمآل الديمقراطي، أي بالديمقراطية، يعني ربط الديمقراطية بالعدالة؛ ما يعني في نهاية المطاف أنّ تماسك أي دولة واستقرارها على نحو مستدامٍ يعني أن تحكم بنظم ديمقراطية اجتماعية[65] توازن في دساتيرها وقوانينها وسياساتها بين قيمتَي الحرية والمساواة. فالحرية من دون قدر من المساواة، بمعنى التمكين أو القدرة التي ينظّر لها أمارتيا سن[66] غير البعيد في جوهر طرحه ومقتضاه من رولز وبشارة، تصير شعارًا أيديولوجيًا زائفًا وإن كان ليبراليًا في ظاهره (النيوليبرالية والرعائية). ويؤكد بشارة في هذا السياق أنه "ما عاد ممكنًا تخيل عدالة لا تنظم العلاقة بين مبدأَي المساواة والحرية"، وعلينا أن نبحث عن مفهوم أو نظرية لها "تشمل جماعات الانتماء أو الهويات، من دون أن تأتي على حساب الحرية والمساواة، بل على قاعدتيهما"[67]. العدالة عند بشارة مرتبطة بالدولة، بما هي مواطنة في جزء مهم من تعريفها، وبآليات الاندماج الاجتماعي، بما هي أساس راسخ لبناء أمة الدولة الحديثة المعاصرة[68]، وهي "تصح في الدولة [...] ولا يمكن إلا نظريًا أن يُتعامل بمفاهيم العدالة نفسها بين ما هو داخل الدولة وما هو خارجها [... إن التوافقية بين المكونات الجماعتية] من دون المساواة في المواطنة [هي تسمية أخرى] لحرب أهلية باردة يمكنها أن تشتعل حربًا ساخنة في أي وقت. من هنا، ليست العلاقة بين الاندماج الاجتماعي والعدالة مسألة رفاهية، بل قضية جوهرية لا يمكن للدولة الحدثية، ولا سيما الديمقراطية منها، أن تتجاوزها"[69].

العدالة، إذًا، سياسية مرتبطة بالدولة؛ بما هي إطار رئيس لها وميدانها الأهم لسيادتها[70]، الأمر الذي يتفق بشارة ورولز بشأنه. ولئن انطلق رولز من الحس الأخلاقي العام بالعدالة وأخلاق الواجب الكانطية الخاصة ليؤسس نظريته في العدالة السياسية، وهي مبادئ العدالة إنصافًا بما هي مبادئ فوق دستورية أو ما يقوم عليه الدستور في دولة ديمقراطية ليبرالية ناجزة ينبغي لها أن تكون عادلة لضمان الاستقرار الاجتماعي السياسي على نحو مستدام، وتأكيد القيم الليبرالية ذاتها، ولا سيما الحرية التي تصير زائفة بلا قدر معقول من المساواة والتمكين، فإن بشارة ينطلق من أطروحات الدولة، في صورتها المثالية ممكنة التحقق واقعيًا ومستمدة من الواقع (يوتوبيا سياسية واقعية) وبما هي مواطنة في جزء مهم من تعريفها، إلى جانب مقارباته بشأن المجتمع المدني والعدالة، ليبحث في إمكان ديمقراطي واقعي في السياق العربي الذي ما زال يعاني مشكلات عميقة ومعوقات كثيرة في الانتقال الديمقراطي. في السياق، إن كان بشارة غير معني، بطريقة مباشرة وبالطريقة الرولزية الكانطية وأي نظرية أو مقاربة ذات صلة أخرى، بالتأسيس الفلسفي الأخلاقي المحض لمقارباته، بصورة عامة، على الرغم من أنه يناقش فلسفات أخلاقية في سياقات ذات صلة، فإن مؤدى مقارباته وأطروحاته أخلاقي اجتماعي غيري، وهو إن تحقق، ولا سيما في السياق العربي، من شأنه حفظ كرامة الإنسان وحريته وحقوقه ومساواته بشركائه في المواطنة، بل في الإنسانية وفي مجتمعات أكثر تقدمًا في إنجاز العدالة لمواطنيها، على الأقل صوريًا سياسيًا وفي الحريات العامة وحقوق الإنسان والأنظمة الاجتماعية الرعائية، مثلما هي الحال في حالات غربية[71]. يضاف إلى ذلك أن الديمقراطية الليبرالية التي يؤكدها بشارة متأثرة بجذورها الفلسفية الأخلاقية، ولا سيما الليبرالية الواجبية، بشأن استقلال الذات الإنسانية وحريتها ومساواتها بذوات الآخرين وكونها غاية في ذاتها لا وسيلة؛ ما يُترجم في المستوى السياسي بالقول إن الدولة الشرعية تقوم على مبادئ قَبْلية هي حرية كل فرد في المجتمع بوصفه إنسانًا، ومساواته بالآخرين جميعهم بوصفه ذاتًا، واستقلاله في الكيان العمومي بوصفه مواطنًا[72].

الليبرالية الواجبية مؤسسة على أولوية الحق والواجب على الخير أو النافع[73]، والاستقلال الليبرالي الذاتي يعني قدرة كل شخص على أن يقرر لنفسه بنفسه ما الخير أو النافع وحريته في ذلك[74]؛ ما يعني في الواقع أن الدولة ينبغي لها أن تكون محايدة سياسيًا بشأن ما يرى المواطنون، أفرادًا وجماعات، أنه خير أو نافع لهم في المجال الخاص، بما في ذلك المعايير الجماعتية الثقافية من دينية وطائفية وإثنية، وغير ذلك مما يمكن أخذه في الحسبان في قوانين أحوال شخصية خاصة مثلًا في السياق العربي، والتعامل معهم مساواتيًا في المجال العمومي، بوصفهم مواطنين وفي ظل المواطنة الدستورية وما دونها من قوانين وتشريعات. يأتي ذلك بالتزامن مع برامج الاندماج الاجتماعي الذي يؤكده بشارة دائمًا على أسس المواطنة، وهو ما لم تسعَ لتحقيقه نظم عربية في دول تعددية جماعتيًا ثقافيًا وشائجيًا، من أجل الوصول إلى واقع مجتمع الدولة وتأكيده، فجاءت النتائج كارثية. يضاف إلى ذلك ما يشير بشارة إلى أهميته في سياق فلسفة هيغل بشأن الدولة وفهم ثلاثية الدولة والفرد والمجتمع وفي مواضع أخرى، وهو الأخلاق العمومية ومعاييرها للسلوك في الفضاء العمومي المتجاوز للجماعتية والوشائجية، ومن مكونات هذه الأخلاق المتفق عليها ضمنيًا الواجبُ والمسؤولية تجاه الآخرين والثقة بالمجتمع والدولة ومؤسساتهما. وهذا الأمر الذي من شأنه، إن لحقه التشويه على نحو واسع وعميق، أن يعرقل الانتقال الديمقراطي وبناء نظم ديمقراطية[75]. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن في مقاربات بشارة بشأن الدولة، في وجهها الفلسفي، مؤثرات هيغلية واضحة، ولا سيما عند تفنيده مقاربات العقد الاجتماعي ذات الصلة، وقوله إن مفهوم الدولة كيان "أخلاقي/ عقلاني"[76]، والأخلاقي هنا هو ما ينطلق من الاجتماعي العمومي، لا التأملي الترانسندنتالي الذي ينطلق من الذات المجردة واستقلالها (كانط ورولز).

سادسًا: الدولة العربية في سياق المشروع

يقف بشارة، في سياق مشروعه الفكري العام وبشأن الدولة التي يريد لها في السياق العربي مآلًا ديمقراطيًا، على مشكلات الدولة العربية وأسئلتها الأهم، ومنها التمييز بين شرعية الدولة والنظام الذي يحكم فيها، الأمر الذي بات ضرورة ملحّة راهنة، ولا سيما في مرحلة الربيع العربي والثورات العربية وما تلاها من محاولات الشروع في الانتقال الديمقراطي في حالات أُجهضت (مصر) وأخرى يجري إتمام عملية إجهاضها (تونس)، وحالات جاءت النتائج فيها كارثية؛ إذ فقدت دولها جزءًا من سيادتها واحتكارها العنف الشرعي والتشريع في نطاق حدودها، فضلًا عن أزمة شرعية النظم التي تحكمها، ما بدا أنه أزمة في شرعية الدولة القائمة ذاتها (مثل سورية واليمن وليبيا، والعراق بعد الاحتلال). إن ما يأتي الالتباس في فهمه هنا هو علاقة الأبعاد الجماعتية، عصبيةً عائلية وطائفية ودينية وإثنية وقومية دون وطنية أو متجاوزة لها، بالدولة ومدى شرعيتها نتيجةً لاستثارتها وتوظيفها من نظم غَلَبة انتهازية للبقاء في السلطة. وما يبدو ضعفًا في شرعية دولة عربية ما ليس إلا أزمة نظامها الحاكم وشرعيته؛ فالمشكلة تتمثل في إخفاقه في إدماج المواطنين، وهو ما أفضى إلى صراع معه وإحداث شروخ اجتماعية. 

لقد عوّق تطورَ المواطنة سياساتُ هذه الأنظمة في التعامل مع الجماعات من زاوية الولاء لها، وضعف المؤسسات الخدمية والإدماجية غير العنفية فيها، والأهم هو أن "ضعف مركب الحقوق والواجبات في المواطنة التي تبقى من دونها [...] مواطنة شكلية رسمية، أي جنسية"[77] ما تزال بعيدة جدًّا من تحقيق جزء مهم من أطروحات بشارة المثالية والممكنة واقعيًا في آنٍ واحد، بشأن الدولة الحديثة المعاصرة، ما يعني البقاء بعيدًا من الديمقراطية والانتقال إليها؛ إذ لا دولة حديثةً، وفق مقتضيات مقارباته ومحاجّاته (بشارة)، بلا مواطنة في جزء من تعريفها، ولا مجتمعَ مدنيًا وديمقراطية بلا مواطنة، ولا مواطنة وديمقراطية ومجتمعَ مدنيًا إلا في صلب التعرف إلى الدولة وفي إطارها. يخلص بشارة إلى أن الدولة العربية استقرت "بفعل التغذية الذاتية وصراع البقاء وتوسع قاعدتها الاجتماعية، ومصلحة النظام الدولي بالحفاظ على الدول القائمة، ولا فرق في ذلك بين الدول العريقة [ذات النوى الترابية] وتلك التي تعدّ دولًا ناجمة عن التقسيم [والتقاسم] الاستعماري. لم يعد ثمة صراع على وجود الدولة العربية، بل على نظم الحكم، ولكن الصراع على نظام الحكم في بعض الدول يهز استقرار الدولة ذاتها، وإن لم يكن هذا هدفه. ولم تعد عوامل الاستقرار مرتبطة بالمنشأ، بل بدرجة تداخل البنى الاجتماعية مع بنية نظام الحكم [...] وذلك على شكل شبكات ولاء اجتماعية تقابلها فئات اجتماعية مقصاة، وباستعداد الفئات الحاكمة إلى شق المجتمع واستخدام العنف في مواجهة أي تهديد لسلطتها"[78]، وهو الأمر الذي شهدته حالات عربية راهنة حرفيًا منذ ثورات الربيع العربي، مثل سورية التي يشخص بشارة حالها بأن ما ميزها هو خصوصية مجتمعها "المركب دينيًا وطائفيًا وإثنيًا"؛ ما عوّق "تبلور هوية وطنية جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام والنظام عن الدولة"[79]. وقد انخرط النظام السابق المخلوع فيها، إلى جانب شبكات ولاء طائفية (علوية) وقلة انتهازية من الأكثرية السنية والأقليات الأخرى وثالثة أجنبية طائفية أيضًا، في العنف غير الشرعي؛ ما أفقد الدولة ذاتها جزءًا من سيادتها واحتكارها العنف الشرعي والتشريع ضمن نطاقها الترابي الرسمي. 

يضاف إلى ذلك أن النظام المخلوع ذاته، في هذه الحالة، لم يعمل خلال عقود طويلة من حكمه على برامج الاندماج الاجتماعي على أساس المواطنة واستثار، عندما باتت سلطته مهددة، الانتماءات الطائفية (علوي وشيعي في مقابل سني ... إلخ) والقومية الإثنية (كردي في مقابل عربي ... إلخ)، فأدخلها في دوامة عنف كارثية (من دون إغفال التدخلات الخارجية التي استدعى جزءًا منها وتسبب في حضور أخرى)، فضلًا عن أنه استثار أقليات دينية وطائفية بزعم حمايتها (مسيحي ودرزي وإسماعيلي ... إلخ) من خطر مزعوم تمثله الأكثرية الدينية (السنية). يشير بشارة، على الرغم من ذلك، إلى أنه "لم تظهر في سورية نزعات انفصالية جدية"، بل ظهرت "مكامن ضعف الدولة" حين تعرّض النظام لأزمات؛ ما تجلى في "تسييس الشروخ الاجتماعية" الناجمة والمتعمقة في ظل غياب برامج الاندماج هذه، ونشوب صراع على كنه "مشترك الدولة [...] أهو مواطني أم قومي أم طائفي؟" وظل الجميع متمسكًا "بوحدة الدولة نظريًا، مع أن أراضيها مقسمة عمليًا بين عدة سلطات وخاضعة لتأثير عدة دول، وتتمسك المنظومة الدولية كذلك بوحدة الدولة السورية". هنا، يطرح بشارة سؤالًا استشرافيًا معبرًا عن قلق شديد، هو: "هل يدوم هذا التمسك بوحدة الدولة إذا استمر الانقسام فترة طويلة؟"[80]، الأمر الذي ازدادت احتمالات تحققه بعد سقوط نظام الغلبة الشمولي الطائفي ومحاولة جهات إقليمية تعزيز توجهات التقسيم على أسس طائفية (مثلًا، مزاعم إسرائيل بشأن حماية الدروز).

من الأمثلة المهمة في هذا السياق محاولة قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي يهيمن عليها الكرد، والتي تمثل انتماءات جماعتية قومية إثنية (كردية وعربية وسريانية) دون وطنية أو قبل وطنية وامتدادات سياسية تتجاوزها (ترتبط على الأقل أيديولوجيًا إن لم يكن تنظيميًا، في جزء مهم منها، بحزب العمال الكردستاني)، إجراء انتخابات محلية في المناطق التي تسيطر عليها من البلاد، قبل سقوط نظام الغلبة الشمولي الطائفي بأشهر، وهو أمرٌ الذي لم يكن في جوهره إلا محاولة لإضفاء شرعية ديمقراطية على سيطرتها واحتكارها العنف في النطاق الترابي المحدد بشرق الفرات ضمن الحدود السورية الرسمية، وهي سيطرة قائمة على منطق الغَلَبة ولا شرعية لها إلا وفق منطق الأمر الواقع، مستندةً في ذلك إلى ما سمّته "عقدًا اجتماعيًا" لم يُستفتَ السوريون بشأنه، ولا تبدو فيه المواطنة، في دولة سورية حديثة مأمولة، قيمة رئيسة مؤسسة، فضلًا عن أن مجرد طرحه بهذه الطريقة وهذه الصيغة وهذا المضمون - ووفق هذا الفهم الذي لا يقف على الأصل الافتراضي للفكرة وإمكان الانتقال بها إلى الواقعي الراهن بشروطه ومحدداته ومعوقاته وعوامل نجاحه – يدل على مدى الالتباس (والجهالة) عند تداول مقولة العقد الاجتماعي ذاتها. يضاف إلى ذلك أن بقية المكونات السورية رفضت ما حاولت قسد الذهاب إليه، رفضًا قاطعًا، ولم تشجع المنظومة الدولية عليه أو تدعمه، على الأقل حتى الآن، وما زالت لا تعترف إلا بالدولة السورية في صورتها المعروفة قبل الثورة والدخول في دوامة العنف وما آلت إليه البلاد من انقسام إلى مناطق نفوذ ثلاث (قبل سقوط النظام)، ثم ما أعقب سقوط النظام وما زالت المخاوف من تبعاته الانفصالية تتزايد حاليًا (الدروز في جبل العرب جنوبي البلاد، والعلويون في الساحل غربي البلاد، والكرد في شرق الفرات شرقي البلاد)؛ ما يدعو حقًا إلى قلق حول استمرار سورية دولةً واحدة (ولو بصيغة فدرالية تبدو الأكثر واقعية مستقبلًا). بناءً على ذلك، تجدر الإشارة مجددًا إلى تأكيد مدى ضرورة مشروع بشارة التنويري وراهنيته، في السياق العربي خاصة، بشأن العقد الاجتماعي وغيره من المقولات التي تصدى لإزالة المغالطات السائدة في فهمها وتوظيفها والسياقات التي نشأت وتطورت فيها، إلى جانب تمييزها من مقولات قريبة منها أو متطابقة أو متداخلة معها أو مرادفة لها، وفق ما رأينا أعلاه[81]

في السياق العربي عامة، بات واقع الدولة وحدودها السياسية ونطاق سيادتها الترابي عوامل متغيرة؛ إذ انقسم السودان إلى دولتين رسميًا (استفتاء واعتراف دولي)، إلى جانب نزاعه الحالي (بين الحكومة الرسمية وميليشيا الدعم السريع) وما قد يقتضيه، وثمة حالات انقسام ونطاقات نفوذ وكيانات سياسية (شبه دولتية في حالات)، مثل سورية (ثلاث مناطق قبل السقوط: النظام وقسد والمعارضة) واليمن (ثلاثة نطاقات نفوذ رئيسة موزعة بين الحكومة الرسمية والحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي) وليبيا (آلت العلاقة بين الشرق والغرب إلى كونفدرالية تقريبًا) والصومال (أرض الصومال مستقلة فعلًا من غير اعتراف دولي) والعراق (إقليم كردستان مهيأ للانفصال، في حال إقرار استفتاء تأييده وحينما تدعمه المنظومة الدولية). إنّ ذلك يعني، من حيث المبدأ، أنه لا يمكننا الركون إلى واقع الدولة العربية منذ ما بعد الاستقلال، وهي لم تستقر بعدُ على نحو راسخ مستدام؛ فما حافظ على حدودها السياسية "دافع الدولة المتغذي ذاتيًا، من خلال مصالح سلطاتها ومؤسساتها لفرض سيادتها على الأرض والسكان، وتضخم جهازها وتمدد نفوذه، ونشوء فئات اجتماعية واسعة معتمدة في معاشها على الدولة، وأيضًا دفاعها عن حدودها في مقابل الجيران [... و] الخوف من أن يؤدي فتح مسألة الحدود إلى فوضى شاملة [...] وللسبب نفسه حافظ عليها ما يسمى النظام الدولي، بوصفها دولًا معترفًا بها، على الرغم من واقعها [... وفي حالات] الانقسام والاحتراب [...]"[82]. بعبارة أخرى إن الدولة العربية ما زالت بعيدة جدًّا من بلوغ نموذج الدولة الحديثة الذي تقاربه أطروحات بشارة، وهي (الدولة العربية) ما يرجى لها أن تكون ديمقراطية منطلقة من مبدأ أخلاقي عمومي يقوم على أساس المواطنة بما هي وجه آخر للشرعية والسيادة.

تعاني الدولة العربية الراهنة أيضًا مشكلات تمنعها من تحقيق العدالة لمواطنيها، فالعدالة مرتبطة بالدولة، بما هي مواطنة في جزء مهم من تعريفها، وبآليات الاندماج الاجتماعي، بما هي أساس راسخ لبناء أمة الدولة الحديثة المعاصرة[83]، الأمر الذي أخفقت الأنظمة العربية في تحقيقه (إنْ حاولت أصلًا)؛ ما نتج منه نكوص إلى انتماءات جماعتية دون وطنية ومتجاوزة لها، وأدى إلى صراعات أهلية خطِرة ذات صلة (حروب دموية في حالات عربية معاصرة وراهنة، مثل سورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان). فبدت الأزمة ظاهريًا على أنها أزمة شرعية الدولة ذاتها، لا أزمة أنظمة غلبة مخفقة. ما تزال الدولة العربية، إذًا، بعيدة من تحقيق العدالة بهذا المعنى، أي من ناحية ضعف (أو غياب) برامج الاندماج الاجتماعي على أساس المواطنة فيها، إلى جانب ما اقتضته التوجهات النيوليبرالية (في الحالة العربية، لبرلة اقتصاد من دون لبرلة أو دمقرطة سياسية)؛ ما أضرّ بـ "الحقوق الاجتماعية" وصور المساواة والتمكين، وظلت المواطنة، بما هي مركّب من "الحقوق والواجبات [...] مسألة مفتوحة [...] لأن المواطنة بقيت عضوية شكلية [أي جنسية ... و] أوهى من أن تشكل حجر الأساس في الدولة [...] ما ولّد توترًا بين واقع الدولة العربية ومفهوم الدولة المعاصر"[84]. وهكذا، فإن هذا الواقع ما زال بعيدًا من الشروع في انتقال ديمقراطي ومن ثم مقاربة صيغةٍ ما من صيغ الديمقراطية الاجتماعية (عدالة اجتماعية: موازنة معقولة بين الحريات السياسية وغير السياسية وصور المساواة والتمكين الاقتصادي وغير ذلك)، وهو الأمر الذي تجادل الدراسة بأن مشروع بشارة يقتضيه ويطمح إليه عربيًا.

لا يشي واقع الدولة العربية بتلاشي إمكان الوحدة السياسية بين مكوناتها فحسب، سواء أكان ذلك تحت عنوان قومي عروبي أو إسلامي؛ إذ بات ذلك مما لا يعدو كونه يوتوبيا خيالية، بل هو زيادةُ انقسام لِمَا قُسِّم. لم تقم الدولة العربية "بوصفها تجسيدًا لمبدأ أخلاقي، كالتعبير عن حقوق جماعة قومية [عروبية أو إسلامية] أو وطنية"، وهو ما أخل بـ "وظيفة الدولة بوصفها مرجعية أخلاقية" وأحال العقلانيةَ الأداتية المطلوبة في دولة حديثة إلى عقلانية لا تهدف إلا إلى المحافظة على السلطة بدلًا من تحقيق الخير العام، وتركزت أهم السلطات في شخص الحاكم وبات منصبه، إن لم يكن شخصه، رمزًا للسيادة الوطنية، "ما مسخ مفهوم السيادة الحديث، وأعاد عنصرًا سلطانيًا متأخرًا في الممالك والجمهوريات العربية"؛ إذ أخضعت شؤون الدولة ومؤسساتها لقرارات الحاكم وفئة متحلقة حوله (غالبًا، انتهازية متملقة)[85]. لم تكن الوحدة العربية همًّا حقيقيًّا عند الحاكم العربي وشركائه في نظامه، مقارنةً بهمّهم الرئيس؛ الاستمرار في السلطة، وخاصةً في حالة الأنظمة التي ظلت ترفع شعارات أيديولوجية قومية وحدوية، مثل شعارات النظام المصري في عهد جمال عبد الناصر (1918–1970)، والليبي في عهد معمر القذافي (1942–2011) والعراقي في عهد صدام حسين (1937–2006)، وسورية في عهدَي بشار الأسد وحافظ الأسد (1930–2000) ، فالنظام السوري مثلًا لم يحافظ على وحدة بلاده وسيادتها في إطار الدولة (حتى سقوطه: ثلاث مناطق نفوذ وانتهاك سيادة بتدخلات خارجية، وكسر احتكار العنف الشرعي والانخراط في العنف غير الشرعي والتسبب فيه)، إلى جانب أنه كان دائمًا في عمقه وممارساته طائفيًا، لا وطنيًا سوريًا ولا قوميًا عروبيًا. في نهاية المطاف، "لم تنشأ وحدة عربية، وقد فات أوانها، إذ لا يمكن تجاوز وجود دول ذات سيادة، كما لم ينشأ اتحاد عربي من دول قائمة بسبب عدم استعداد النظم السلطوية للتنازل عن أي عنصر من عناصر سيادة الدولة التي تعدها سلطات النظام [... و] لم تحقق القومية العربية التحول إلى أمة في دولة من جهة، ولم تتمكن الدول [العربية] من إنتاج هوية وطنية متماسكة من جهة أخرى [...] بسبب ضعف المواطنة [... كذلك] لم تنشأ قومية محلية بديلة من القومية العربية، ولكن نشأت هوية وطنية محلية يسهم المكون الثقافي القومي العربي في تشكيل هوية الأكثرية فيها، والبدائل الناجمة عن إنكار القومية العربية هي هويات تحت وطنية"[86]. يؤكد بشارة، في هذا السياق، أن "العلاقة بين الدولة والقومية العربية ليست علاقة تطابق ولا علاقة تناقض. ويمكن أن يكون التكامل بين أمم مواطنية، تشكل القومية العربية هوية الغالبية الإثنية فيها، هدفًا واقعيًا"[87].

لقد تراجع حضور الخطاب الأيديولوجي الوحدوي المشكك في شرعية الدولة العربية القُطرية القائمة، أكان وحدويًا قوميًا عروبيًا أم إسلاميًا، في حين يجري الاتجاه إلى واقع تجزيئي، على أسس جماعتية ومناطقية (في سورية واليمن وليبيا والعراق والصومال)، والمشكلة في الحالة التجزيئية جاءت غالبًا نتيجة خلل في شرعية النظام الذي أتى بها، لا شرعية الدولة ذاتها؛ وهي مشكلة الإخفاق في تحقيق الاندماج على أساس المواطنة وتقوية المجتمع، لا الجماعات؛ ففي الدولة الضعيفة "مجتمع ضعيف وجماعات قوية"، وأما المجتمع القوي فينشأ "في ظل دولة قوية تحظى بشرعية لدى مواطنيها [... و] العامل الرئيس في ضعف الدولة العربية هو تسييس البنى الاجتماعية [الجماعتية]" وتغليب الولاء لها على الولاء للدولة[88]، وإن أي مسعى في اتجاه زيادة إضعاف الدولة العربية والتشكيك في شرعيتها من شأنه تعويق الديمقراطية وصعود المجتمع المدني، لمصلحة صعود نزعات جماعتية لا تقوم على أساس المواطنة ومقتضياتها[89]. لقد جاءت مقاربات بشارة التنويرية الاستشرافية، التي استهلها منذ حوالى ثلاثة عقود، بوصفها ضرورةً ملحّة (لما يؤخذ بها، بطريقة جدية مدركة لأهميتها، إلا في حالات فكرية نخبوية وأكاديمية)، في مرحلة ساد فيها الانسحاب من الهمّ السياسي إلى فهم مغلوط للمجتمع المدني[90]، أي كونه ما ليس سياسيةً وما لا صلة له بالدولة ونظم حكمها؛ ما خدم أنظمة الغلبة الحاكمة القائمة التي احتكرت المجال السياسي والفضاء العام كله، بقمعها أي معارضة سياسية، ولا سيما الحزبية الوطنية المنظمة. فكان البديل لاحقًا ثورات شعبية عفوية غير منظمة (الربيع العربي)، أفضى قمعها المفرط إلى بروز معارضات من بنى اجتماعية جماعتية ووشائجية عنفية دون وطنية ومتجاوزة لها، فأدّى ذلك إلى تهديد سيادة الدولة، بتدخلات خارجية مباشرة، واحتكارها العنف الشرعي، وحتى شرعيتها ذاتها بسبب التداخل بينها وبين نظم الغلبة الحاكمة فيها. ويجمل بشارة هذا الأمر بقوله: "إن مقولة المجتمع المدني قد تكون مفيدة في المعركة العربية من أجل الديمقراطية، إذا تم فهمها فهمًا تاريخيًا، أي نقديًا، بكشف حدودها التاريخية، ثم كشف الطاقة الكامنة فيها. لكنها قد تكون مقولة ضارة بقضية الديمقراطية وتحرر الإنسان العربي، إذا تحولت إلى أداة لتحييدها سياسيًا، وأداة تجنب طرح مسألة نظام الحكم"[91].

أخيرًا، تتناقض الدولة العربية المراد لها أن تكون حديثة بمجتمع مدني فاعل سياسيًا لتحقيق ديمقراطية، على نحو رئيس، مع تسييس "البنى الاجتماعية الجماعتية الرافضة لاحتكارها العنف والتشريع"؛ ما يمكن عدُّه فرقًا رئيسًا بينها وبين القوى الوطنية "الحديثة المتصارعة على السلطة" في إطار الدولة، وإن اضطرت إلى توسل العنف[92]. ثمّ إن الحالة العربية هشة بـ "شروخ اجتماعية عميقة تخترق حتى جهاز الدولة"، إلى جانب "ضعف المواطنة، بوصفها عضوية في الدولة تترتب عليها حقوق وواجبات، وضعف الهوية الوطنية في مقابل تسييس انتماءات إلى جماعات تحت وطنية، وضعف أجهزة الدولة [الخدمية]" في مقابل قوة أجهزتها الأمنية؛ ما يفسر المخاطر (أو قل المهالك) التي نجمت عن محاولة إطاحة نظمها الحاكمة بالثورة أو التدخل الخارجي (العراق عام 2003، ثم سورية واليمن وليبيا والسودان منذ عام 2011)، وتمثلت (المخاطر) في "تضعضع جهاز الدولة وتحول الصراعات عليها إلى حروب أهلية بين جماعات"، وما يدعو إلى القول إن السعي لتغيير هذه الأنظمة بـ "الإصلاح تدريجيًا" كان الأجدر والأسلم. لقد فات أوان ذلك ولم يكن من سبيل إلى تجنب هذه المخاطر، لأن جموع "الغاضبين الخارجين في انتفاضة عفوية ضد صنوف الظلم"[93] لا تتوافر لهم شروط (وما ينبغي لهم) الإحاطة بنظريات الدولة وأطروحاتها وتمييزها من النظام (وغير ذلك من مقاربات العلوم السياسية وفلسفاتها بشأن الثورات وحركية المجتمعات ومحاذيرها .. إلخ، وحتى النخب التي قادت انتفاضات الربيع العربي وثوراته ساد لديها شواش شديد في فهم الشعارات والمطالب المرفوعة الخاصة بالدولة والنظام والحرية والعدالة والمجتمع المدني والمواطنة والديمقراطية، وما إلى ذلك من قضايا وهموم يحاول بشارة التنوير بشأنها والتنبيه إليها منذ حوالى ثلاثة عقود.

خاتمة: نتائج الدراسة وخلاصاتها

انطلقت الدراسة من فرضية محددة، حاولت فيما سبق مناقشتها والمحاجّة من أجل تأكيدها، ما يمكن إجمال نتائجه وخلاصاته في الآتي:

  • تعتمد أطروحات الدولة عند بشارة تكامل التخصصات وتنجح في العبور الدقيق بينها؛ ما يمثل إضافات مهمة وأصيلة معرفيًا. لقد توسل في ذلك منهجيًا وموضوعيًا العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا سيما الفلسفية والسياسية والتاريخية والسوسيولوجية، إلى جانب سبر ممكنات الواقع واستقرائها، ثم الاستدلال على ما يمكن صوغه نظريًا في صورة أطروحات.
  • سياق عمل رولز هو المثال السياسي لدولة محكومة بنظام ديمقراطي ليبرالي فعلًا، بهدف الوصول بها إلى أن تكون اجتماعية مساواتية (عدالة اجتماعية سياسية محايدة دستوريًا، ثقافيًا جماعتيًا، باسم المواطنة وفي ظلها)، وهذا الأمر يتفق بشارة مع مبدئه ومثاله السياسي ويطمح إلى تحقيق صورة من صوره واقعيًا في سياق الدولة العربية التي ما زالت تعاني مشكلات عميقة في رسوخها واستدامتها، من حيث هي كذلك، فضلًا عن أنها ما زالت متعثرة في الشروع بالانتقال إلى أن تحكم بنظم ديمقراطية. ويُلاحظ أن بشارة لا يتفق ومقاربات العقد الاجتماعي وأساسها الافتراضي، ورولز استمرار لها، في فهم الدولة وتفسير نشوئها وتطورها، من دون إغفال أن الأخير لم يكن مهمومًا بذلك، بل بالبناء المثالي على مفهوم دولة قائمة فعلًا بمجتمع ذي تقاليد ديمقراطية ليبرالية (يدعوه في صورته المثالية مجتمعًا منظمًا، على نحو جيد).
  • تمثل أطروحات الدولة عند بشارة يوتوبيا سياسية واقعية نسبية أو نموذجًا واقعيًا قائمًا في مفهومه للدولة، بما هو أمل مستقبلي ممكن التحقق والمحاكاة من حيث مبدؤه، على الرغم من أن الواقع العربي ما زال بعيدًا من ذلك. لكن من شأن شيوع هذه الأطروحات، في الأوساط الفكرية والسياسية والنخبوية والتشريعية والثورية والإصلاحية والثقافية العامة ... إلخ، أن يحدث تغذية راجعة في وعيها وأن يؤثر في توجهاتها وممارساتها، والأهم أن يحدث توترًا بين مقولاتها ومفاهيمها والواقع؛ ما قد يعني تقدمًا وصيرورة في كليهما (الأطروحات نظريًا والواقع عمليًا).
  • ينجح بشارة، في سياق مشروعه الفكري الديمقراطي وبشأن الدولة والدولة العربية خاصةً، في نفض الغبار عن المفاهيم والمقولات ذات الصلة ويطورها ويميزها من غيرها وفيما بينها (التنوير)، مثل مفهوم الدولة الحديثة والمواطنة والسيادة والشرعية والأمة والقومية وتمييز الدولة من النظام والسلطة.
  • أدرج بشارة، بطريقة واضحة مباشرة، المواطنة في تعريف الدولة الحديثة نفسه، مميزًا بين ما يدخل في التعريف وما له صلة بوظائفها ونشوئها وتطورها. وقد نجح في محاجّاته المدافعة عن أهمية ذلك في الانتقال بالدولة إلى أن تحكم بنظم ديمقراطية.
  • يأتي تأكيد بشارة المواطنة، بما هي جزء من تعريف الدولة ومنظومة حقوق وواجبات، وصلتها الوثيقة بالمجتمع المدني والعدالة، وصلة كل ذلك بالدولة، في سياق سعيه لتأكيد الديمقراطية الليبرالية التي يفهم من مقتضيات مقارباته في المواطنة والعدالة أنها ذات توجه اجتماعي مساواتي. 
  • ما تزال الدول العربية بعيدة جدًّا من المثال السياسي الذي تمثله أطروحات بشارة في الدولة، وهي فضلًا عن ابتعادها من طموحات الوحدة، باسم القومية العروبية أو الإسلامية، تتجه في حالات معيّنة إلى زيادة تجزئة الدولة القُطرية ذاتها، وهو ما يبدو أنه أزمة الدولة وشرعيتها، بينما هو في حقيقته أزمة نظم حاكمة أخفقت في تحقيق الاندماج الاجتماعي باسم المواطنة، فكانت النتيجة صعود انتماءات جماعتية تحولت إلى أساسٍ لاحتراب أهلي، وفقدان الدولة جزءًا من سيادتها والقدرة على احتكار العنف الشرعي والتشريع في حدود نطاقها الترابي الرسمي، إلى جانب انخراط النظم ذاتها، في حالات مثل سورية (النظام المخلوع)، في العنف غير الشرعي واستجلاب قوى خارجية والتسبب في حضورها (انتهاك السيادة). يضاف إلى ذلك، وبسببه أيضًا، أن الحالة العربية ما زالت مفتقرة إلى مجتمع مدني فاعل سياسيًا في مواجهة نظم الغلبة، من أجل الانتقال بالدولة إلى المآل الديمقراطي.
  • تأكيد الفرضية الرئيسة التي انطلقت منها الدراسة، وهي: انشغل رولز بأسئلة مطروحة في إطار الدولة الديمقراطية الليبرالية الراسخة، وخصوصًا سؤال العدالة (العدالة إنصافًا بوصفها يوتوبيا واقعية نسبية)، في حين يركّز بشارة جهده على تطوير نظرية الدولة وبلورة مفهومها. هدف بشارة الرئيس هو تأكيد شروط الوصول إلى نظم ديمقراطية في السياق العربي، والمسألة عنده تبدأ منطقيًا بالدولة، وما له صلة بنشوئها وتطورها (العلمنة والأمة والقومية والطائفية ... إلخ)، وتنتهي بالديمقراطية وما له صلة بها (المواطنة والمجتمع المدني والعدالة والانتقال الديمقراطي ... إلخ). 


الهوامش

[1] صدرت لبشارة أيضًا أعمال مرجعية في الشأن الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، بالعربية والإنكليزية، وأعمال أخرى في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤتمراته وندواته ودورياته المحكمة (أحسبه الأهم عربيًا، من حيث سعة التأثير والنشر والانتشار، إلى جانب معهد الدوحة للدراسات العليا ومركز حرمون للدراسات المعاصرة). أسس قبل ذلك في فلسطين عددًا من المؤسسات وأمضى سنوات في مقاومة السياسات الإسرائيلية، قبل الانتقال إلى الدوحة، ثم اعتزل العمل السياسي وتفرّغ للفكري البحثي. 

[2] عزمي بشارة، مقالة في الحرية (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 188.

[3] يذهب الحدس والرجاء إلى توقع أن أعمالًا مرجعية تأصيلية أخرى ستصدر لبشارة بعناوين من مثل الديمقراطية، وتجدر الإشارة إلى أهمية أن تترجم أعمال بشارة العُمد كلها إلى الإنكليزية، لكي ينال مشروعه حقه في الانتشار والتأثير العالميين.

[4] عزمي بشارة، مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات )الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، ص 142؛ للتوسع، يُنظر: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني/ المجلد الأول: العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 303-304.

[5] بشارة، مسألة الدولة، ص 87.

[6] ينظر: سهيل الحبيّب، العلمانية من سالب الدين إلى موجب الدولة: راهنية مشروع بشارة عربيًا (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019).

[7] ينظر: مصطفى أيت خرواش، نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: نقد السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019).

[8] ينظر: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول: الدين والتديّن (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)؛ بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني/ المجلد الأول؛ عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني/ المجلد الثاني: العلمانية ونظريات العلمنة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).

[9] ينظر: سهيل الحبيّب، "مشروع عزمي بشارة في التحول الديمقراطي عربيًا: دراسة مقارنة في زمن البحث عن شروط القابلية لتطبيق الديمقراطية"، تبيُّن، مج 2، العدد 3 (شتاء 2013). 

[10] ينظر: يوسف بن عدي، "نقد المفاهيم في المشروع الفكري العربي: عزمي بشارة نموذجًا"، دراسات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 20/6/2019، شوهد في 12/3/2025، في: https://acr.ps/1L9zRgu 

[11] محمد حمشي، "المجتمع المدني والدولة في الجنوب الكبير: ما القيمة المضافة لكتاب ’المجتمع المدني: دراسة نقدية‘ في دراسات الجنوب الكبير؟"، تبيُّن، مج 12، العدد 38 (خريف 2021). 

[12] يفصّل بشارة القول في التنظيمات العثمانية، في السياق العربي الإسلامي، ودورها في الشروع بالعلمنة واحتكار التشريع (والانتقال إلى أمة الدولة والمواطنة) في القسم/ الفصل الأول من الدولة العربية، ويقول إن قادة الدول العربية الأوائل، وهم "نتاج التنظيمات العثمانية"، كانوا أكثر انفتاحًا على التعددية وقبولًا بها من "القادة الذين نشؤوا في ظل الاستعمار". ينظر: عزمي بشارة، الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024)، ص 98.

[13] المرجع نفسه، ص 16-17.

[14] المرجع نفسه، ص 177.

[15] للتوسع ينظر: المرجع نفسه، ص 101 وما بعدها.

[16] منهجية التوازن التفكري الواسع Wide Reflective Equilibrium، وهي الأكثر شيوعًا في النظرية السياسية المعيارية التوجيهية Normative Prescriptive المعاصرة، منذ أن طرحها رولز في نظريته بشأن العدالة. إنها حال من التوازن والتماسك في مبادئنا وأفكارنا ومقارباتنا وفرضياتنا ومحاجّاتنا، والوقوف على البدائل المتاحة والتأمل فيها، لتسويغ هذه المبادئ والأفكار والمقاربات والفرضيات والمحاجّات، وصوغها. للتوسع، ينظر: 

John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge: Harvard University Press, 1999), pp. 18–19, 42–44, 104, 379, 381, 507–508; John Mikhail, “Rawls’ Concept of Reflective Equilibrium and Its Original Function in A Theory of Justice,” Washington University Jurisprudence Review, vol3, no. 1 (2010), pp. 23-28; Norman Daniels, Wide Reflective Equilibrium and Theory Acceptance in Ethics,” The Journal of Philosophy, vol. 76, no. 5 (1979); “Reflective Equilibrium,” Stanford Encyclopaedia of Philosophy, 27/11/2023, accessed on 10/4/2025, at: https://acr.ps/1L9zQrB

[17] أطروحات الدولة عند بشارة تنسجم وما تقف المقاربات الفلسفية والنظرية السياسية المعيارية عليه من تمييز بين الواقع والممكن المرجو سياسيًا، ويمكن للمنهجية في النظرية السياسية المعيارية أن تكون وصفية وتوجيهية في آن معًا، فهي توجيهية تشير إلى الـ "ما ينبغي" ووصفية تشير إلى القيود الواقعية لحالات بعينها، الأمر الذي يتيح نطاقًا واسعًا من معالجة المعايير وطريقة تطبيقها في ظل القيود الواقعية. تُعرف النظرية السياسية المعيارية بالنظرية السياسية التحليلية أيضًا. ينظر:

Chandran Kukathas & Philip Pettit, Rawls: A Theory of Justice and Its Critics (Cambridge: Polity Press, 1990), pp. 1–2; Christian List & Laura Valentini, “The Methodology of Political Theory,” The Oxford Handbook of Philosophical Methodology (Oxford: Oxford University Press, 2016), p. 1; Laura Valentini, “Ideal vs. Non-ideal Theory: A Conceptual Map,” Philosophy Compass, vol. 7, no. 9 (2012), p. 654; Dorota Pietrzyk-Reeves, “Normative Political Theory,” Teoria polityki, no. 1 (2017), p. 179.

يُنظر أيضًا تمييز بشارة الدقيق بين النظرية السياسية والفلسفة السياسية، والصلة بينهما في: بشارة، مسألة الدولة، ص61 وما بعدها. 

[18] المرجع نفسه، ص 426.

[19] المرجع نفسه، ص 306؛ يعرف فيبر الدولة، من ناحية سوسيولوجية وظيفية، من خلال وسيلتها النوعية، لا الوحيدة، متمثلةً في احتكار العنف الفيزيائي المادي (أو الجسدي) الشرعي أو القانوني في حدود ترابية أو أرض معينة (نطاق السيادة). ينظر: ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 262-263.

[20] بشارة، مسألة الدولة، ص 427.

[21] المرجع نفسه.

[22] جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 90-91.

[23] محمود، ص 154.

[24] كارل مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة محمد رجا الديريني (الكويت: شركة المكتبات الكويتية، 1980)، ص 160-163، 257.

[25] للوقوف على قول بشارة بشأن يوتوبيا رولز في العلاقات الدولية، ينظر: بشارة، مسألة الدولة، ص 303-304؛ وبشأن انتهاك سيادة الدول والقانون الدولي ومعايير الغرب المزدوجة والعلاقات الدولية التي يصفها بـ "المأساة المروعة"، وبات مبدأ اعتماد كل دولة على قوتها الذاتية هو المعمول به، لا على شرعية وقوانين أو مبادئ إنسانية دولية، ينظر: المرجع نفسه، ص 285 وما بعدها، 296؛ وللتوسع بشأن يوتوبيا العلاقات بين المجتمعات في المستوى الكوني، وبشأن "المجتمعات الهرمية التشاورية السمحة"، ينظر: جون رولز، قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام، ترجمة محمد خليل (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2007)، ص 31، 104 وما بعدهما؛ طور رولز فكرة قانون الشعوب التي قال بها أولًا إيمانويل كانط في رسالته المعنونة بـ مشروع للسلام الدائم، وهو السبّاق إلى فكرة "حلف شعوب" أو "جامعة أمم"، بما هي صيغة يوتوبيا تعاقدية كونية لم يتحقق منها حتى الآن إلا "الأمم المتحدة" التي أخفقت في ضمان السلام العالمي بين الدول وفي داخلها (حروب أهلية وانتهاكات أنظمة غلبة قمعية)، إذ تسير الأمور واقعيًا في اتجاه معاكس لما طمح إليه كانط (ورولز وغيرهما) في يوتوبيا قانون الشعوب. ينظر: إيمانويل كانط، مشروع للسلام الدائم، ترجمة عثمان أمين (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1952)، ص 41-59؛ محمود، ص 105-106.

[26] في هذا السياق وللتوسع، تجدر الإحالة على مُؤلَّفي بشارة المهمين: عزمي بشارة، قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة، ترجمة باسم سرحان (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024)؛ عزمي بشارة، الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024).

[27] كذلك، والفلسفة المؤسسة للأيديولوجيا التي يقوم عليها نموذج الدولة الرعائية، بصورة أقل حدة. الأيديولوجيا النيوليبرالية إحياء لمقاربات الليبرالية الرأسمالية الجذرية، في نفعيتها وحدِّها من تدخل الدولة (الحرية الليبرالية قائمة على مبدأ عدم التدخل، تدخل الدولة، وهي الحرية السلبية بالمعنى الذيجادل أشعيا برلين Isaiah Berlin (1909-1997) بشأنه، مستعيرًا إياه من فريدريش هيغل Friedrich Hegel(1770-1831)، ولا سيما في النشاط الاقتصادي والسوق (دعه يعمل، دعه يمر)، وهي تقوم على مبدأ "اليد الخفية" لآدم سميث Adam Smith (1723-1790)، بديلًا من يد الدولة (من باب التندر قيل: "دولة الحارس الليلي وشرطي السير") في تحقيق الخير الاجتماعي العام. في هذا السياق، يميز نوزيك في كتابه اللادولة والدولة واليوتوبيا الدولةَ من اليوتوبيا التي يرى أن الطرح الرولزي يمثلها، خاصة في الوضع الأصلي، بما هو صورة افتراضية من الحالة الأولى في نظريات العقد الاجتماعي. الدولة بهذا المعنى حد وسط بين بؤس الفوضى واقعيًا ونعيم اليوتوبيا تأمليًا. ينظر:

Robert Nozick. Anarchy, State and Utopia (New York: Basic Books, 1974), pp. 282-292; Robert Nozick, Invariances: The Structure of the Objective World (Cambridge: Harvard University Press, 2001), pp. 77, 250, 289, 391, 399; Robert Nozick. The Nature of Rationality (Princeton: Princeton University Press. 1993), pp. 68, 192, 194; 

يُنظر بشأن ما ورد أعلاه: جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، سلسلة عالم المعرفة 261 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2000)، ص 76؛ أشعيا برلين، أربع مقالات في الحرية، ترجمة عبد الكريم محفوض (دمشق: وزارة الثقافة، 1980)، ص 60-61، 276-277، 285؛ محمود، ص 57-64؛

Adam Smith, An Inquiry into the Nature and Causes of Wealth of Nations (University Park, PA: The Pennsylvania State University, 2005), pp. 19, 364, 579-590. 

[28] للتوسع ينظر: بشارة، مسألة الدولة، ص 33 وما بعدها.

[29] ينظر: المرجع نفسه، ص 9؛ بشارة، الدولة العربية، ص 18.

[30] بشارة، مسألة الدولة، ص 83، 215؛ بشأن دولة الرعاية بالمعنى أعلاه، ينظر: محمود، ص 67 وما بعدها.

[31] من صور النزعة الجماعتية الثقافية في سياق الدولة والمواطنة والمجال العام عمومًا، تأتي مشكلة الطائفية، الأمر الذي غطاه بشارة بحثًا في: عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية والطوائف المتخيلة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)؛ تشير التعددية الثقافية إلى نموذج دولة يأخذ في الحسبان المطالب الجماعتية الثقافية وتحديات نزاعاتها، ويجادل كيمليكا بأن العدالة السياسية يجب أن تعتمد على العضوية الجماعتية الثقافية والحقوق ذات الصلة "خارج حقوق المواطنة العامة". ينظر: 

Will Kymlicka. Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights (Oxford: Clarendon Press, 1995), p. 206 n. 1.

[32] هذا ما يعرف بالليبرالية العمياء فيما يخص الاختلاف والتنوع، ولا سيما الجماعتي الثقافي، ومن الأمثلة المهمة في السياق أن تايلور يجادل بالقول إن "الليبرالية ليست أرضية لقاء محتملة للثقافات جميعها، ولكنها تعبير سياسي عن نطاق واحدة من الثقافات، وغير متوافقة تمامًا مع النطاقات الأخرى [...] ولا يمكن ولا ينبغي لها ادعاء [...] الحياد الثقافي [...] الليبرالية هي أيضًا عقيدة قتالية". فيما يتعلق بالحالات ذات الأغلبية المسلمة أو المسلمة كليًا، يجادل تايلور بأن في "تيار الإسلام السائد لا وجود لمسألة فصل السياسة عن الدين بالطريقة [... التي] في المجتمع الليبرالي الغربي [...] علاوة على ذلك، يدرك كثير من المسلمين جيدًا أن الليبرالية الغربية ليست تعبيرًا عن النظرة العلمانية ما بعد الدينية التي تصادف أنها تحظى بشعبية بين المثقفين الليبراليين، بما هي ثمرة أكثر عضوية للمسيحية - على الأقل - كما يُرى في وجهة نظر الإسلام المفضلة البديلة". ينظر: 

Charles Taylor, “The Politics of Recognition,” in: Charles Taylor et al., Multiculturalism: Examining the Politics of Recognition (Princeton University Press, 1994), pp. 62, 44. 

[33] بشارة، مسألة الدولة، ص 52، 54، 99، 244، 271-272، 298.

[34] للتوسع، ينظر: المرجع نفسه، ص 163-181.

[35] بشارة، مقالة في الحرية، ص 186.

[36] بشارة، الدولة العربية، ص 19. للتوسع، ينظر: بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 325 وما بعدها.

[37] ألاحظ أن الخطاب الإسلامي ما يزال أكثر شيوعيًا وتأثيرًا من القومي في الثقافة العامة لدى الأكثرية غير النخبوية في الدول العربية.

[38] بشارة، الدولة العربية، ص 22.

[39] ولا سيما الحديث الشريف، مختصرًا وما معناه: "تكون نبوة، ثم خلافة على منهج النبوة، ثم ملكًا عاضًّا، ثم ملكًا جبريًّا، ثم خلافة على منهج النبوة". ينظر: أحمد بن حنبل، المسند، ج 30 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1999)، ص 355.

[40] يمكننا القول إن صيغة ما منسجمة مع منطق الدولة الديمقراطية الحديثة تتمثل في قبول الفقه الإسلامي (والشريعة الإسلامية عمومًا) مصدرًا (قد يكون رئيسًا) من مصادر التشريع الذي تحتكره الدولة ممثلةً في المشرعين المنتخبين والمعينين. في الحد الأدنى، تكون الشريعة الإسلامية قانونًا للأحوال الشخصية، والأمر ذاته ينطبق على الشرائع الدينية الأخرى لأتباعها، فالتشريع الذي تحتكره الدول الحديثة، في أكثر التجارب العالمية المتقدمة، ليس بعيدًا من ثقافة مجتمعاتها، أديانًا وأعرافًا وتراثًا .. إلخ. 

[41] بشارة، الدولة العربية، ص 181.

[42] مانهايم، ص 248، 257؛ رولز، ص 373؛ عن سؤال الشرعية واليوتوبيا والأيديولوجيا، ينظر: بول ريكور، محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة فلاح رحيم (بيروت: دار الكتب الجديدة المتحدة، 2002)، ص 258.

[43] بشارة، مسألة الدولة، ص 426.

[44] محمود، ص 156؛ ينظر أمثلة المعنى ذاته من نصوص رولز أيضًا، في: رولز، ص 321، 377. 

[45] بشارة، مسألة الدولة، ص 11.

[46] المرجع نفسه، ص 386.

[47] بشارة، ص 178. أيّ مرجع مقصود؟؟

[48] ينظر: عزمي بشارة، "نوعان من المواطنة – كلمة الدكتور عزمي بشارة بمناسبة منحه جائزة ابن رشد للفكر الحر"، موقع جائزة ابن رشد للفكر الحر، 14/12/2002، شوهد في 12/3/2025، في: https://acr.ps/1L9zQHc 

[49] عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 190-191.

[50] يتناول بشارة الحالة العراقية، عميقًا وموسعًا، ولا سيما ما له صلة بمشكلة الطائفية في: بشارة، الطائفة، ص 575-789.

[51] ينظر: بشارة، "نوعان من المواطنة"؛ إذ يكشف بشارة زيف مقولات الدولة والمواطنة والديمقراطية وواقعها في الحالة الإسرائيلية، قائلًا: "إن التحدي الأساس الذي يواجه القوى الديمقراطية في الدولة غير الديمقراطية هو ممارسة تحدي المواطنة، وتعويد الفرد أن يتصرف كمواطن، وتعويد القوى السياسية المختلفة أن تتبنى مفهوم المواطنة المتساوية والمساواة أمام القانون. أنتم تعلمون أنني أنتمي إلى شعب محروم من المواطنة، لأنه يرزح تحت الاحتلال ويحرم من حق تقرير المصير ومن السيادة، ولا يمكن الحديث عن مواطنة في ظل الاحتلال ودون سيادة كاملة، لقد أسلفنا أن المواطنة هي الوجه الآخر للسيادة. كما أنني مواطن في دولة تعتبر الانتماء الديني أو القومي أساس علاقة الفرد بالدولة. إنني مواطن في دولة ليست لمواطنيها". للتوسع والتعمق في هذا الشأن نُحيل إلى كتاب: عزمي بشارة، من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقضات الديمقراطية الإسرائيلية، ط 2 (القاهرة: دار الشروق، 2004)؛ كذلك، يصف بشارة الحالة الإسرائيلية بأنها "دولة استعمار استيطاني" وتمييز عنصري. ينظر: بشارة، مسألة الدولة، ص 413 هامش 41؛ بشأن الثقافة الديمقراطية في سياق الثقافة السياسية؛ ينظر: عزمي بشارة، "الثقافة السياسية: ملاحظات عامة"، تبيُّن، مج 12، العدد 45 (صيف 2023)، لا سيما ص 23-29؛ بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، ص 407 وما بعدها.

[52] بشارة، "نوعان من المواطنة".

[53] بشارة، في المسألة العربية، ص 149-150؛ أبرز المنظرين للديمقراطية التوافقية آرنت ليبهارت Arend Lijphart في مؤلفات عدة أبرزها: آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية في عالم متعدد، ترجمة حسني زينة (بغداد: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006)؛ تم الترويج لهذا النموذج وتطبيقه عربيًا في العراق ولبنان، الأمر الذي فنده بشارة وبيّن مشكلاته النظرية والواقعية. ينظر: بشارة، الطائفة، ص 511-571.

[54] بشارة، المجتمع المدني، ص 49.

[55] المرجع نفسه، ص 8.

[56] المرجع نفسه.

[57] المرجع نفسه، ص 75.

[58] يُنظر الفصل المعنون بـ "الأمة والقومية والمجتمع المدني"، في: المرجع نفسه، ص 243-295.

[59] المرجع نفسه، ص 31.

[60] المرجع نفسه.

[61] المرجع نفسه، ص 32.

[62] عزمي بشارة، في المسألة العربية، ص 150. 

[63] تجدر هنا الإحالة على: عزمي بشارة، "مداخلة بشأن العدالة: سؤال في السياق العربي"، تبيُّن، مج 1، العدد 1-2 (صيف 2013).

[64] بشارة، مقالة في الحرية، 150.

[65] تُعدّ "ديمقراطية امتلاك الملكية" أو ما ذهبت، من دون إصرار، إلى تسميته بـ "ديمقراطية الملكية المقيدة بالقانون"، أحد أهم وأحدث النماذج النظرية المطورة في سياق الرولزية والديمقراطية الليبرالية الاجتماعية عامة، وهي ما يمكن وصفها أيضًا بأنها ذات نزعة اشتراكية. للتوسع ينظر: محمود، ص 259-278؛ مراد دياني، حرية- مساواة- كرامة إنسانية: طوباوية العدالة من منظور النموذج الليبرالي الإسكندنافي (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 257-315.

[66] يمكن الوقوف على مقاربات أمارتيا سن المهمة جدًا في: أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي (بيروت: ناشرون، 2010)؛ أمارتيا سن، التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، العدد 371 (الكويت: المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 2004).

[67] بشارة، مقالة في الحرية، ص 187.

[68] المرجع نفسه، ص 189.

[69] المرجع نفسه، ص 190.

[70] بشارة، "مداخلة بشأن العدالة: سؤال في السياق العربي"، ص 11.

[71] لا أبلغ من القول "سلوك كانطي داخليًا وميكافيلي خارجيًا" في توصيف حال أكثر الدول الغربية. ينظر: طارق متري [وآخرون]، "مناقشة كتاب عزمي بشارة مسألة الدولة"، مراجعات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني/ يناير 2024، ص 8؛ مع إضافة "كانطي داخليًا صوريًا"، بسبب الخلل في تحقيق نسبي معقول لقيمة المساواة، ولا سيما التمكينية، الأمر الذي يمكن تعميمه نسبيًا في التعامل مع الآخر، دولًا ومجتمعات وأفرادًا، وما ظهر بصورة فجة وقحة في غزة منذ طوفان الأقصى (وقبله خلال عقود في فلسطين كلها) وحالات أخرى كثيرة. 

[72] بشارة، مسألة الدولة، ص 164.

[73] للتوسع ينظر: محمود، ص 182 وما بعدها.

[74] ينظر:Taylor, “The Politics of Recognition,” p. 57 .

[75] بشارة، "الثقافة السياسية"، ص 16-17؛ يرى هيغل أن "الدولة تجسيد للأخلاق الاجتماعية العمومية في مؤسسة قادرة على تمثيلها وتطبيقها"، ينظر: بشارة، مسألة الدولة، ص 186-187، 195.

[76] بشارة، المجتمع المدني، ص 173.

[77] بشارة، الدولة العربية، ص 17-18. 

[78] المرجع نفسه، ص 181.

[79] عزمي بشارة، سورية: درب الآلام نحو الحرية )الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013(، ص 31.

[80] بشارة، الدولة العربية، ص 23، 357-358؛ بشارة، مسألة الدولة، ص 333.

[81] للاطلاع على ما يخص انتخابات قسد وما دعته "عقدًا اجتماعيًا"، ينظر: علاء رجب تباب، "انتخابات "قسد".. تفاوض على استحياء وإلغاء بنكهة التأجيل"، الجزيرة نت، 8/6/2024، شوهد في 12/3/2025، في: https://acr.ps/1L9zRc6؛ "العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، طبعة 2023"، مركز معلومات شمال وشرق سوريا، شوهد في 23/3/2025، في: https://acr.ps/1L9zQLb 

[82] بشارة، الدولة العربية، ص 126؛ ص 435-436، 439-440.

[83] بشارة، مقالة في الحرية، ص 189.

[84] بشارة، الدولة العربية، ص 115.

[85] المرجع نفسه، ص 451-452.

[86] المرجع نفسه، ص 453.

[87] المرجع نفسه، ص 455.

[88] المرجع نفسه، ص 454.

[89] المرجع نفسه، ص 455.

[90] بشارة، المجتمع المدني، ص 8-9.

[91] المرجع نفسه، ص 19.

[92] بشارة، الدولة العربية، ص 449.

[93] المرجع نفسه، ص 455-456.