تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

"الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" لعزمي بشارة.. التحديث والدمقرطة (1)

2020-07-27

"لم أقبل في يوم من الأيام بأننا في الشرق الأوسط نقوم بدراسات إقليمية، وفي أوروبا يقومون بعلوم اجتماعية، فأعتقد أيضًا أنه بإمكاننا بأبحاثنا عن منطقتنا، أن نقوم أيضًا بتعميمات كونية، وبهذا نُسهم في تطوير العلوم الاجتماعية والإنسانية
                                                                                                          عزمي بشارة، محاضرة في الكوليج دو فرانس

مجد أبو عامر
 

يُنظر إلى دراسات الانتقال الديمقراطي العربية، أنّها ليستْ بعمق الدراسات الغربية ودراسات أميركا اللاتينية، بوصفها تُطوّر صيغ الانتقال من خلال التجارب الناجحة، الّتي تكاد تنعدم في العالم العربي، وبالتالي يُزعم أنّ الدراسات العربية محصورة في الإطار النظري المجرد، وأنّها تعتمدُ مؤشرات غير عربية، ولا تولي كثير الاهتمام لنقد المفاهيم والعقائد المُستقاة من السياق الأورو- أميركي، كالديمقراطية والدمقرطة. على خلاف هذه السردية الرائجة، وإن كانتْ تجانبُ بعض الصواب، إلّا أنّه لا يُمكن تعميمها دون مراجعة الأدبيات العربية في حقل الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، وفي هذا السياق تأتي إسهامات المفكر العربي عزمي بشارة.
 


من "أنماط التّدين" وحتّى "الشعبوية": سيرة مشروع ديمقراطي عربي

تأتي موضوعات الديمقراطية والدمقرطة عربيًا في أعلى سُلّم اهتمامات بشارة البحثية، بوصفه مُفكرًا ومثقفًا ديمقراطيًا عربيًا، فقد خصّصَ لها العديد من المقالات والدراسات والكتب، التي يُمكن اعتبارها أنموذجًا للتنظير العربي حول الديمقراطية، بحيث تتجاوز المقاربات الّتي قدّمها في تفسير إشكاليات الدمقرطة في العالم العربي حدودها، لتستحيلَ إسهامًا عالميًا.
استهلَ بشارة مشروعه الفكري حول الديمقراطية بدراسته "مدخل إلى معالجة الديمقراطية وأنماط التّدين" (1994)، التي نفى فيها التناقض بين الدين والديمقراطية، وأحال الإشكالية إلى العلاقة بين الممارسة الاجتماعية للدين/ أنماط التّدين والديمقراطية. ومن ثم كتابه "المجتمع المدني: دراسة نقدية" (1996)، الذي ربطَ فيه مسألةَ تحقيق الديمُقراطية في العالم العربي بإقامة مُجتمع مدني، ودعا في كتابه "طروحات عن النهضة المعاقة" (2003) إلى دمقرطة القومية بما أسماه "القومية الديمُقراطية"، وبرزَت لديه الدعوة للتلازم بين تحقيق الأمّة وتحقيق الديمقراطية، بما سمّاه بالمسألة العربية في كتابه "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" (2007)، وأكّدَ عليه في كتابه "أن تكون عربيًا في أيامنا" (2009)، بأن الديمُقراطية هي الطريق الّتي ستؤدّي إلى الوحدة العربية، كما نفى في هذا الكتاب الأخير صفة الديمقراطية بمعناها الحديث عن "الديمقراطية التوافقية". وعالجَ في كتابه "في الثورة والقابلية للثورة" (2011)، مفهوم الثورة وما يرتبط به من مفاهيم أخرى كالخروج والفتنة والقومة، ونظّر فيه للثورة الديمقراطية. إضافةً لذلك، قدّمَ بشارة إسهامًا في تأريخ الراهن، بتوثيقه الثورات التونسية والسورية والمصرية في مؤلفاته: "الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها" (2012)، "سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن" (2013)، "ثورة مصر: ج1: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير، ج2: من الثورة إلى الانقلاب" (2016)، كما عالجَ الانقلاب والثورة المضادة في مصر في دراسته "الثورة ضد الثورة والشارع ضد الشعب، والثورة المضادة". وبحثَ في دراسته "عن المثقف والثورة" (2013) العلاقة بين المثقف والثورة، وقدمَ تمييزات بين المثقف الإصلاحي والعمومي والثوري والمحافظ، مشيرًا إلى افتقاد الثورات العربية للمثقف الثوري. ورأى في كتابه "الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية" (2017)، أنّه لا يُكتب النجاح لثورةٍ إذا لم تكسبُ الجيشَ إلى جانبها، أو تُحيّده على الأقل. وأعادَ تفسير مسألة العامل الخارجي في دراسته "ملاحظات عن العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي" (2019)، ليولي الأهمية للعوامل الداخلية التي بها تتحدد قدرة العامل الخارجي على التأثير، إضافةً إلى الموقع الجيوستراتيجي ووجود النفط. ولم يغفل بشارة عن معالجة الشعبوية بوصفها ظاهرة تشهدُ تصاعدًا في عالم السياسة ومصطلحًا يُخلعُ على حركات يمينية، ففي كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟" (2019)، شخّص ما أسماه بالأزمة الدائمة للديمقراطية الليبرالية المعاصرة، التي تنتجُ عن تداخل التقليد الليبرالي والتقليد الديمقراطي، إلى جانب انتشار الشعبوية اليمينية.

ويتوّج بشارة مشروعه الفكري حول الديمقراطية – الممتد لأكثر من 26 عامًا – بكتابه الصادر حديثًا "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (2020)، الذي يُخصّصه لدراسة الانتقال الديمقراطي – لا نظرية الديمقراطية – مُنطلقًا من الحفر الجينولوجي لدراسات الانتقال مُتتبعًا تطوّر الحقل (State of Art)، بدءًا بنظريات التحديث التي انبثقت منها دراسات الانتقال (Transition Studies)، وصولًا إلى تبلور حقل الانتقال الديمقراطي (Democratization) في سبعينيات القرن الماضي. وبدراسته لحالات إمبريقية من العالم العربي، يُقدّمُ بشارة نقدًا لدراسات الانتقال، وبالمقابل إسهامًا عربيًا في نظرية الانتقال الديمقراطي.
يُراجع هذا المقال القسم الأول من الكتاب، "جذور دراسات الانتقال في نظرية التحديث"، الواقع في خمسة فصول تُعالج أطروحة الشروط البنيوية للديمقراطية وسؤال الانتقال والديمومة، ومفهوم الشرعية والانتقال التدريجي نحو الديمقراطية، والعلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية من منظور تاريخي، ويتعرّض إلى نظرية التحديث ونقّادها.

الديمقراطية بوصفها نظام حقوق

ينطلقُ بشارة في كتابه من الاعتقاد بأن للديمقراطية المُعاصرة ثلاثة مكوّنات ضرورية مُتلازمة:
(1) المشاركة السياسية الكاملة والمستندة على مبدأ المساواة، دون أن تقتصر المشاركة على الانتخابات التي هي القناة الرئيسية لتحقيقها، والتي لا تتحقّق دون نُخب سياسية كافية للتناوب على السُلطة.
(2) حكم القانون الذي يَمنع تعسف السُلطة ويضعُ حدود السلطتين التشريعية والتنفيذية.
(3) ضمان الحقوق السياسية والحريات المدنية. ويُشكّل المكونان الأول والثالث المواطنة المُعاصرة تحت إطار الدولة، فالديمقراطية – بتعبير روبرت دال – هي نظام حقوق مثلما هي نظام حكم، وهي ليست الحالة/ النظام الطبيعي مثلما هي ليست نظام حكم مثاليًا تُحقّقه الدول مع تطوّرها الذاتي، وكذلك الحال بالنسبة للديمقراطيين فهم ليسوا الأخيار الذي يواجهون الأشرار، بل ما يُمكن تقديره هو أنّ الديمقراطية هي البديل الوحيد للسلطوية حاليًا؛ لا لأنها تُحقّق انتخاب الحكّام، بل لانطوائها على قضية حماية المواطنين من السلطوية، التي هي غاية وهدف المجتمعات الساعية للتخلّص من الأنظمة السلطوية، والذي ارتبطَ بتطوّر الليبرالية. واللبرلة لا تعني الدمقرطة، إلا أنهما ترتبطان تاريخيًا، فمن دون الحريات الفردية والجماعية وتحديد سلطات الدولة، تستحيلُ الديمقراطية استبداد ممثلي الأغلبية، ودون المساءلة والمحاسبة يُمكن للحكومة التلاعب بالحريات والحقوق. وعليه، يظهرُ في هذا العصر التلازم بين الديمقراطية والليبرالية، بحيث لا تتواجد إحداهما دون أخرى، وحتّى الديمقراطية المشاركة والديمقراطية الاجتماعية، إذا لم تنطوِ على الليبرالية السياسية تغدو مُجرد خطاب تضليلي لأنظمة غير ديمقراطية (ص 15-19).
وفي الحالة العربية، لم يُطرح غير النظام الديمقراطي بديلًا عن السلطوية، وهو ما نادت به الثورات العربية منذ عام 2011، ومن ثم ثورات عام 2019. وبالمقابل، تعملُ السلطويات العربية على شرعنة الرقابة والقمع عن طريق فزّاعة الفوضى، بالإشارة إلى حالات سورية واليمن وليبيا خصوصًا، وبتحميل المواطن الطامح لحياة كريمة مسؤولية المعاناة الإنسانية، وهي في الواقع مغالطة، حيث لا تتحمل الديمقراطية مسؤولية الفوضى والحرب الأهلية، بل رفض الأنظمة لمسار الدمقرطة بالمقام الأول، ومن ثم عدم فهم المعارضة لتعقيدات هذا المسار، والحركات الدينية السياسية المتطرفة. وفي حين لم يقم أي نظام عربي بدحض النظام الديمقراطي، إنما ادّعى التمسك به تارةً تحت مُسمّى "الديمقراطية الشعبية" على منوال أنظمة الحزب الواحد في أوروبا، وتارةً لعدم جاهزية الشعوب للديمقراطية، يُحاج بشارة بأن توافر الثقافة الديمقراطية لدى النخب السياسية، لا عند الناس عمومًا، هو المطلوب لتحقيق الانتقال الديمقراطي (ص 19-23). 

في البدء كان التحديث: الطريق نحو دراسات الانتقال

تأتي دراسات الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية كنقدٍ لنظريات التحديث وتحديدها لشروط بنيوية لقيام الديمقراطية، ويُشيرُ بشارة إلى أن استخدام مصطلح التحديث ينطوي على حكم معياري، رغم أنه مصطلح شامل غير معياري، فهو ينطوي على التحوّل نحو الاقتصاد التبادلي السلعي وعائلة النواة، وتثوير الحاجات المادية والمعنوية، والثورة العلمية والصناعية، ونشوء الدولة الوطنية، وتحوّلات في مفهوم الفرد والهوية. وقد نشأت دراسات التحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، بدعمٍ من الحكومة الأميركية لبحث قضايا العالم الثالث إثر استقلالها عن الاستعمار، وقد استُخدمَت قبل التحديث مصطلحات أخرى مثل "الأوربة" و"الأمركة" و"الغربنة" (ص 35-37).
وبمراجعته لأطروحات التحديث الأساسية – كما وردت لدى دانيال ليرنر وآدم شيفورسكي وتالكوت بارسونز وماريون جونيور وجيمس كولمان، وغيرهم – يُلخّص بشارة صفات التحديث في أنه عملية نسقية تحويلية كُليّة، الأمر الذي يدحضه على اعتبار أن عملية التحديث لا تأتي عناصرها بالضرورة معًا، فقد تبقى التقاليد أو تتشوّه وتتراكب مع عوامل حديثة. وبالعودة إلى الموضوع الأساس، أي العلاقة بين نظرية التحديث والانتقال الديمقراطي، يرى بشارة أن عملية التحديث خلَقت تمايزًا بين النخب السياسية المتغيرة وبيروقراطية الدولة الثابتة، وهذا التمايز يسبقُ نشوء النظام الديمقراطي بل ويُعتبر شرطًا له، وهو ما تعارضه السلطويات بمماهاتها بين النظام والدولة، مُتهمةً من يعارضها بالوقوف ضدّ الدولة. لكن بالمقابل، تُنتجُ عملية التحديث الحداثة ونقيضها – أو ما سمّاه بشارة سابقًا بالحداثة المشوّهة في المسألة العربية – حيث تُعاني السياسة الحديثة من اللاعقلانية والأسطورة، التي بتفاعلها مع المجتمع تُنتجُ جماعات هوية وعصبيات بديلة وتَذرُر الأفراد وبطريركية جديدة وأيديولوجيات شمولية دنيوية وثقافة استهلاكية. كما أنّ التحديث الذي يُفرض من أعلى أو يُستورد نتيجة التفاعل مع دول متطوّرة، قد يخلق كيانات اجتماعية هجينة بتحديثه لقطاعاتٍ وترك أخرى (ص 37-47).
دخلت مقاربة التحديث علم السياسة المقارن والنظريات السلوكية السياسية، ليكون همّها الأساسي البحث عن الشروط الضرورية لتفعيل المؤسسات الديمقراطية ضمانًا للاستقرار، وذلك لقصور المنهج المؤسسي – المُشتق من حقبة الثورات الإنجليزية والفرنسية والأميركية – على تفسير صعود ظواهر كالشيوعية والنازية. وقد حاولَ سيمور مارتن ليبسيت (1959) مُبكرًا ربط نظرية التحديث بدراسات الديمقراطية، الذي يأخذُ عليه بشارة خلطهِ بين نشوء الديمقراطية وإعادة إنتاجها. ويَعتبر بشارة دراسة ليبسيت المنشأ النظري لدراسات الانتقال، لا دراسة روستو (1970). ويُلاحظ بشارة نزعة الاهتمام بالنمو الاقتصادي والثروة لدى الباحثين التحديثيين، واعتقادهم بدور الثورة والأمن الاقتصادي والتعليم في توسيع الطبقات الوسطى وتخفيف حدّة الصراع الطبقي، إلّا أنه يرى أن التعليم قد يبلور ولاءات مستقطبة طائفيًا أو إثنيًا، وقد يكون المتعلمون هم الأكثر عرضةً لسياسات الهوية في الدولة المُتشظية إثنيًا أو طائفيًا (ص 47-58).

"بمراجعته لأطروحات التحديث الأساسية – كما وردت لدى دانيال ليرنر وآدم شيفورسكي وتالكوت بارسونز وماريون جونيور وجيمس كولمان، وغيرهم – يُلخّص بشارة صفات التحديث في أنه عملية نسقية تحويلية كُليّة"

ينتقدُ بشارة المقارنات الكمية التي تُربطُ إيجابيًا بين الديمقراطية ونسبة التعليم ودخل الفرد والحريات المدنية والحقوق السياسية، فقد ارتفعت نسبة التعليم في دول غير ديمقراطية، كما نشأت دكتاتوريات تحديثية تنموية في العديد من الدول في القرن العشرين، ولا يعني ذلك أن الاستبداد لا يُمكن أن يصبح معيقًا للتنمية. كما أن هذه المقارنات تُجانب الصواب، فعندما انطلقت الديمقراطيات الحديثة في أوروبا، اقتصرت المشاركة السياسية الانتخابية فيها على الطبقات المالكة مُستثنيةً النساء والأجراء، رغم أن معدل دخل الفرد ومستوى تعليمه للفئات المشاركة، كان أعلى مقارنةً بالسكان عمومًا، وعليه لا تَخضعُ تلك المرحلة لمقاييس دخل الفرد ومستوى التعليم، لأنها تتعلقُ بالسكان عمومًا. ولا يُمكن المقارنة بين نشأة الديمقراطية الليبرالية، وإنشائها مرّة واحدة في دول العالم الثالث. ويجدُ بشارة من خلال البيانات الكمّية أن معدل الدخل يؤشّر على رسوخ الديمقراطية، وأن نظرية التحديث تُفسر حالة الديمقراطية في الدول المتطورة اقتصاديًا وتعليميًا. ويشيرُ إلى أن "النمو الاقتصادي أكثر إدامة للنظام الديمقراطي منه للنظام السلطوي، لأن النمو في حالة النظام السلطوي قد يسهم في إنتاج نقائض النظام" (ص 63-77).
ويُحاج بشارة بأنّ الشروط الضرورية للديمقراطية (التي تُركّز عليها المقاربة التحديثية)، وإرادة الفاعلين السياسيين (التي تكتفي بها دراسات الانتقال)، لا يُمكن لإحداهما أن تكون كافية وضرورية على حدة، لبناء الديمقراطية وترسيخها، ويأتي في هذا السياق تبنّي المقاربة التحديثية عربيًا، التي تُشير إلى أن المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية المُسبقة لم تتحقق في العالم العربي بعد، ما يؤدي إلى تثبيط الفعل السياسي للمعارضة وتقليل أهميته بالنسبة للنظام (ص 84).

سؤال الشرعية والانتقال التدريجي إلى الديمقراطية

من نافل القول إنه لا يُمكن لنظامٍ سياسي الاستمرار دون الشرعية، وإن استخدام العنف لا يعوّضها ولو مؤقتًا. وفي حالة الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية (بفعل ثورة خصوصًا)، يرى بشارة أن الشرعية العقلانية – القانونية لا تكفي وحدها لتلبية حاجات/ توقعات الناس، بل يجب أن ترافقها رمزيات وطنية (شرعية كاريزمية) (ص 85-86). وصحيحٌ أنّ الديمقراطيات التاريخية – في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة – تطوّرت بالتدريج، إلا أن ذلك لا يعني سلمية التدريج بالضرورة ولا أنموذجيته. كما لا يُفسّر التّدرج الشرعية الديمقراطية في هذه الدول، فهناك حاجة للنظرِ في العمق التاريخي لتشكّل النظام الديمقراطي المتزامن مع نشوء القومية الحديثة (ص 90-92).
مثلما تحالفت الطبقات الوسطى والبرجوازية مع النازيين خشية انتصار الشيوعيين مما أدى إلى وصول النازيين إلى الحكم، تُبدي عديد الطبقات الوسطى والأقليات الدينية وبعض العلمانيين في العالم العربي، استعدادًا للوقوف بصفِّ الاستبداد منعًا لحكم الإسلاميين أو مشاركتهم حتّى، وبرّرت أصوات ذلك بخشية الناس من استغلال الإسلاميين للعبة الديمقراطية بغية الوصول إلى الحكم ومن ثمّ تُعطِّلها، الأمر الذي ينفيه بشارة، كون تفضيل الاستبداد على حكم الإسلاميين يحملُ ضمنًا عدم الاكتراث بالانتخابات، فالنظام الاستبدادي لا يجري أي انتخابات! وبدلًا من ذلك، يُعزو بشارة السبب إلى خشية الناس من تدخّل الحكم الإسلامي في مجالاتهم الخاصّة وفرض نمط حياة شمولي، وهي إشكالية ثقافية أكثر مما هي سياسية مع الإسلاميين (ص 94-96). وبناءً على ذلك، تظهرُ أهمية مفهوم الشرعية للانتقال إلى الديمقراطية ولضمان استقرار الأنظمة السياسية، ولا يغني عنه مفهوم الهيمنة (ص 101-103).
إن انتقال دول سلطوية مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا في منتصف السبعينيات إلى الديمقراطية، دون مرورها بمرحلة "شبه الديمقراطية"، تُدلّل على إحدى فرضيات الكتاب بأنه لا ينطبق الشيء ذاته على نشوء الديمقراطيات الأولى ونشوء الديمقراطيات المعاصرة (ص 107)، وفي ذلك أن ما كان ممكنًا من حصر المشاركة السياسية بمجموعة صغيرة مُستمرةً في التوسّع في الديمقراطيات الأولى، لم يكن كذلك في الديمقراطيات المُعاصرة، وعليه يجب ترتيب الأولويات بحيث يسبق سؤال "من يحكم؟" سؤال "كيف تُحكم البلاد؟" (ص 111).

"يتوّج بشارة مشروعه الفكري حول الديمقراطية – الممتد لأكثر من 26 عامًا –
  بكتابه الصادر حديثًا "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (2020)، 
الذي يُخصّصه لدراسة الانتقال الديمقراطي – لا نظرية الديمقراطية – مُنطلقًا من الحفر الجينولوجي"

يدحضُ بشارة شرط دال (واحد من شروط سبعة) حول التجانس الثقافي كحالة أنموذجية للانتقال الديمقراطي، ويرى أنّ لا التجانس الثقافي ولا التعددية الثقافية يشكلان شرطًا للديمقراطية، حيث هناك دول ديمقراطية غير متجانسة (سويسرا وبلجيكا وكندا والهند مثلًا)، ودول متجانسة غير ديمقراطية (اليمن وألمانيا وبولندا ومصر مثلًا)، ويُطوّر بشارة حجّة برنارد لويس لتصبح أدق، فحالتا تونس ومصر تُخالفا ادّعاء لويس بأن الماضي الاستعماري البريطاني ينطوي على علاقة إيجابية بالديمقراطية، على خلاف الاستعمار الفرنسي، فتونس التي نجحت في انتقالها نوعًا ما كانت مستعمرة فرنسية، أمّا مصر التي فشلت فكانت تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية، وعليهِ تنطبقُ حجّة لويس على الحالات التي نشأت فيها الديمقراطية أو انتقلت إليها، تدريجيًا أو بعد الاستقلال مباشرةً لا بعد عقودٍ منه. ويستنتجُ بشارة بناءً على صعوبة وضع قاعدة للتنبؤ في العلوم الاجتماعية، أنه لا يُمكن ادّعاء وجود استثناء عربي في الانتقال الديمقراطي، لعدم وجود قاعدة من الأساس (ص 118-125).

الرأسمالية وروح الديمقراطية
تاريخيًا، برزت مطالب الحريات والمشاركة السياسية في الدول الأوروبية بعد صعود البرجوازية وخوضها صراعات مع الطبقات صاحبة الامتياز، وبترويجها للحريات والمساواة أفسحت الطريق لفئات شعبية أخرى لتلحقُ خطوها، لتصطدم بالبرجوازية نفسها. وبعد تضرّر البرجوازية في مرحلة التأميمات، تصاعدت مرّة أخرى في مراحل اللبرلة لكن دون دور ديمقراطي، وحتّى في السلطويات المعاصرة، نجدُ مساندة البرجوازية لها ومعاداتها للديمقراطية ما دامت مستفيدة من النظام (ص 129-130).
وفي العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية، يتّفقُ بشارة مع نقد بارينغتون مور للتلازم بينهما، فالعبودية لم تتعارضُ مع الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، بل ساهمت في نموّها، وكذلك الحال في عصرنا هذا، وعليه يُصبح الأدق القول "إنه توجد دول رأسمالية غير ديمقراطية، لكن لا توجد أمثلة عينية لدول ديمقراطية ليبرالية لا تعتمدُ اقتصاد السوق. ومن الممكن أن تُلَبرل الأنظمة السلطوية اقتصادها من دون ليبرالية سياسية أو ديمقراطية"، غير أنّ الانتقال إلى الديمقراطية يكون أيسَر على الدول النامية المُنفتحة على اقتصاد السوق (ص 132-133). وفي الفصلِ بين سجال نظرية التحديث مع دراسات الانتقال بخصوص الشروط الاجتماعية أو الاقتصادية للديمقراطية، يعتقدُ بشارة أنّ السؤال الحاسم يجب أن يتمحور حول نمط التحديث ودور الدولة فيه لا التحديث بحد ذاته، وكيفية نشوء الرأسمالية وطبيعة نشاطاتها لا الرأسمالية. فمثلًا لا تنطوي الرأسمالية على أفكار ديمقراطية، في البلدان التي قادت فيها السلطوية عملية لَبرلَة الاقتصاد المُنتجة للرأسمالية، كحالة "رأسمالية محاسيب" قريبة من النظام، في سورية ومصر وتونس (ص 133-135)؛ "إن ترسيخ الديمقراطية تطلّب انتقالًا إلى اقتصاد السوق، وليس العكس" (ص 136).
بمراجعته لمشروع مور "الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية"، وتناوله لتنظيرات ماركس والنماذج الفرنسية والبريطانية والعثمانية وغيرها في الوصول إلى العالم الحديث (التحديث)، يجدُ بشارة أنّ "بداية الديمقراطية البريطانية كانت ليبرالية، ومرّت لاحقًا بعملية دمقرطة تدريجية، في حين أن بداية الجمهورية الفرنسية كانت ديمقراطية، وتبعتها لاحقًا عملية لبرلة تدريجية" (ص 155). وبمساءلة القدرة التفسيرية لنظرية "تبعية المسار"، يرى بشارة أنه رغم إمكانيتها تفسير طبيعة النظام، إلا أنها لا تقدر على تفسير الانتقال الديمقراطي أو غيابه من خلال نموذج جاهز للديمقراطية، دون مُعالجة إرادة الفاعلين السياسيين، كون الانتقال يزيد من تأثيرهم بطبعه (ص 161).

في نقد مقاربات التحديث
في حين تُصرُّ نظرية التحديث على توافر شروط بنيوية للديمقراطية (ص 181)، يرى بشارة أنّ التحديث "يؤدي إلى التفكك الاجتماعي ونشوء قطاعات مهمّشة معرّضة للإفقار الشديد، ونشوء قطاعات اقتصادية خارج القانون، وقطاعات اجتماعية خارج النظام الرأسمالي" (ص 186)، كما يُنتج التحديث المتأخر ثقافات متضادة؛ قطاعات نخبوية في مدن مُسيّجة مقابل فئات اجتماعية هشّة ومهمّشة، و"يقوّض البنى التقليدية إلى عصبيات جديدة يعتقد الناس أنها تقليدية أو من إرث الماضي"، ويؤدي إلى تحوّل الجماعات الطائفية والقبلية والجهوية المُنكفئة على نفسها إلى أطرٍ للتعبئة السياسية (ص 187-188).
انتقدَ منظرو مدرسة التبعية نظرية التحديث على أنها تُفضي إلى التخلف، حيث أنّ العلاقة بين

"يرى بشارة أن الشرعية العقلانية – القانونية لا تكفي وحدها لتلبية حاجات/ توقعات الناس، بل يجب أن ترافقها رمزيات وطنية (شرعية كاريزمية)"

الدول الغربية الصناعية والدول النامية تُنتجُ مركزًا متطوّرًا وهامشًا متخلفًا (ص 191). ويُشير بشارة أنّ بعض أهم مُنظري التّبعية من أمثال أودونيل، انتقلوا من نقد التحديث (ومن خلاله) إلى الانتقال الديمقراطي، عن طريق ربط صعود الديكتاتوريات بالتحديث (ص 193)، وبرفضهم لحتمية التبعية وطرح أجندة ديمقراطية وإحالة الخيارات الاستراتيجية إلى النخب السياسية. ويُشخّص بشارة إشكالية الاستنتاجات السياسية لمدرسة التبعية، في أنّ فكّ الارتباط عن التجارة الخارجية وتحييد العولمة بوصفها عدوًا لا مرحلة، يُمثلا حلًا رجعيًا يقود إلى الديكتاتورية لا الديمقراطية، مثلما حدث في كوريا الشمالية وكمبوديا (ص 198-199).
ختامًا، يقترحُ بشارة ثلاثة شروط لتحقيق الديمقراطية: تبنّي الديمقراطية كخيار من قبل الفاعلين السياسيين الرئيسيين، عدم وقوف الجيش ضدّ الانتقال الديمقراطي، وتوفير شروط تُحقّق الانتقال وتُرسّخه والتي يوضِّحها القسمان التاليان للكتاب (ص 204).