تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

أن تقرأ كتاب الطائفية لعزمي بشارة من العراق

2019-05-13

علي فائز

كاتب من العراق

لا شك أن من أكبر الأزمات التي تواجهها المنطقة العربية هي أزمة الهوية والانتماء، فحينما تضعف الدولة وتفشل في بلورة هوية وطنية جامعة لكل الطوائف والقوميات مفضّلة تضخم السلطة على حساب الدولة، فإن ذلك يؤدي إلى إنتاج هويات فرعية مغتربة عن الهوية الوطنية، تتصارع فيما بينها وتنادي بتطبيق شعاراتها وطقوسها إلى أن يحتدم الصراع والاقتتال ولا ينتهي عند حدّ معين، خصوصًا إذا عرفنا أن مخرجات هذا الصراع تكون لصالح النخبة السياسية الطائفية التي ساهمت بتأجيجه للحصول على مكاسب ومغانم مضمونة بعد أن نجحت في إنتاج هويات طائفية وقومية وعشائرية، وهمشت الهوية الوطنية من منطق أمراء الطوائف وليس قادة دولة.

في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المخيلة" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يتناول عزمي بشارة في قسمه الثاني الفصل الخامس عشر، نموذج العراق بتوسع، ويعيد قراءة السردية التاريخية من وجهة نظر موضوعية، أشبه بالطبيب الجراح الذي يتعامل مع جثة، على خلاف بعض المفكرين الذين قرأوا التاريخ من وجهة نظر طائفية خالصة يحكمهم منطق الـ"مع والضد" فساهموا بتعميق أزمة الهوية في العالم العربي، وأسقطوا الحاضر على الماضي واستخدموا نظريات لم تعد ذات نفع من قبيل إعادة نظرية "العصبية الخلدونية" التي تفسّر علاقة الطائفة بالدولة، متجاهلين أن الدولة في العصر الحديث باتت هي من تنشئ العصبية وليس العكس.

 يرفض بشارة في هذا الكتاب الفكرة القائلة إن الطائفية ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية بعد أن أثبتت الطرق التي تم فيها تحويل الطائفية الاجتماعية إلى طائفة سياسية، حيث يرى أن "الطائفية ليست من إنتاج الطائفة بل العكس، فالطائفية تستدعي الطائفة من وعي الناس وتعيد إنتاجها ككيان متخيل، مستندًا إلى إطار نظري يشتبك في ذات الوقت مع نظريات اجتماعية وتحليل للتاريخ الاجتماعي".

يأخذ عزمي بشارة نموذجًا عينيًا في العراق بإطار محاولة الانتقال من النظرية إلى حالة عينية، لا يمكن بأي حال تجاهلها، كونها تجسّد النموذج الأكثر راهنية، والأهم في صعود الطائفتين السنية والشيعية، ولا سيما الثانية بوصفها ظاهرة جديدة في العراق. ويحاول بشارة في هذا الفصل معالجة قضية مهمة وذات علاقة بالاستعمار وغيره، وهي ظاهرة الطائفية السياسية والتي يدرسها من منطلق نقدي متجاوزًا حصر البدائل المتوفرة لبلدان المشرق العربي في خياريين: إما الاستبداد بأنواعه، وإما الطائفية السياسية بمختلف أنواعها. ولذلك هو يطرح مجموعة من المؤشرات التي يجب دراستها لفهم الطائفية عربيًا والتي هي:

الظروف التاريخية لنشوء الدولة.

التنظيم الاجتماعي والسياسي الموروث والمستحدث للجماعات نفسها.

تفاعل نشوء الدولة في هذه الظروف التاريخية مع البيئة التقليدية للمجتمع وانقساماته العمودية.

عملية بناء الأمة ونجاح الاندماج أو فشله ومدى تقاطع الفروق الاجتماعية الطبقية والتنموية والجهوية و"الاستزبانية" في مرحلة ما بعد الاستعمار مع الفروق الطائفية.

الصراعات السياسية ودور النخب في استثمار الطائفية وإعادة إنتاج الطوائف من حيث هي جماعات متخيّلة.

وبالنسبة للمؤشر الأول يرى بشارة أن غالبية النخبة العراقية عشية الاستقلال كانت من السنة، وذلك ليس بسبب المذهب ذاته، بل بحكم عامل تاريخي موضوعي متمثل بتركز التعليم منذ مرحلة التنظيمات في المدن الكبيرة واهتمام "مدحت باشا" الذي تولى حكم العراق في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر بالتعليم والتحديث. وهي ذات غالبية سنية، وقد اعتمد بناء أجهزة الدولة على خريجي المؤسسات التعليمية والمدارس العسكرية ولم يستفد الشيعة من الإصلاحات العثمانية في عصر التنظيمات بالقدر ذاته، وذلك بسبب وضعهم الهامشي، ولأجل ذلك حاول فيما بعد الملك فيصل ردم هذه الهوة التي كانت قائمة في العهد العثماني بين السلطة السياسية والشيعة وذلك بأشراك سياسيين شيعة في الحكم".

وفي هذا السياق يرفض صاحب "أن تكون عربيًا في أيامنا" رأي الكاتب العراقي "حسن العلوي" الذي يذهب إلى أن واقع التجزئة الاجتماعية والثقافية لم يتغيّر جوهريًا لا في أثناء الحكم الملكي ولا بعد ثورة 1958، حيث عدّ العلوي الحكميين الملكي والجمهوري من الأنظمة الطائفية. إذ يقول بشارة: "نحن لا نتفق معه في هذا الاستنتاج العيني ولا في تأييده النظري للطائفية فقد شهد الواقع العراقي تغيرات بنيوية كبيرة خلال عملية التحضر والتمدين وبناء أجهزة الدولة، متهمًا العلوي بأنه "لا يستند إلى حقائق اجتماعية ولا إلى منهج تاريخي ويرى خصوصية كل مرحلة فهو في نهاية المطاف مفكر أيديولوجي".

ويعزّز رفضه من أن "النخبة الثقافية الشيعية حتى الثلاثينيات تألفت غالبيتها من رجال الدين، وكان غالبيتهم من إيران، وهذا يعني أن جزءًا أساسيًا من النخبة الشيعية المتعلمة لم يكن عربيًا، بالإضافة إلى وجود مرجعية دينية تقليدية تتضمن عددًا كبيرًا من ذوي الأصول الإيرانية، وذلك في مرحلة النهوض القومي الذي جرى فيه التشديد على الانتماء العربي.

فيما يشير بشارة إلى أن قانون الانتخابات العراقي الذي أقر عام 1922 اعتمد على التمثيل بحسب عدد السكان وبواقع ممثل عن كل 30 ألف ناخب من الذكور، بحيث لا تستطيع الدولة أن تزيد حصة ممثلي محافظة يطغى عليها السنة مثلًا على حساب محافظة يطغى عليها الشيعة، ولم تطبق الدولة نظامًا تميزيًا يزيد من تمثيل طائفة على أخرى. حيث أن الأسباب الموضوعية لهذا التفاوت في الحكم بين السنة والشيعة ترجع إلى عدة عوامل كما مر ذكرها سابقًا، بالإضافة إلى عوامل أخرى تطرّق لها صاحب كتاب "المجتمع المدني"، ومنها "حظر المجتهدون الشيعة قبول المناصب الحكومية"، حيث ظل هذا الحظر ساريًا حتى عام 1927 ولأجل ذلك جرى صراع بين قوى التحديثية في المجتمع الشيعي والقوى التقليدية حول قبول المناصب الحكومية، بالإضافة إلى أن عدد الشيعة الذين تلقوا تعليمًا حديثًا كان قليلًا، وغالبيتهم من خريجي المدرسة الجعفرية التي تأسست في عام 1909 في بغداد بسبب تحريم الفقهاء آنذاك الدراسة الأكاديمية.

وبالعودة إلى نقاش رأي الكاتب والسياسي حسن العلوي حيث يقتبس الأخير موقف ساطع الحصري الذي رفض إقامة دار معلمين في الحلة وعدها دليلًا على عدم رغبته بتطوير الشيعة. يستدرك بشارة هنا "لكن الحصري رفض أيضًا إقامة دار معلمين في الموصل لأنه لم يرد أن تقتصر دور المعلمين من مذهب بعينه، ويستشهد برأي ساطع الحصري "كان لا بدّ لدار المعلمين أن تجمع الطلاب من مختلف أنحاء البلاد، ومن مختلف الطوائف لكي ينشؤوا سويةً بنزعة وطنية، تنمو فوق الاعتبارات الطائفية".

وهكذا يناقش بشارة من وصفهم المؤرخون الذين أحيوا تاريخيًا طائفيًا للشيعة والذين لا يفردون أي دور لبقية قطاعات الشعب العراقي في ثورة العشرين لتصبح الوطنية العراقية أنجازًا طائفيًا شيعيًا. كما يلاحظ التناقض الفج بعدما تشدّدوا على عروبة الشيعة في مواجهة تعجيمهم عندما كان الهدف إقناع الولايات المتحدة بإسقاط نظام البعث من دون أن تخشى سيطرة إيرانية، أما بعد إسقاط النظام واحتلال العراق فبدأت عملية تهميش الهوية العربية عند المؤرخين ولا تكاد تلاحظ محاولات لتأكيد عروبة الشيعة، مؤكدًا أنهم مهما حاولوا أن يكتبوا في أيامنا تاريخًا طائفيًا للعراق فأنهم سيمنون بالفشل فخلال فترة الحكم الملكي لم تحصل مشاحنات طائفية شيعية – سنية على مستوى العراق مثلما يحصل وقتنا الحاضر.

وبعد ذلك ينتقل صاحب كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" إلى ثورة 1958 والعهد الجمهوري، في الفترة 1958 – 1991 وهنا يفرّق بين الطائفية المحلية والتي تنشئ على مستوى القرية أو الحي وبين الطائفية السياسية التي تشكل هوية الدولة، إذ يؤكد بشارة أن بعض المؤرخين يحاولون إسقاط الحاضر على الماضي ويستدعون الطائفية المحلية على أنها هوية على مستوى الدولة منذ العهد الملكي كنوع من التبرير لما يحصل في الوقت الحاضر والتي يسميها بشارة "الطائفية المتخيلة".

وفي الحديث عن الفترة التاريخية 1958 – 1991 أي مرحلة النظام الجمهوري يؤكد بشارة أن هذا النظام لم يكن طائفيًا، إذ شغل رئاسة الوزراء شيعي واحد لمدة تسعة شهور خلال أكثر من ثلاثين عامًا، وهو ناجي طالب وما بعد حرب الكويت تولى اثنان من قيادات حزب البعث من ذوي الأصول الشيعية رئاسة الوزراء وهما سعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي، فرؤساء الوزراء في العهد الجمهوري لم يكونوا منتخبين بل معينين". وفي هذا السياق لا يعتبر عزمي بشارة أن صدام حسين كان سياسيًا سنيًا طائفيًا كما شاع بعد 2003، كما لا يمكن أن يعد عبد الكريم قاسم ممثلًا للسنة بأي معنى، حيث "عد حكمه منحازًا إلى الشيعة بالأصل"، فالرجلان الأشد تأثيرًا في تاريخ العراق كانا علمانيين".

أما حول صعود الهوية الشيعية وصياغتها، فيرى بشارة أنها لم تحدث صدامًا طائفيًا مع السنة، بل في صراع على تمثيل الشيعة والحفاظ على الهوية الشيعية والصدام مع الشيوعية والعلمانية والألحاد من خلال إحياء الإسلام وكان من أبرز تجليات هذا الصدام هو تأسيس حزب الدعوة الإسلامية عام 1957.

فيما يفسر بشارة ولاء غالبية الشيعة في العراق لعبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، في الوقت الذي كان الولاء للمرجعية منحصرًا في أقلية، فيقول "لقد كسب قاسم تأييد هذه الأحياء بفضل إجراءاته على صعيد الإصلاح الزراعي وتحسين ظروف مهاجري الريف في بغداد، وأن تحليل القاعدة الشعبية لنظام قاسم ديموغرافيًا و"اكتشاف" أن أغلبها شيعية المذهب لا يعني على الإطلاق أن الانتماء المذهبي هو الذي حدد ولاءها".

الحرب العراقية الإيرانية وأثرها الطائفي

لا تزال مآلات الحرب العراقية الإيرانية وآثارها حاضرة إلى اليوم في المجتمع العراقي، وبهذا الخصوص يرى بشارة أن "الحرب العراقية الإيرانية ساهمت في تأكيد الطابع السني للدولة، من دون أن تقصد السلطة البعثية، فضلًا عن التشكيك في ولاء أي معارض على أنه عميل للعدو أو لإيران. كما أن لغة التعبئة والتجييش الحزبي اتجهت عمومًا ضد العدو "الفارسي المجوسي"، وغير ذلك من التعبيرات التي ترى العراق ممثلًا للعرب.

ولم تستخدم تعابير الصفوية أو تعابير أخرى تشي بأن العراق يمثل السنة بل استخدم تعبير "عرب ومجوس"، ويؤكد بشارة هذه الحقيقة من خلال أن "الجيش العراقي الذي حارب إيران كان مؤلفًا من سنة وشيعة وكان الشيعة أكثرية بين الجنود، ولم تتجاوز نسبتهم بين الضباط 20 في المئة، فقد تخرج في ظل حكم صدام حسين تحديدًا آلاف الشيعة في الأكاديمية العسكرية وأصبحوا ضباطًا، وكان للضباط الكبار امتيازات يريدون الحفاظ عليها. ومنع المعارضون من الوصول إلى مناصب في الجيش بغض النظر عن كونهم سنة أو شيعة".

وايضًا ما يؤكد هذه الحقيقة هو فشل نداءات الخميني الموجهة للشيعة العراقيين للثورة على النظام، الأمر الذي يفسر أن الرابط القومي والوطني يشدهم وهو يثبت أن هذه الأواصر أقوى من الرابطة المذهبية الدينية، بالإضافة إلى عوامل أخرى ساهمت بفشل هذه النداءات من بينها فكرة ولاية الفقيه التي عارضها رجال الدين الشيعة داخل العراق.

الطائفية السياسية بعد الاحتلال الأمريكي

أما عن الطائفية السياسية، الظاهرة الحديثة التي تبلور ظهورها بعد الاحتلال الأمريكي فقد ساهمت عدة جهات فيها، منها تعامل المسؤولين الأمريكيين مع العراق على أنه مؤلف من طوائف دينية سياسية، وانطلاقًا من فرضية "رثّة" مفادها أن السنة يحكمون الشيعة، بالإضافة إلى المؤرخين الذين ما انفكوا يسقطون حوادث الحاضر على الماضي الذي يكتبون عنه وعينوهم مفتوحة على ظروف سياسية راهنة وسجلات محتدمة. فضلًا عن استخدام الزعامات الجديدة التي تشكل النخبة الطائفية كوحدة سياسية تطالب باسمها بالمحاصصة في العراق بعد تفكيك الاستبداد وبعد تشكيل معارضة ذات طابع طائفي في المهجر ولا سيما بعد سنوات الحصار، وبحسب بشارة فإن هذه المعارضة "ساهمت في تعميم مغالطة الحكم الطائفي السني دوليًا، ولا سيما في الولايات المتحدة". ولا زالت هذه الطائفية السياسية تشق طريقها نحو السيطرة على مقدرات الدولة والحفاظ على حكمها على جثث الآلاف من الأبرياء!

يرى بشارة أن الاحتلال الأمريكي لم يتول مهمة نشر القيم الديمقراطية بل قام بهدم بنيان الدولة وتوزيع مواطنيها في طوائف سياسية، وكل هذا تحت شعار "بناء الأمة ونشر الديمقراطية".

لكن صاحب كتاب "مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" يرى أن "المجاهرة بالطائفية لم تجرِ إلا مؤخرًا وفي مرحلة حكم نوري المالكي تحديدًا، على نحوٍ دقيق خلال الأجواء التي سادت في الإقليم بعد الثورة السورية وصعود حركات مثل "داعش" وعصائب أهل الحق وميليشيات شيعية أخرى". ولا يمكن نكران حقيقة مفادها أن العراقيين سابقًا لم يعرفوا ولم يسمعوا كثيرًا عن سنة وشيعة قبل أن تعمم السياسية هذه المصطلحات للدلالة على وجود جماعات قائمة متخيلة عابرة المحلية، والتي يعرفها بشارة بـ"الطائفية الأهلية"، والتي أدّت الى "إنتاج الطوائف من جديد في العراق فأصبح عموم الناس قادرين على تخيل أنفسهم جزءًا من طائفة في خصومة "ويتمنون أن تعود تآخيًا متخيلًا أيضًا مع طائفة أخرى".

وبعد 2003 حين وقع العراق تحت الاحتلال انتظمت فورًا أحزاب وقوى سياسية على أساس طائفي وكان بعضها منتظمًا في الخارج وحين صيغ دستور ديمقراطي في ظل احتلال أجنبي لم يكن ممكنًا إلا أن تفرغه عن المضمون القوى السياسية الطائفية التي ما لبثت إن استدعت الطوائف بالدعاية السياسية والإعلام ونشر الفهم الطائفي لتاريخ البلاد، وفي برامج التدريس وكذلك عبر التنكيل بالطوائف الأخرى، على أساس الهوية والمذابح المتبادلة وتشكيل الميليشيات، وأصبحت الطائفية السياسية تنتج انقسام المجتمع العربي العراقي إلى طائفتين كبيرتين متخيلتين: الشيعة والسنة.

ويعلل بشارة ذلك من أن هذه الأحزاب والقوى لم تمتلك برنامجًا ولا مشروعًا وطنيًا تقنع فيه الجماهير فالتجأت إلى الخطاب الطائفي ويؤكد في ذات الوقت أن هذه كانت "البداية الطائفية السياسية المقننة، والتعامل مع النخب العراقية بصفتهم ممثلين لطوائف ومع العراقيين بصفتهم طوائف فحسب، كان هذا موقفًا استعماريًا، لكنه أيضًا متأثر بثقافة نخب المعارضة التي تعاملت مع الاحتلال وساهمت في حمله إلى مقاربة نظام البعث في العراق كأنه نظام سني يضطهد الشيعة!

وتطرق بشارة إلى آثار الطائفية السياسية وما آلت إليه من نتائج من قبيل تفجير المراقد الدينية واضطهاد وتهجير الأقليات والمذابح وانتشار السيارات المفخخة والقتل على الهوية والتغيير الديموغرافي بطرد عراقيين سنة في مناطق متعددة، تلك الأحداث استمرت ردحًا طويلًا من الزمن، فيما يرفض الرأي القائل بأن صدام المالكي مع تيار الصدر ومحاولته الظهور بمظهر الرجل القوي هما دليلان على أنه تجاوز الطائفية. إذ يرى بشارة العكس تمامًا، حيث  يقول إنه "حاول احتكار تمثيل الطائفة الشيعية وفرض النظام الطائفي الأكثري على العراق بالقوة راضيًا بوجود سياسيين سنة على أن يسلموا بهذا النظام".

وفي ذات السياق يرفض بشارة أيضًا التحليل القائل إن التنافس داخل كل طائفة يضعف الطائفية حيث يرى بشارة العكس "فقد يقويها إذا تحولت الطائفة إلى إطار مسلّم به يجري التنافس في ظله، بدلًا من أن يكون التنافس داخل الدولة أو القومية أو  الأمة".

دور رجال الدين في تعزيز الطائفية

عرج صاحب "الجيش والسياسة: إشكالات فكرية ونماذج عربية" على دور مراجع الدين في شرعنة الطائفية سواء كانوا على علم بذلك أو لا، فيذكر مثلًا فتوى التحشيد الصادرة من المرجع السيستاني والتي باركها بقية مراجع الدين في داخل العراق وخارجه، إذ يقول بشارة: "أفتت المرجعية الدينية الشيعية العليا في العراق في 13 حزيران/ يونيو 2014، في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي. وهكذا شرعنة ميليشيات الحشد الشعبي الطائفية دينيًا مذهبيًا، واستفادت الميليشيات من هذه الشرعنة. فهي في الحقيقة تابعة لإيران، إلا أنها حصلت على شرعية من مرجع ديني مستقل عن إيران. وأصبحت لاحقًا قادرة على فرض نفسها عليه، كما باتت منظمة بدر وعصائب أهل الحق تابعة لإيران عمليًا، في ولاء طائفي سياسي عابر لحدود الدولة الوطنية". وكل ذلك أدى إلى وقوع العراق بين نزعتين ليس الوفاق أحدهما، النزعة الانفصالية أو الطائفية الطاردة عن المركز، والنزعة الطائفية للسيطرة على المركز بالأكثرية ومن دون توافق.

لم تصدر في العراق دراسات مهمّة عن المسألة الطائفية، والتي تعتبر الأعقد والأهم، بسبب قلة الاهتمام بهذه المجالات سواء السياسية أو المتعلقة بالاجتماع السياسي، لهذا كان كتاب عزمي بشارة رحلة مهمّة في قراءته خاصة من العراق الذي لا يزال الاختيار فيه وفق العرف "المحاصصاتي" الخاضع إلى التوزيع المكوناتي. قراءة الكتاب من العراق مهمة جدًا للشباب العراقي الذي كسر ما أرادت فرضه "المحاصصة" وصار يتحدث بهوية الحقوق منها إلى الهوية الوطنية.