تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
17 أبريل, 2025

أبحاث شبكات التواصل الاجتماعي: قضايا وتحديات

النص الكامل لمحاضرة عزمي بشارة التي ألقاها بصيغة ملاحظات ختامية لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية (الدورة العاشرة) وموضوعه: "وسائل التواصل الاجتماعي: جدلية تدفق المعلومات وحرية التعبير والمراقبة والسيطرة"، الدوحة، 12–15 نيسان/ أبريل 2025. تتضمن هذه المحاضرة خطوطًا عريضة لدراسته التي سوف ينشرها بهذا العنوان لاحقًا في كتاب سيشمل أوراق المؤتمر.

 

أولًا: الواقع والواقع الافتراضي

غالبًا ما تستخدم مصطلحات الفضاء الافتراضي، والواقع الافتراضي، والمجال الافتراضي، للدلالة على مجال الاتصال والتواصل الرقمي الذي بات يثير اهتمام العلوم الاجتماعية والإنسانية. إن الإشكال في ترجمة مُفردة Virtual إلى العربية هو بُعد المعنى المطلوب عن دلالة كلمة "افتراضي" العربية. كانت الكلمة الإنكليزية، التي لا أعلم سببًا لاختيارها من أجل توصيف الفضاء الرقمي، تعني في الأصل "حقيقيًا" وحتى "جوهريًا"، لكنها أصبحت تعني في عالم التكنولوجيا الحاسوبية ما هو غير محسوس ماديًّا. إلا أن ما هو غير محسوس ماديًا لا يكون بالضرورة افتراضيًا.

 إن ما يدور على منصات التواصل الاجتماعي هو تواصل بين بشرٍ في العالم الحقيقي أو الواقعي (ترجمة لـ Real)، بأدوات طوّرتها مؤسسات، وهي في الحقيقة شركات خاصة، يملكها ويعمل فيها أفراد؛ واضعو سياسات وذوو مصالح اقتصادية وارتباطات سياسية وتوجهات أيديولوجية. وبالنسبة إلى مالكي هذه الشركات والعاملين فيها، لا تشكل هذه المنصات واقعًا افتراضيًا، ولا موازيًا. وما ينتجه مستخدموها بتواصلهم وتفاعلهم هو مجال التواصل الرقمي الذي يراه العديد من الناس ويسمعونه ويدركونه في الوقت ذاته.

يقال أحيانًا "واقع موازٍ"، على نحو يشي بأن مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي يعيشون واقعين؛ أحدهما "حقيقي" والآخر "موازٍ" له. إلا أن ممارسات البشر، بما فيها ممارساتهم على هذه المنصات، تجري في واقع اقتصادي سياسي ثقافي واحد معيش. ليس هذا موقفًا فلسفيًا بقدر ما هو منظور منهجي لمقاربة الموضوع. فإذا أردنا أن نفهم فعلًا ما يدور على منصات التواصل وتأثيره، فلا بد من التعامل مع ما يدور فيها بوصفها شركات لها مالكون وموظفون؛ أصحاب عمل وعاملون، وبوصفها منصات تواصل بأدوات ومستخدمين، انطلاقًا من كونها جزءًا من واقع الاقتصاد والسياسة والثقافة وأنماط الوعي السائدة، تتأثر بها وتؤثر فيها، لا من كونها واقعًا آخر إضافيًا، أو افتراضيًا أو موازيًا. إن شرط العلم هو تجاوز هالة الغموض والإبهام التي قد تكتنف موضوعاته ونزع "السحر" عنها. 

من نافلة القول إنّ ما يميّز منصات التواصل الاجتماعي من وسائل الإعلام الأخرى هو التقنيات العليا التي تتيح التواصل والتفاعل وفوريتهما الضاغطة لمُركَّبَي الزمان والمكان. يستخدمها حاليًا مليارات البشر، فيقومون بإنتاج غالبية النصوص والصور وأشرطة الفيديو المتداولة عليها ونشرها وترويجها، ويتفاعلون بمستويات مختلفة في جماعات صغيرة وكبيرة، ومن دون جماعات، حيث يوجَّه النشر عليها إلى متلق مجهول. لا يتحكم المشاركون على تلك المنصات في تكنولوجياتها وسياساتها، لكنّ القائمين عليها يستفيدون من نشاطهم؛ بهدف تطوير التكنولوجيا بناءً على ميولهم ونزعاتهم ونزواتهم لزيادة عدد المشاركين ودفعهم إلى قضاء وقت أطول أمام الشاشة. يسدون حاجات تولدت عند المستخدمين، فلا تلبث أن تنشأ حاجات جديدة، نفسية وجسدية، لم يعرف المستخدمون بوجودها لديهم. ويعدّ إنتاج الحاجات (الحاجة وعي النقص كما كان يقول هيغل 1770-1831) من أهم محركات التطور. لا يملك المستخدمون منصات التواصل، ولا يقررون سياساتها وكيفية استخدامها. إنها تشكل فضاءً عموميًا بأدوات تملكها شركات خاصة؛ أي فضاءً عموميًا بملكية خاصة. قد يصبح هذا تناقضها المركزي. وقد بدأت المجتمعات تكتشف تجليات هذا التناقض تدريجيًا من خلال التجربة.

في أثناء حرب الخليج الثانية، عبّر جان بودريار Jean Baudrillard (1929–2007) عن موقف مفاده أن وسائل الإعلام، ولا سيما التلفاز في تلك الفترة، لا تعكس الواقع أو تعبّر عنه بطريقتها، بل تشكّل هي ذاتها واقعًا جديدًا مفرطًا Hyperreality قائمًا بذاته. فهي ليست تمثيلات لما نعتبره الواقع الحقيقي True Reality. انطلق بودريار في فكرته هذه من أن الحداثة ولَّدت ما يسمى الواقع المفرط أو "الفرط-واقع" مع الانتقال إلى استخدام النماذج والخرائط وأدوات تمثيل الواقع الأخرى[1]، التي تقود إلى ابتعاد تدريجي عما يفترض أنها تمثله، باعتماد مستخدميها الاشتقاق والاستنباط من النماذج نفسها من دون العودة إلى ما تمثله. وتتعقد هذه الحالة أكثر فأكثر حين ننتقل من الخرائط والنماذج إلى الوسائل المسموعة والمرئية التي تنتج واقعًا جديدًا.

 لكن المنهج العلمي، وحتى العقل السليم عمومًا، يقودان إلى طرح سؤال الموضوعية والحقيقة: هل توجد مرجعية خارج هذا الواقع الجديد المفرط للحكم على ما يدور فيه؟ وما دام واقعًا قائمًا بذاته، فكيف نميّز بين الحقيقة والكذب في ما ينشر فيه؟ يسخِّف نموذج الواقع المفرط هذا مثل هذه الأسئلة وغيرها، ولذلك، فلم أقتنع يومًا بفائدة نموذج التفكير هذا في فهم ما يدور في عالمنا.

على كل حال، لم تنشأ منصات التواصل الاجتماعي أصلًا لتمثيل الواقع، ولم تنشأ أيضًا لتكون وسيلة إعلام حتى يصح بشأنها، أو لا يصح، اعتبارها واقعًا جديدًا، وفقًا لبودريار، أو تمثيلًا مركبًا للواقع.

تضيف وسائل التواصل الاجتماعي مجالًا جديدًا ضخمًا إلى الواقع الاجتماعي والسياسي، وتجري في هذا المجال عمليات تواصل وتفاعل مُعقّدة متكافئة وغير متكافئة بين المستخدمين، وأعمال الدعاية والإعلان واقتصاد البيانات، وتُشارَك فيه خبرات وتجارب وشؤون شخصية، ومضامين ترفيهية ودينية، وتمارس عليها حوارات عقلانية، وأنواع لا تحصى من الخداع، والخداع الذاتي، والغوغائية، والعنف اللفظي. وتتداول كذلك مضامين خبرية وتحليلية إعلامية. وتعد الأخيرة من إنتاج وسائل الإعلام التي باتت تسمى تقليدية، أو من المستخدمين المشاركين. ويفترض أنها في هذه الحالة تتقمص دور وسائل الإعلام، مع الفارق في سهولة تداولها وترويجها وتشويهها أيضًا بالحذف أو الإضافة، والتفاعل إعجابًا أو ذمًا، تصديقًا أو تكذيبًا.

 إن تمكين مستخدميها من التفاعل والمشاركة (بمعنى Sharing وبمعنى Participation) من خلال التعبير التواصلي هو مصدر قوة المنصات الذي يميّزها من وسائل الإعلام. لكن التكنولوجيا التي تملكها هذه الشركات، وثقافة البيئة التواصلية المتشكلة على منصات التواصل الاجتماعي تُصيِّر مستخدمها متلقيًا أكثر مما يظن، ومشاركًا أقل مما يظن.

ثانيًا: عن المراقبة والرقابة الذاتية

ثمة اصطناع للتناقض بين الحرية والمراقبة (Surveillance)، مع أنه لا تناقض بين دلالات المصطلحين. ومع أن هدف المراقبة هو السيطرة، فإن الفعل ذاته هو متابعة لأقوال المراقَب وأفعاله لجمع المعلومات عنه لأغراض مختلفة، وذلك باختراق خصوصيته، غالبًا من دون إذنه، من دون تقييد حرية التعبير أو الفعل (قبل نيل هذه الأغراض التي تقيد الحرية)، بل بالاستفادة منها. ويمكن أن يكون هدف المراقبة اكتشاف دلائل على معارضةٍ للسلطة أو حتى وجود قابلية للمعارضة؛ ما يقود إلى اتخاذ خطوات رقابية Censorship واحترازية وعقابية. هذا في حالة المراقبة السلطوية، لكن ثمة أشكال أخرى من المراقبة تمارسها مؤسسات على عامليها بـغرض الضبط، وعلى ما يسمى "جمهور الهدف" بـغرض الربح؛ والمقصود هو تحديدًا جمع البيانات للاستفادة منها في إنتاج البرامج وتطويرها، والتسويق أيضًا. 

حين تقتَحم الشركات خصوصية الأفراد لأغراض تجارية، فإنها لا تفعل ذلك بهدف جمع معلومات عن أفراد معينين ذوي هوية شخصية مميزة. فليست الجداول الإحصائية التي تُستخلَص، أو الخوارزمية التي تُبرمج، على أساس تنميط المعلومات التي جُمعت عنهم، معنية بالهوية الشخصية لكل منهم، ولا مكترثة بالشخص نفسه، بل بما أصبح يسمى "بروفايله" Profile؛ بمعنى السمات الرئيسة المستنتجة من بياناته وسلوكه على منصات التواصل الاجتماعي مثلًا، أو أي سمات أخرى تهمها. 

حماية الخصوصية مبدأ مُهمّ. لكن الشركات تقتحم الخاص في طريقها إلى العام إن صح التعبير؛ أي إلى ما يجمع الشخص بأشخاص آخرين بحيث يُصنَّفون ضمن الفئة نفسها. وعلى كل حال، أصبح واضحًا أن من يلج الإنترنت عمومًا، ومنصات التواصل خصوصًا، يعرّض نفسه للمراقبة بعلمه أو من دون علمه. ولذلك فمناقشة هذا الموضوع إضاعة للوقت إذا لم تشمل آثاره الاجتماعية والسياسية والنفسية ونتائجه المتمثلة في تقييد الحرية.

إن الدفاع عن الخصوصية ضد مراقبة المنصات صراع دائم حتى في ظل الديمقراطية؛ لأن إنجاز آليات للحفاظ عليها بعد كل جولة في هذا الصراع سوف يُشكّل جسرًا نحو تطوير آليات جديدة لاقتحامها. ومسار تطور صناعة/ تجارة تقنيات الأمن والحماية على شبكة الإنترنت يبرهن على ذلك.

ثمة مصلحة لمالكي شبكات التواصل الاجتماعي وغيرهم من أصحاب المشاريع الكبرى على شبكة الإنترنت في وجود أعلى درجة ممكنة من حرية التعبير بالصوت والصورة والكلام والأداء على منصاتهم؛ لأنها تفيد في اجتذاب أكبر عدد ممكن من الأفراد، وجذب انتباههم أطول مدة ممكنة، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتحقيق درجات تفاعل مرتفعة. ولكنهم يحددون حرية التعبير بسبب ضغط السلطات ومصالحهم المشتركة معها ومع أصحاب مصالح آخرين. وثمة مطالبات محقة (من جانب المجتمع و/ أو الدولة) بفرض قيود بهدف حماية الأطفال من مضامين العنف المتطرف والإباحية، وضد نشر التشهير والشائعات المغرضة والتحريض على العنف والعنصرية وغيرها. ولعل الطريق نحو تشكيل الهيئات العمومية التمثيلية وغير التمثيلية، التي تبتّ في هذه الأمور على المستويات العالمية والوطنية على نحو ملزم للمنصات بوصفها فضاءً عامًا، طويلة وشاقة، إلا أنه لا بد من شق هذه الطريق والسير فيها.

ومع التسليم بوجود مراقبة متواصلة هادفة إلى جمع المعلومات لأغراض لا علاقة مباشرة لها بالسيطرة، بل غير مباشرة من خلال التطوير التكنولوجي لأهداف تجارية، فإن عنصر السيطرة قائم في عملية التطوير التكنولوجي للمنصات نفسها، لأن من أهم أهدافه تصميم عادات المستخدِم لإبقائه أطول مدة ممكنة على المنصة قارئًا ومتفاعلًا ومتلقيًا. وتصميم عادات الفرد مسٌّ باستقلاليته الذاتية Autonomy. هذه العملية هي بحد ذاتها عملية تعلم وتدريب للذكاء الاصطناعي، وتطوير للخوارزميات بناءً على تنميط السلوك وترسيم للشخصيات، بحيث تُقدِّر نوع الاستجابة اللازمة من شبكات التواصل الاجتماعي، ومن المسوّقين أيضًا. 

وحتى الحكومات الديمقراطية ذاتها التي تضع قوانين تحدد اختراق الخصوصية، وتقيّد حرية تصرف الشركات بالبيانات، لا تقاوم إغراء تكنولوجيات المراقبة والرقابة. في هذه الحالة، يخضع الفرد بصفته الشخصية الخاصة، إلى مراقبة من جانب جهاز من أجهزة السلطة أو الدولة. أما حينما يتعلق الأمر بالحكومات السلطوية، فحدّث ولا حرج! 

وفي السياق ذاته، أي البحث في موضوع الرقابة، ظلّ العديد من الباحثين أسرى استعارة السجن المصمم وفقًا لنموذج Panopticon التي تحوّلت إلى مفهوم Concept؛ أي أداة في فهم الانضباط الذاتي لدى البشر، بحيث يحسبون أنهم خاضعون لمراقبة دائمة ويتصرفون على هذا الأساس وفقًا لميشيل فوكو Michel Foucault (1926–1984). والاستعارة كما يكرر الجميع مقترضة من فيلسوف النفعية جيرمي بنثام Jeremy Bentham (1748–1832) في تصميمه لسجن عُدّ بناؤه خطوة إصلاحية ضخمة مقارنة بظروف سجون ذلك العصر المرعبة من ناحية النظافة والشروط الصحية والتغذية والنوافذ التي تسمح بدخول أشعة الشمس والفصل بين السجناء وغيرها. ولكن آلية المراقبة فيها تقوم على إشعار السجين بأنه مكشوف ومراقب طوال الوقت من دون أن يعرف إن كان مراقبًا فعلًا في أي لحظة. والمراقبة عند بنثام هي المشاهدة؛ أي المراقبة بالعين المجردة (التي لم تفلح في رؤية الزنازين بكاملها في أي من النماذج القليلة التي بنيت وفقًا لهذا النموذج في القرن التاسع عشر). لقد كان هذا قبل اختراع كاميرات الدائرة المغلقة CCTV بأكثر من قرن ونصف القرن، والتي كان بنثام سيفرح بها كثيرًا؛ إذ كانت ستكفيه معضلات التصميم الدائري العديدة. لم ينجح مشروع مراقبة زنازين من برج معتم في مركز سجن دائري البناء، ولم يطبَّق إلا في حالات معدودات. والفكرة الرئيسة خلف هذه الاستعارة الني أثارت كل هذه الضجة الأكاديمية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين هي استبطان السلطة أو تذوّتها؛ ما يؤدي إلى الامتثال بضبط الإنسان سلوكَه وكأنه مراقب. 

لم يستخدم بنثام نموذجه بوصفه مفهومًا في العلوم الاجتماعية. فلا بد من أنه كان يعرف أن استدخال الفرد السلطة أو تذوّتها كان قائمًا قبل وضع تصميمه. ولم تجدّد استعارة فوكو تصميم بنثتام في هذا المجال. فمثلًا، يقوم جانب مهم من الأخلاقيات الدينية عند عامة المؤمنين على فكرة الرقابة الذاتية القائمة على الحضور الإلهي الكلي الذي يرى ولا يُرى. ولم يعرف التاريخ سلطة إلا عملت على زرع الوازع الداخلي بتوقع مكافـأة معنوية أو من دونها، أو خوفًا من العقوبة التي قد لا تأتي، أو خوفًا من النبذ الاجتماعي، أو العقاب الإلهي في الآخرة، إلى حدّ التعود على فعل ما هو متوقع من دون حضور النذير خارجيًا، فهو قائم في النفوس. وهذا الانضباط جزء من عملية التنشئة الاجتماعية التي لا تقتصر على الحداثة، خلافًا لرأي فوكو. أما استعارة السجن فتعمم حالة متطرفة قائمة على خوف السجين من العقوبة. ولذلك، فهي تعجز عن تفسير صيرورة التنشئة الاجتماعية للانضباط الذاتي، وهي لا تقوم على تذوّت الخوف والتعود عليه، بل أيضًا على تذوّت القيم والأعراف الاجتماعية، ورغبة الفرد في أـن يكون مقبولًا، وغيرها. ولذلك، فلا حاجة إلى هذه الاستعارة من السجن في فهم هذه العمليات الاجتماعية. كما أعتقد أن البيو-سياسة المستعارة من معسكرات الاعتقال النازية لا تصلح لفهم المجتمعات الحديثة، وعلاقاتها المركبة بالدول. وعمومًا، ثمة مشكلة في تحويل الاستعارات من حالات بسيطة متطرفة إلى مفاهيم؛ أي أدوات في تفسير واقع مجتمعي مركب ومتطور باستمرار من منظور استعارة واحدة، كما في مجتمع السيادة ومجتمع العقاب ومجتمع المراقبة، على الرغم من جاذبية الاختزال في عبارة واحدة تعلق بالذهن Catchy وسهولة تحوّله إلى "تقليعة". فالتطور الاجتماعي هو عملية تركيب وتعقيد وليس عملية تبسيط.

نتجاوز هذا الموضوع إلى نفاد صلاحية هذا التشبيه في حالة شبكات التواصل الاجتماعي؛ لأن ما يُميّز سلوك البشر على شبكات التواصل من ممارساتهم في المجالات الاجتماعية الأخرى هو صعوبة الانضباط والرقابة الذاتية والميل إلى نسيان الرقابة عند الانجراف في صيرورة التفاعل. أستثني من ذلك الخوف الذي يدفع إلى التقييد الذاتي لحرية التعبير في الشؤون التي تُعَد سياسيةً في الدول السلطوية بعد عمليات عقابية؛ مثل الفصل من العمل، والاعتقال، والمحاكمة، والسجن الفعلي بسبب التعبير عن مواقف معينة على المنصات (وكلها إجراءات تجري في واقع مستخدمي وسائل التواصل المعاش ذاته، لا في واقع موازٍ). وفي ظل درجة التطور التكنولوجي لمنصات التواصل الاجتماعي، ينضبط المستخدم في الدول السلطوية ذاتيًا في الشأن السياسي، لا بسبب شعوره أنه مراقب حتى حين لا يكون مراقبًا، بل لأنه مراقبٌ فعلًا. ولذلك، فالعديد ممن استسهلوا استخدام استعارة البانوبتيكون تنازلوا عنها.

عمومًا، يتصرف الناس على وسائل التواصل الاجتماعي بانضباط أوهى من الذي يحكم تصرفاتهم في مجالات حياتهم الأخرى. وما يميز سلوكهم هو النزوع إلى البوح والولع به وصولًا إلى درجة الاستعراض. وإذا لم تسد أجواء الإرهاب الفعلي بفرض العقوبات المباشرة بالفصل من العمل، والسجن، والاعتداء الجسدي، بحيث تخيّم على المجتمع حالة الخوف، يميل مستخدم منصات التواصل إلى نسيان مراقبة الدولة والمنصة في غير الشؤون العمومية، والتفكير في المستخدمين المتابعين له؛ فهؤلاء هم المُراقِبون عنده، إذ أصبح لديه جمهور Audience يحسِب له حساب. وحتى لو لُفِت نظرُه إلى المراقبة القائمة من جانب الدولة أو المنصة ذاتها، فإنه يميل إلى نسيان ذلك بعد أن يدخل حَوْمة التفاعل ويتلقى الإعجاب والردود الأخرى. إن أحد التحديات التي تواجه الإنسان على شبكات التواصل هو الامتناع عن البوح والاستعراض لنيل الإعجاب، أو مكايدة آخرين.

أصبحت المشاركة على منصات التواصل لتسجيل ملاحظات أو تأملات أو وصف لأحداث يومية من أهم أشكال تأكيد الوجود الفردي (عند قطاع واسع من المستخدمين) إلى حدّ انتشار هوس إثبات الوجود رقميًّا وهوس انتظار ردود الفعل عليه. وفي حالات كثيرة، يطلعنا الأفراد ببساطة على ما يفعلون في حياتهم اليومية العادية وعلى أذواقهم الفنية وغير الفنية، ويقصّون علينا ما شاهدوه أو قرؤوه. بعض هذه الإبداعات مفهومٌ عند التواصل داخل مجموعات الأصدقاء والمعارف، كالتي انطلقت بها وسائل التواصل قبل أن تصبح منصات للتنافر والتنابذ. ولكن احتمال بثها إلى كل من لا يهمه الأمر من عموم مستخدمي الشبكة قائم، وكذلك دفع المال لترويجها جذبًا للمتابعين. وهذا أمر يستعصي فهمه على العقل السليم؛ إذ لم يأخذ في الاعتبار دوافع عميقة غائرة في النفس البشرية تستثمر شبكات التواصل فيها، وسوف نتطرق إليها لاحقًا.

البوح يقابله الفضول. والمنصات تغذّي السمتين، فيترعرع على صفحاتها إنسان استعراضي بوّاح وإنسان فضولي نهم في استهلاك خصوصيات الآخرين، سواء أكانوا حقيقيين أم وهميين، أم حقيقيين يتقمصون شخصية وهمية.

يدهش المرء حينما يلاحظ ما قد يفعله الإنسان لجذب الانتباه والحصول على التقدير. الدافع قائم في الواقع غير الرقمي على وجه أكثر انضباطًا بسبب القيود الاجتماعية وأصول التعامل بين الناس. لكن منصات التواصل ترخي له العنان، وتوقظه حين لا يكون المرء واعيًا لوجوده. إنها عدو الرصانة واللباقة واللياقة، فضلًا عن التهذيب، وغيرها من الفضائل التي تسهم في جعل حياتنا الأرضية غير الافتراضية محتملةر. وربما تعوّد الناس، فلم يعد الاستغراب هو رد الفعل على نشر الأخبار والصور المثيرة، منها الصحيح ومنها الكاذب والمتلاعب به، بهدف إثارة الدهشة ولفت الانتباه، و"حصد" الإعجابات الذي يعد بحد ذاته إنجازًا. هذه ممارسة منتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وهي من أهم مصادر المعلومات المغلوطة والأكاذيب إلى جانب الصراعات السياسية. وغالبًا ما يكون الهدف مجرد الإثارة ولفت النظر. يقودني الولع بجذب الانتباه إلى الملاحظة الثالثة.

ثالثًا: عن تغير القيم

نقرأ في أبحاث كثيرة عن أثر شبكات التواصل وتأثيرها الجذري في المجتمعات وثقافاتها، وفي الأخلاق الفردية والعمومية. وثمّة تعميمات جارفة مثل أن ثقافة جديدة تتشكل على وسائل التواصل، وأنها تنتج مجتمعًا وإنسانًا جديدين. وقلّما يتوسع الباحث في شرح هذه الثقافة، أو يفصّل في هوية "الإنسان الجديد"، إنسان المنصات. لا تتناول الأبحاث هذه الموضوعات، على الرغم من انتشار تعميمات عن أن الناس تغيّروا والمجتمعات تبدّلت. لا شك في أن التكنولوجيا عمومًا، وتكنولوجيات التواصل خصوصًا، تحدث أثرًا كبيرًا في العلاقات بين البشر، وفي المجتمعات وثقافاتها والقيم السائدة فيها، ولكن يندر أن نجد فحصًا علميًا لمسألة القيم هذه.

حاولت أعلاه أن أخوض في هذا الموضوع مباشرة من خلال الإشارة إلى توليد الإنسان المولع بالبوح، وتشجيع الفضول، أو توفير المنصات متنفسًا لهذه الدوافع. وأعود إلى تفصيل هذا الموضوع وتفريعه إلى حدّ ما.

 خلال التحضير لهذه الملاحظات قرأت مقالًا فلسفيًا يدعو إلى التخلّي عن وسائل التواصل الاجتماعي وإغلاق الحسابات، لأنها ليست أداة محايدة خلافًا للأدوات الأخرى التي نستخدمها في حياتنا. إنها ليست تكنولوجيا جامدة مثل أداوت العمل أو وسائل النقل أو غيرها، وإنما هي وسائط فاعلة ترصد سلوك الإنسان ويعاد تشكيلها ذاتها بناءً على ذلك وفقًا لمخططات المالكين. هناك من خطّط لها، وهناك من يستمر في تخطيط تكنولوجيات منصات التواصل، فلا يصح اعتبارها محايدة، ولا يمكن الانتصار عليها من داخلها، فهي تعدل ذاتها وتحتوي أي اعتراض. كيف تُعَدُّ محايدة في وجود أهداف تُصمّم بموجبها التكنولوجيا، وتطور باستمرار من أجل تحقيقها؟ إن هدف هذه الخطط عمومًا هو إبقاء المستخدم على الشاشة أطول مدة ممكنة، وجذب أكبر قدر من انتباهه. فكل ما يصدر عن مالكي هذه الشركات ومطوريها يهدف إلى أن نستهلك جزءًا أكبر من وقتنا على الشاشة[2]. ولا مخرج من هذا الفخ سوى عدم الوقوع فيه، أي المغادرة، والإقلاع عن هذا الإدمان.

إذا كان المحرك الرئيس للمخططين هو ربط المستخدمين بالشاشة أطول مدة ممكنة، فإن المحرك الداخلي لنشاط المشاركين على وسائل التواصل الاجتماعي هو دافع بسيط، قوته في بساطته. إنها الرغبة في تلقي الإعجاب، والغريزة الحادية بالإنسان نحو طلب الاعتراف والتقدير.

 تكمن "عبقرية" برمجة منصات التواصل في البناء على دافع طبيعي أو غريزي، وهو رغبة الإنسان في أن يكون محبوبًا، وهو ما لا توفره وسائل الإعلام لقرائها ومشاهديها؛ ففيها لا يحصل المستخدم على كلمة like أو الألفاظ أو الأيقونات الأخرى التي تلبي هذه الحاجة. 

أبدأ إذًا بأمثلة دالة على التغيير في مجال القيم والسلوك. 

  1. أيعد دافع إثارة الإعجاب وطلب الاعتراف محركًا إيجابيًا أم سلبيًا من منظور الأخلاق؟ علينا أولًا أن نشدد على أنه دافع طبيعي، لا سلبي ولا إيجابي. ويمثل مع النفور من العنف الجسدي استعدادين طبيعيين لدى الإنسان لتشكيل القيم الأخلاقية. إنه دافع أساسي في الترابط الاجتماعي ونشوء القيم الأخلاقية منذ الطفولة والتنشئة العائلية. وفي بيئة غير مناسبة يكون دافعًا لسلوك غير أخلاقي. لكن ما يميز النشاط على منصات التواصل هو كون هذا الدافع محركَه الرئيس الدائم الحضور، وإن لم يكن الوحيد، سواء أكان المستخدِم واعيًا لذلك أم غير واعٍ، وذلك ليس في مجموعة صغيرة من الأصدقاء يتواصلون ويتبادلون الثناء والمجاملات، أو النقد والمكايدات بشأن ما يرسلونه، كما كانت وسائل التواصل في بدايتها، وإنما في مقابل أفراد لا يعرفهم وجمهور مجهول تمامًا. ولا شك في أنه في هذه الحالة يتحول إلى دافع سلبي؛ لأنه يقود إلى تقوية عنصريّ النرجسية والاستعراض. وأرجّح أن النشاط على منصات التواصل أثّر في شخصية العديد من الناس في اتجاه أكثر استعراضًا وأقل لياقة ورصانةب في طلب الاعتراف. مع التحفظ بإضافة أن بعضهم يستخدمها كمتنفس لممارسة هذه النزوات، ويحافظ على "أصول التعامل" في حياته خارج المجال الرقمي. 
  2. في مقال آخر حول الفلسفة الوجودية ووسائل التواصل الاجتماعي[3]، يرى باحث أنه ينطبق على شبكات التواصل الاجتماعي مفهوم الجمهور Crowd النافي للفردية. فمقابل الفرد، ثمة أفراد آخرون غير معروفين يُشكّلون جمهورًا ما، يولّد تواصلًا غير مرضٍ Unfulfilling. أما الانغماس في الجمهور فيُحرّر الإنسان من مسؤوليته الأخلاقية ويزجه في ثقافة القطيع.

 نضيف إلى ذلك أن عنفًا لفظيًا يغمر شبكات التواصل الاجتماعي خلف قناع من المجهولية لا يمارسه الإنسان في حياته اليومية. فهل يمكن القول إن التعبير عن الخلافات بوسائل التواصل المباشر بين مستخدمين لا يعرف أحدهم الآخر عن قرب، ولا يجمعهم أي شعور بالتعاطف، يميل إلى الانزلاق بسهولة إلى العنف اللفظي بما يلوث اللغة ويقوّض أسس الحوار؟ الإجابة هي نعم. 

  1. لماذا بتنا نسمّي الدعاية الكاذبة أو نشر الأضاليل، بما في ذلك تشويه الخصوم من خلال نشر الشائعات المُغرضة "ما بعد الحقيقة"؟ هذه ليست ظاهرة جديدة، كانت دائمًا ثمة دعاية سياسية تضليلية ونشر معلومات كاذبة وشائعات، وفي كثير من الحالات كانت هذه سياسات مُخطّطة. فما الجديد لكي نُسمّيها "ما بعد الحقيقة"؟ الجديد الذي قد يستحق تسمية خاصة هو الوفرة غير المسبوقة في المعلومات، والكثافة في نشرها وترويجها على منصات التواصل. وثمن هذه الوفرة من المعلومات غير المفحوصة هو التساوي "الديمقراطي" بين ما يصبه الأفراد والمؤسسات في نهر المعلومات الصاخب المتدفق، وضياع الحقائق بين الأكاذيب، وإعادة تدويرها على نحو يساوي بين الحقيقة والكذب، سواء أكان الغلط موجهًا Disinformation أم غير موجه Misinformation. 

كانت المحطات الرئيسة التي لفتت النظر إلى علاقة منصات التواصل بنشر المزاج الشعبوي المعرّض للدعاية اليمينية المتطرفة في انتخابات عام 2014 في الهند، واستفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي Brexit في بريطانيا 2016، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة في العام ذاته. وقد دار نقاش طويل حول دور وسائل التواصل الاجتماعي في حملات الدعاية، والبعض يضيف دورها في الربيع العربي، ولكن الأهم هو طفرة استخدام الأنظمة السلطوية العربية لهذه الوسائل من أجل المراقبة والرقابة والدعاية، بما في ذلك إنشاء الجيوش الإلكترونية والتشهير.

غالبية الأبحاث حول تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في الثقافة السياسية للجمهور، بمعنى الإسهام في نشر الشعبوية وتعزيزها، تدور حول دور هذه الشبكات في دول ديمقراطية، وتبحث في خطرها على الديمقراطيات القائمة أو فائدتها لها. لكن الأبحاث التي تتطرق إلى دورها في ظل الأنظمة السلطوية قليلة. وهذا تحد كبير للباحثين العرب (وقد استجاب بعض الباحثين في هذا المؤتمر للتحدي).

  1. ألفت الانتباه هنا إلى مسألة طغيان الترفيه. وفرت منصات التواصل الاجتماعي فضاء لممارسة قدر كبير من حرية التعبير سياسيًا، هذا صحيح ومهم. بيد أن هذه الحرية تواجه خطر العقم والعبثية بسبب سيل ما يقال وينشر من غير تمييز، أو خطر التعطيل بالتحريض المعاكس الذي قد يصل إلى حدّ التشهير والتنمّر والترهيب. وهذا تحد لا ينفع الانسحاب من مواجهته، فهذه المنصات لن تختفي قريبًا كما يبدو. 

لكن غالبية حرية التعبير المتبقية في الدول السلطوية هي في الحقيقة حرية استهلاكية ترفيهية غالبًا. وعمومًا، تهيمن جاذبية ألوان الترفيه وصنوفه على المنصات في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية إلى حدّ اختراقها مجال السياسة وحتى الوعظ الديني وغير الديني، بسبب التنافس على انتباه المستخدم ووقته. فالسياسة يجب أن تكون أيضًا جذابة ومثيرة، وكذلك الوعظ الديني وغير الديني. وتختلف أذواق بعض الناس بشأن نوع التسلية المفضل: مجرد لهو، أوم ترفيه ثقافي، أو ربما سياسي، أو حتى ديني. يزداد إذًا منسوب عنصر التسلية والترفيه في النشاط الاجتماعي وفي عملية الإدراك. هل هذا جيد؟

أشار يفغيني موروزوڤ في كتابه الشهير[4]The Net Delusion إلى اعتماد الأنظمة السلطوية على الترفيه في إلهاء الرأي العام عن السياسة والشأن العمومي أكثر من اعتمادها على عنصر الرقابة. وخصّ بالذكر النظام السلطوي في روسيا، حيث لاءم النظام نفسه مع حمى الاستهلاك والثقافة المنتشرة على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وغيّر حتى شكله الخارجي؛ وأصبحت هيئة الناطقين باسم الدكتاتورية مقبولة بمقاييس المجتمع الاستهلاكي، أو Cool بلغة جيل الـمنصات. عمومًا، يفضل المواطنون الترفيه على السياسة في الأزمنة "العادية". لم يكن ممكنًا الجزم بذلك في حالة وسائل الإعلام في الماضي حين تعرّض القراء والمستمعون والمشاهدون لبرامج سياسية وترفيهية على قنوات التلفاز نفسها؛ فشاهدوا السياسة على القناة نفسها مع البرامج الترفيهية لتمضية ساعات المساء بعد العمل، وذلك قبل نشوء القنوات المتخصصة، والإنترنت والـ "يوتيوب" على نحو خاص. 

قرأت بحثًا جيدا قُدّم في هذا المؤتمر عن الأداء الفني على وسيلة التواصل الـ "تيك توك" TikTok بوصفه نوعًا من تحقيق الذات، ومن ثم حرية التعبير. ولا شك في ضرورة مقاربتها بوصفها ممارسة لحرية التعبير إذا تعرضت للقمع. ولكن ليس هذا ما يُميّزها. ما يُميّزها هو انهماك الشباب في الأداء على هذه المنصة لمتعه إظهار الموهبة، أو لتلقّي الردود من أجل عائد مالي بسيط، وربما لتحقيق الذات. والسؤال هو عن الذات التي تتشكل خلال هذه العملية وليس فقط تلك التي تتحقق. ثمة صيرورة جارية في تحويل فئات من الشباب إلى كائنات مؤدية لتلقّي الإعجاب، وتلقّي عائد مالي من المشاهدين في حالة "تيك توك". ويحصل أن يقود هذا الجهد إلى دفاع عادل عن حرية التعبير حين تدعي السلطة الحاكمة تمثيل القيم الاجتماعية أو قيم العائلة وتقمع حرية التعبير باسمها، كما حصل في دول عربية وغير عربية. وتتباين السلطويات في مقاربتها هذا الموضوع. النظامان في روسيا والصين يشجعان الأداء الترفيهي الذي يمارسه الشباب على منصات التواصل، في حين يقمعه النظام في مصر حين يمس بما يسميه قيم العائلة. 

إن منصات التواصل هي مصدر للمعلومات البديلة والمقاومة وتشكيل الهويات البديلة لأشخاص تجمعهم قضية أو يجمعهم مطلب أو اهتمام ما. وهي أيضًا فضاء للهيمنة والسيطرة والدعاية والرقابة وللتعبئة وتحشيد الغضب ضدها، ولكنها ليست مكانًا للتواصل العقلاني، ولا للتوصل إلى حلول للمشكلات. وهذه تحديات لا بد من مواجهتها وعدم الاكتفاء بالحكم على منصات التواصل بأنها جيدة أو سيئة.

  1. ثمّة تأثير واضح للمنصات في تكوين هويات جديدة خلال التفاعل على الشبكة: "ضد" أو "مع"، في واقع يتخيل أنه واقع مكونٌ من الكلام والصور والأفكار، مجردٌ من الظروف الاجتماعية والاقتصادية. ويتعزز هذا الوهم من خلال الانخراط في عملية التواصل في خضم الاستقطاب بين من يُثني على الشخص ومن يهاجمه. وتتشكل هذه الهوية من خلال تحقيق الذات بالتعبير باسم حقيقي أو مزيف، ومن خلال تلقّي الإعجاب والإطراء أو تلقي الذم والهجاء على الموقف أو القضية التي تشكل محور الهوية بمعزل عن ظروف الشخص وشروط حياته. وقد ينشأ واقع مقلوب في توليد كلاسيكي للأيديولوجيا بوصفها وعيًا مقلوبًا. وتُعزِّز وسائل التواصل الاجتماعي العنصر المُتَخَيَّل في الهوية وتزيده ابتعادًا عن الواقع المعيش بسبب تشكلها من خلال التفاعل الكلامي.

أما بخصوص الهويات الجماعية القائمة أصلًا خارج المجال الرقمي، فقد ساد اعتقاد أن عالم الإنترنت عمومًا، ومنصات التواصل خصوصًا، تُنشئ واقعًا تواصليًا يتجاوز القبيلة والطائفة والقومية وغيرها إلى الإنسانية عمومًا؛ ما يترتب عليه جمهور/ حضور عالمي Global Audience يبرر المشاركون فيه سلوكهم للإنسانية، أي من خلال حجج عقلانية ومعايير كونية[5]. كان هذا تفكيرًا متفائلًا جدًا؛ لأن الإنترنت ووسائل الاتصال لم تُنشئ جمهورًا عالميًا، بل جماهير عالمية تتداول قضايا واهتمامات مختلفة، وحدود عالميتها تضعها اللغة الإنكليزية. ولكنها وفرت إمكانية للتعبير الحر عن هويات مغرقة في المحلية. لم تُلغ منصات التواصل الانتماءات القومية والطائفية والمحلية، بل زودتها بمنابر لتُعبِّر عن نفسها، وأدوات تعظم هذا التعبير وتزيده حدة؛ لأنها تتيح سجالًا متواصلًا مع الآخرين، غير قائم في المجالات الحياتية غير الرقمية.

أخيرًا، لا تزدهر الأخلاق في العالم الرقمي؛ لأن الحواسيب مبنيّة منذ البداية بهدف التوصّل إلى الإدارة الذاتية والأتمتة والسرعة واختصار الزمن، وهذه المكونات كلّها تُقصي العنصر البشري؛ فلا يوجد بُعد أخلاقي من دون بُعد إنساني تأملي وزمني تناظري Analogue. البشر هم كائنات تناظرية يعيشون في عالم رقمي في هذا العصر. وثقافة الحوسبة Computing في حدّ ذاتها، أي من دون تدخل بشري، لا تُطوِر بُعدًا أخلاقيًّا؛ لأنها موظفة في خدمة النجاعة والفاعلية والأتمتة[6]

رابعًا: تكنولوجيا الاتصال ونقادها

 أثار كل اكتشاف تكنولوجي في مجال الاتصالات Communication مثل الصحيفة المطبوعة والراديو والتلفزيون ردود فعل متحمسة وصلت إلى حدّ اعتباره مُحررًا للبشرية، وإسهامًا في التغلّب على الحواجز بين الشعوب، وضربة قاضية للآراء المسبقة؛ فمحاربة الجهل تكون بنشر المعرفة، وإتاحة الوصول إلى المعلومة. وللتذكير، يقوم فكر التنوير أساسًا على تطابق المعرفة والخير، واعتبار أن كونية المعرفة وسيلة حصرية لإقصاء الشرّ المُتَرَتب على الجهل. ولا يكاد يمر عقد على انتشار التكنولوجيا الجديدة جماهيريًا حتى يظهر الموقف المتشائم من استخدام هذه التكنولوجيا للسيطرة أو لغرض الربح على حساب رسالته الأصلية التي أسقطها عليه المتحمسون السابقون، الخائبون الحاليون، والذي يتهمها بنشر السطحية والجهل.

ومثلما إنه من دون نشوء المجال الخاص، وخصوصية الفرد، اللذين يُعَدّان إنجازًا تاريخيًا، ما كان خرق الخصوصية بالمراقبة يُعدُّ ممارسة مذمومة وغير مشروعة، يصحّ القول أيضًا إن تكنولوجيّات الاتصال عززت مشاركة الجمهور في الشؤون العمومية، ولكن المشاركة في الفضاء العام، تعرّضه للسيطرة المذمومة بواسطة التكنولوجيات ذاتها. وكما سبق أن قلنا، فإن التطور عملية تركيب وتعقيد، لا عملية نفي بسيط بحيث تحل سمة محل أخرى.

وغالبًا ما يعد المثقفون الديمقراطيون المشاركة قيمة إيجابية بحدّ ذاتها. ولكن سرعان ما توضح الممارسة أنه ما من مشاركة محضة؛ فهي تجري في ظروف اجتماعية وسياسية معطاة وفي إطار ثقافة بعينها. وحينئذٍ يتضح أنها ليست بذاتها قيمة إيجابية، وليست كل مشاركة في كل ظرف مفيدة بالضرورة للديمقراطية، مع أن المشاركة من ركائزها.

هل تعزز المشاركة الرقمية على شبكات التواصل الاجتماعي احتمالات المشاركة السياسية الفعلية في إدارة الشأن العمومي أو حتى في المعارضة الفعلية المُنظّمة للسلطة الحاكمة؟ هذا ممكن في الديمقراطيات بسبب ممارسة التأثير في صنع القرار. ويختلف الأمر في السلطوية، وإن كان التأثير في شؤون ثانوية واردًا في ظلها. ففي الأوضاع السلطوية، يهمنا سؤال متفرع من هذا السؤال: هل تزيد كثرة المعلومات وكثرة المشاركين في النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي من احتمالات الديمقراطية، أخذًا في الاعتبار أن الديمقراطيات التاريخية نشأت في ظل شحّ المعلومات وقلة المشاركة؟

إن المشاركة الشعبية الواسعة في ظروف الصراع الاستقطابي وضعف المؤسسات تُولِّد ضغوطًا هائلة ينوء بها أي نظام، ديمقراطي أم غير ديمقراطي. كما أن ازدياد المعلومات ووصولها إلى أكبر عدد من الناس لا تزيد العقلانية بالضرورة، مثلما أن المشاركة الأوسع للجمهور قد تعني في كثير من الحالات زيادة منسوب اللاعقلانية، وفعل نزعات البشر الأولية وغرائزهم. وأخيرًا، فإن تكنولوجيا التواصل غالبًا ما تُعزِّز أفكارًا وممارسات قائمة، ولا تغيّرها، بل تمنحها انتشارًا أوسع ومنصات جديدة للتعبير عن نفسها. 

قيل في جميع الثورات والانتفاضات الشعبية التي حصلت منذ نهاية العقد الأول من القرن الواحد العشرين إن وسائل التواصل الاجتماعي أدت دورًا حاسمًا فيها، وقد أثبتت دراسات كمية أن دورها لم يكن حاسمًا؛ ففي نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان انتشارها محدودًا. هكذا كان الحال في إيران في عام 2009، وفي تونس عام 2010. ولا شك في أنها أسهمت في تنظيم جماعات الشباب وإطلاق المبادرات والتحشيد للاحتجاج، لكنها لم تكن عاملًا حاسمًا، لا في نشوء الثورات، ولا في نجاحها أو فشلها.

كان لمبالغة الإعلام والخبراء والباحثين في تصوير دور وسائل التواصل الاجتماعي خلال الثورة الخضراء في إيران عام 2009 وفي الثورات العربية بعدها بعامين أثرٌ في المستوى العالمي، لكن هذا الأثر كان متعدد الأبعاد؛ إذ شمل زيادة اهتمام النظم السلطوية الحاكمة باستغلال شبكات التواصل الاجتماعي للرقابة والمراقبة والدعاية.

الرقابة والمراقبة والدعاية "البروباغندا" هي أعمدة الضبط والسيطرة. ولا يجوز أن ننسى العنف، ومعرفة المحكومين بوجوده. وقبل الدخول في أي تفاصيل متعلقة بطبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية، يمكن الحكم بأن تقنية التواصل الرقمي بحدّ ذاتها تُعزِّز هذه الأعمدة الثلاثة، ولا تُضعفها. في البداية، استُخدمت التقنية المعلوماتية ضد هذه الأنظمة، ولكن سرعان ما تكيّفت الأنظمة معها واستغلتها لصالحها في الرقابة والمراقبة والدعاية.

نتيجة لاهتمامنا بالانتقال الديمقراطي، فإن ما لفتوا نظرنا في تلك المرحلة بحق هم المدونون من نقاد الأنظمة السلطوية من دون الانتباه لنسبتهم وعددهم، فقد كانوا، بغض النظر عن عددهم، الظاهرة الجديدة التي تستحق الاهتمام[7]. لكن سرعان ما ظهر المدونون الذين ينشرون الدعاية القومية الشوفينية وأوهام المؤامرات ورهاب الأجانب والتشهير بالمعارضين. وسرعان ما شمل ذلك الدفاع عن نظام الحكم بوصفه دفاعًا عن الوطن وتخوين كل من يعارضه. تخترع النظم السلطوية بعضهم أو تتبناه أو تبتزه، ولكن بعضهم ينشأ تلقائيًّا.

تساير الأنظمة السلطوية بسهولة هذه الميول وتشرع في تأجيج المشاعر الشوفينية ونشر الأساطير التي تُعزِّزها. وحين لا تتشكل القناعات بناءً على إدراك عقلاني للوقائع والحجج، بل بناءً على ميول ونزعات ومخاوف ومصالح، يصعب دحضها بتقديم المعلومات الصحيحة؛ لأنها ببساطة لا تقوم على معلومات خاطئة. 

حتى حين أدّت المنصات دورًا مهمًا عشية الثورات العربية وخلالها، لناحية التواصل وتمرير المعلومات بعيدًا عن الإعلام الرسمي، وتوثيق الممارسات القمعية للسلطات، وفي التعبئة والتجنيد والالتفاف على أدوات الرقابة التقليدية القديمة، حتى في تلك المرحلة كان من المفترض أن تشخَّص بذور الدور المضاد لمنصات التواصل في الثورات ذاتها، من خلال ملاحظة تشكّل هوية شبابية احتجاجية تقدّس العفوية بوصفها رديف الثورية، وتُجمع على النفور من فكرة القيادة والتنظيم والترفّع على الأحزاب، واختلاق تناقض بين الأخلاق والسياسة التي تقتضي القبول بالتسويات، وبروز المعالم الأولى لعدم قدرة النشطاء على إقامة تنظيمات حقيقية على أرض الواقع قادرة على طرح بدائل و/ أو الدخول في صفقات المراحل الانتقالية. وقد أدى العجز عن السياسة إلى تشظي الاحتجاج الذي انطلق من منصات التواصل إلى راديكالية خارج السياسة، وانتهازية تتعاون مع النظام، ويأس غاضب من التيارين. كان دور النشاط على المنصات فاعلًا في تحشيد النضال ضد النظام القائم، ولكنه لم يُصبح فاعلًا في طرح بدائل قابلة للتنفيذ، أو الإسهام في بنائها. والحلول لهذه القضايا ليست في منصات التواصل.

ساد في بعض الأوساط الليبرالية في الغرب اعتقاد مفاده أن نشر المعلومات بإزالة الجدران والحواجز بين الشعوب والدول لا بد من أن يقود إلى تعزيز التوجّه نحو الديمقراطية. وهذا إلى حدٍ ما انعكاس لفكرة السوق الحرة والتجارة الحرة وانفتاح الدول الأخرى أمام الاقتصاد التنافسي؛ ففي الحالتين تقود يد السوق الخفيّة، سواء أكانت سوق الأفكار أم سوق البضائع الاستهلاكية، إلى الاستنتاجات الصحيحة ضد الظلم من جهة، وإلى ارتفاع مستوى المعيشة والرفاه من جهة أخرى. لكن تبيّن أن الأنظمة السلطوية قادرة على التكيّف مع السلع الاستهلاكية والترفيه، إلى درجة صعود تركيبة سلطوية - استهلاكية تشمل دعم الدولة وأجهزتها الأمنية صناعة الترفيه، وحتى السيطرة عليه في بعض الحالات. تستخدم الأنظمة السلطوية المنصات للرقابة والمراقبة والدعاية والترفيه، بحيث يصبح الترفيه والشوفينية وجهين لدعاية النظام الذي بات يدير عملية إنتاج الأفلام السينمائية والدراما والمزايدات الوطنية.

يسود اعتقاد أن وسائل التواصل الاجتماعي تُعزِّز نشوء جماعات تعاضدية معارِضة أو غير معارِضة، وأنها تدعم الروابط الاتحادية ونشوءها، وتدعم التعاون بين الأفراد عمومًا بتجلياتها المختلفة، سواء أكان ذلك في تبادل الأخبار أو في جهود التنظيم في الدعوة إلى مظاهرة أو غيرها. هذا صحيح، ولكن صحيح أيضًا أنها مسرحٌ للمزايدات والشعبوية، وإغراق لأي نظام ديمقراطي جديد غضّ بالمطالب العفوية التي ينوء بحملها. ليست المشاركة الشعبية أمرًا إيجابيًّا بالضرورة من منظور الانتقال الديمقراطي. فالديمقراطية تعزز المشاركة الشعبية في ظلها وفي أطرها، هذا صحيح، لكن العكس غير صحيح؛ أي إن المشاركة الشعبية لا تُعزِّز الديمقراطية بالضرورة. 

 ينطبق هذا على وسائل التواصل الاجتماعي، فما حسبته القوى الديمقراطية ترسانة لدك حصون السلطوية، تبين أنه طيّع لاستخدام الأنظمة الدكتاتورية. ولذلك اختفت نغمة التفاؤل والإعجاب في معالجات وسائل التواصل الاجتماعي التي كنا نقرأها في المنتصف الأول للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد المبالغة في نسبة الدور الفاعل إلى هذه الوسائل، ولا سيما "تويتر" إبان الثورة الإيرانية عام 2009 و"فيسبوك" إبان الثورتين التونسية والمصرية، وحلّت محلها موجة من الريبية والتشاؤم.

إن الإنجاز الرئيس لوسائل التواصل الاجتماعي عشية أحداث كبرى مثل الثورات، أو حتى حاليًّا خلال حرب الإبادة على غزة، هو تجاوز سيطرة الإعلام التقليدي بما في ذلك الإعلام الرسمي للدول، لناحية نشر الخبر والمعلومة والصورة التي لا تسمح هذه الوسائل بنشرها أو لا تنشرها بسبب سياستها التحريرية. هنا يمكن الحديث عن منصات التواصل بوصفها مصدر معلومات بديل من الإعلام الرسمي أو التقليدي، من خلال تواصل عابر الحدود، ولا سيما بين الشباب الذين يقومون بالتصوير والتسجيل هم ونظرائهم في البلدان الأخرى.

 لا شك في أن الشباب الفلسطيني والديمقراطي أو اليساري المتضامن معهم على وسائل التواصل الاجتماعي أدوا دورًا مهمًّا في نشر المعلومات؛ ما استدعى ردود فعل رقابية من جانب مالكي هذه الوسائل بتحريض من لوبيات إسرائيلية. وفي كثير من الحالات، أدى الشباب الفلسطيني والعربي والأجنبي أداءً مكافئًا لأداء الشباب الإسرائيلي أو المتضامن مع إسرائيل في المهارات واللغة والثقة بالنفس؛ هذا التكافؤ في القدرات والمهارات على منصات التواصل هو نقيض ميزان القوى غير المتكافئ إطلاقًا على الأرض التي تشهد حرب إبادة. وقد أدى هذا الإنجاز التواصلي المهم إلى بعض سوء الفهم، ولا سيّما على مستوى فهم الحق والعدالة من خلال السجال الرقمي مع الخصوم، وإسقاط الهويات السياسية، التي تردكلت خلال السجال ضد الفاشية، والنفاق على حد سواء، على الواقع السياسي المعيشي المركب؛ ما أدى إلى مواقف مطلقة غير مسيّسة.

لا تقدِّم منصات التواصل يقينًا يمكن التنبؤ به مثل أنها تُقوّي الضعيف وتُضعِف القوي، أو أنها أدوات تحرر. وحتى اعتقاد المتفائلين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باستحالة تكرار إبادة شعب شبيهة بما حصل في رواندا بسبب تطور شبكات التواصل والتفاعل على الإنترنت، وأن وصول المعلومات والصور من كاميرات الهواتف النقالة سوف يلزم الفاعلين الدوليين بالتدخل لوقفها، أثبتت غزة أنه غير صحيح، فلم تبقَ موبقة ارتكبها الاحتلال إلّا نقلتها وسائل التواصل صوتًا وصورةً، وكسب المتضامنون أوساطًا واسعة من الرأي العام إلى جانبهم. ولكن هذا لم يدفع إلى وقف الإبادة. يعود الأمر إلى سببين: أولهما، أن ثمة اعتبارات تتحكم في سلوك الدول غير المعلومات، منها مصالحها وحساباتها السياسية. وهذا ما لم تُغيّره الشبكات الرقمية، وأن قوى الظلم والعدوان تستخدم أيضًا وسائل التواصل. إن الصراع على شبكات التواصل وفيها، هو جزء من الصراع في الواقع، ولا بد من خوضه، مع إدراك طبيعة التحديات والتخلص من وهم الانتصارات الرقمية السريعة. فشبكات التواصل ليست ملعبًا مستويًا، ولا مائلًا لصالح الخير أو الشر، بل لصالح القوى المسيطرة في الدولة والمجتمع. 

خامسًا: عن منصات التواصل ووسائل الإعلام

لقد حُسمت منذ أمد بعيد مسألة دور وسائل الإعلام في الحفاظ على النظم الديمقراطية وإعادة إنتاجها بوصفها نوعًا من الرقابة "المستقلة" على السلطة. وثمّة أيضًا نقد لهذه المقولة وتقييدها باحتمال خضوع وسائل الإعلام لمصالح مرتبطة بفئات في السلطة، أو مرتبطة برأس المال وغيره. ومع ذلك، فللإعلام المستقل نسبيًا، حتى لو كان ملكية خاصة لأصحاب رؤوس الأموال، دور رئيس في تشكّل الفضاء العام الديمقراطي، وفي ربط الفرد بالشؤون العمومية.

دخلت منصات التواصل الاجتماعي في تنافس مع الإعلام منذ نشوئها، مع أن المؤسسات الإعلامية تبذل جهدًا في استغلال هذه المنصات لنشر مضامينها. وقد تحولت بذاتها إلى مصدرٍ للأخبار تتزايد أهميته كلّما نزلنا في سلّم الأعمار. واحتدم التنافس بين وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام في كسب اهتمام الجمهور، فأخذت الأولى تتحدى الإعلام التقليدي بوصفها مصدرًا أكثر جاذبية للأخبار لدى جيل الشباب. وتُظهِر استطلاعات الرأي العام تراجعًا في الاعتماد على الإعلام التقليدي بوصفه مصدرًا للأخبار أو الترفيه أو غيره. وحتى من يعدّونه مصدرًا، فإنهم يصلون إليه غالبًا عبر شبكة الإنترنت. لم يختف الإعلام التقليدي، ويرجح أنه لن يختفي؛ فوظيفته تزداد أهمية في مقابل فوضى المضامين على وسائل التواصل. ولكنه يمر بمرحلة صعبة، يزول فيها بعضه، ويصبح بعضه الآخر أكثر اعتمادًا على وسائل التواصل وأكثر شبها بها وتلبية لشروط الترويج لها، أما الجزء الأهم فهو الذي يبقى لأنه يدرك أهمية دور الصحافة، وأهمية تميزه من المنصات، حتى وهو يستخدمها لنشر مضامينه.

في الأنظمة السلطوية تتغلب منصات التواصل بسرعة على الإعلام الرسمي الذي تسيطر عليه الحكومات؛ إذ يقارن الناس ما يقرؤونه على هذه الشبكات بما يُنشر في الإعلام المتاح في تلك البلدان، ولا يُقارنونه بما يُنشر في صحيفة نيويورك تايمز مثلًا أو غيرها من الصحف الأكثر مهنية. 

ونشأت حلقة مفرغة؛ فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر جذبًا لشركات الدعاية والإعلان، فازداد دخلها وقويت، وقلّ دخل الصحف ووسائل الإعلام التقليدية، ما أضعفها؛ فتراجع اهتمام شركات الدعاية والإعلان بها. فإذا كانت الدعاية لكل ألف مستخدم تبلغ 60 دولارًا في حالة الصحف المطبوعة، و23 دولارًا لكل ألف مستخدم في حالة التلفزيون، فإنها تُكلّف 2.5 دولار للدعاية على شبكة الإنترنت، و75 سنتًا في حالة الدعاية على أجهزة الهاتف الجوال، و56 سنتًا لكل ألف مستخدم في حالة شبكات التواصل الاجتماعي. واضح أن هذه الأسعار جذابة جدًا لشركات الدعاية الإعلانية التجارية[8]. وفي هذا المجال، ثمّة استثناءات بالتأكيد؛ إذ إن العديد من الصحف ووسائل الإعلام المركزية حافظت على مصداقيتها لدى أوساط اجتماعية واسعة.

وثمة تنافس على اهتمام الجمهور داخل شبكات التواصل نفسها بين الترفيه والأخبار والوعظ الديني والمجالات الأخرى. ونسبة المهتمين بالأخبار فيها تقلّ فيها عن نسبة المهتمين بقراءة الأخبار من بين قراء الصحف؛ وقد بلغت في الولايات المتحدة 20 في المئة من قراء الصحف المطبوعة، و12 في المئة من مشاهدي التلفزيون. وفي المقابل، فإن ما نسبته 7 في المئة فقط من رواد وسائل التواصل يستخدمونها من أجل الاطلاع على الأخبار السياسية. وبعضهم يستخدم هذه الوسائل أو محركات البحث للوصول إلى أخبار تنشرها أصلًا وسائل الإعلام التقليدية[9].

نتيجة للتنافس بين وسائل الإعلام وشبكات التواصل، نشأت على الإنترنت وسائل إعلام صحفية، لكنها تتنافس في الإثارة مع وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت الشخصيات العمومية تستخدم الأخيرة لنشر أخبارها ومواقفها. ومع مرور الوقت، نشأ اهتمام كبير بعدالة النشر على هذه الوسائل، ونقد فلترة المعلومات التي تصل إلى الفرد أو انتقائها بموجب ميوله من خلال الخوارزميات، وأيضًا تقليل الاهتمام بالشؤون العامة والمس بالخصوصية وبيع البيانات والشعبوية، وازدياد احتمالات التعرّض للمضايقة والتنمّر والتحريض العنصري وغيرها. هذا ثمن منحها الصوت للناس لتجاوز التلقي إلى التعبير والتفاعل. وثمّة مشكلة حقيقية في ارتفاع نسبة الثقة بوسائل التواصل الاجتماعي في نقل الأخبار، لا سيما لدى جيل الشباب، ولكن عمومًا تبقى نسبة الثقة بالأخبار السياسية، سواء أكان مصدرها وسائل الإعلام التقليدية أم الإنترنت ووسائل التواصل منخفضة، ونسبة الريبية/ التشكيك Skepticism تجاه مصادر الأخبار السياسية مرتفعة لا سيما لدى الشباب.

لكن الانتقائية والفقاعات الإبستمولوجية وغرف الصدى لا تقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي، بل تشمل وسائل الإعلام من خلال نماذج سلوكية مختلفة؛ فغالبًا ما يقرأ القرّاء صحفًا قريبة من ميولهم، ويشاهدون محطات تلفزيونية توافق توجهاتهم. فليس تعرّض المستخدمين لمواقف وأيديولوجيات مُحددة تلائم مواقفهم هو ما يُميّز وسائل التواصل، بل سمة استخدام عامة الناس لوسائل الإعلام. هذا النقد لا يصيب الهدف[10]، ولكن النقد الذي يصيب الهدف هو أن وسائل التواصل تعزز هذه النزعة، وتسهم في توليد التعصب من خلال السجالات الشعبوية وتشكّل هويات رقمية.

كانت التقييمات الأوتوبية لدور وسائل التواصل في الديمقراطية خاطئة، وينطبق هذا على التقييمات الدستوبية Dystopian أيضًا. ويبدو أنه لا مفر من اتباع منهجية تتعامل مع التطور لا بوصفه عمليات نفي مرحلة لأخرى، أو سمة لنقيضها، بل أيضًا بوصفه عملية تركيب للسمة ونقيضها؛ ما يفسح مجالًا للعامل البشري في التأثير والبناء على منجزات لا تزول بالنفي المجرد، وكأن الاستعارة تنفي الأخرى وتحل محلها.


الهوامش:

[1]Cathryn van Kessel, Jason D. Manriquez & Kip Kline, “Baudrillard, Hyperreality, and the ‘Problematic’ of (Mis/Dis)information in Social Media,” Theory & Research in Social Education (January 2025), pp. 1-23.

[2] Douglas R. Campbell, “Not Just a Tool: Why Social-Media Use is Bad and Bad for Us, and the Duty to Quit,” Journal of Global Ethics, vol. 20, no. 1 (20 May 2024), p. 2.

[3] Marc Cheong, “Existentialism on Social Media: The ‘Look’ of the ‘Crowd’,” Journal of Human Technology Relations, vol. 1, no. 1 (2023), pp. 1-16.

[4] Evgeny Morozov, The Net Delusion: How not to Liberate the World (London: Penguin Books, 2011). 

[5] Peter Singer, One World: The Ethics of Globalization, 2nd ed. (New Haven: Yale University Press, 2004), p. 12.

[6] Robert Hassan & Thomas Sutherland, Philosophy of Media: A Short History of Ideas and Innovations from Socrates to Social Media (New York: Routledge, 2016), pp. 216-221.

[7] في مقال لرشا عبد الله تفصيل منحاز إيجابيًّا إلى وسائل التواصل الاجتماعي في تنظيم الثورة في مصر، ولا سيّما الدور البارز للمدونين منذ عام 2004 قبل انتشار هذه الوسائل، ثم دور صفحات "فيسبوك" في تنظيم الاحتجاجات التي قادت إلى احتجاج يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2025 الذي تحوّل إلى انتفاضة ثم ثورة. وهي ترى إمكانية تطوّر مجالات عمومية يمكن أن تتحول إلى فضاء عمومي ديمقراطي عندما ينجح ما تسميه عموم مضاد Counterpublic في توليدها. على كل حال هذا موضوع يحتاج إلى نقاش لأنه ممكن أن ما ينشأ ليس فضاء ديمقراطي إنما فضاءات مختلفة قد يناصب أحدها الآخر العداء

Rasha Abdulla, “Social Media, the Public Sphere, and Public Space in Authoritarian Settings:A Case Study of Egypt’s Tahrir Square and 18 Years of User Generated Content,” Social Media and Society, vol. 9, no. 1 (2023), p. 9.

هذا موضوع يحتاج إلى نقاش؛ لأن ما ينشأ ليس فضاءً ديمقراطيًا، إنما فضاءات مختلفة قد يناصب أحدها الآخر العداء. إن الكاتبة تستعرض القوانين التي سُنّت بعد انقلاب 2014، ولا سيما خلال عامي 2016 و2018، التي حولت وسائل التواصل إلى نوع من أدوات النشر يتحمل أصحابها مسؤولية ما يُنشر فيها، وتتعرض للرقابة وللأحكام والقوانين المتعلقة بإساءة استخدام وسائل النشر، وقد تَعرَّض فعلًا العديد من النشطاء للاعتقال والسجن ودفع غرامات على هذا الأساس.

[8] Rasmus Kleis Nielsen & Richard Fletcher, “Democratic Creative Destruction? The Effect of a Changing Media Landscape on Democracy,” in: Nathaniel Persily & Joshua A. Tucker (eds.), Social Media and Democracy: The State of the Field, Prospects for Reform (Cambridge: Cambridge University Press, 2020), p. 145.

[9] Ibid., pp. 143-144.

[10] Ibid., pp. 152, 155.