تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فلسطين.. هل من أفق؟

*
2010-03-12

القضية الفلسطينية في المرحلة الراهنة

بعد حرب الخليج[1]

قد تسمّى المرحلة التي مرّت القضية الفلسطينية بها قبل حرب الخليج: ما بعد حرب لبنان، وقد نطلق عليها اسم: مرحلة الانتفاضة، فالحدثان أي حرب لبنان والانتفاضة، يرتبطان من دون شك ليحوّلا التسميات إلى موضوعة ثانوية. لكن من الأهمية بمكان أن نستوعب أن القضية الفلسطينية انتقلت إلى مرحلة جديدة ذات طبيعة أخرى بعد حرب الخليج. ولا ينجم ذلك عن الحرب بمفهومها الضيق، أي مجريات هذه الحرب ونتائجها العسكرية. فقد كانت أزمة الخليج مسرحًا لتفاعل وتشابك قوى دولية ومحلية، باتساع وكثافة قلّما نشهد مثلاً لهما في الأزمات والحروب الإقليمية، واعتُبرت نوعًا جديدًا من الحروب، لا من الناحية التكنولوجية فحسب، وإنما أيضًا من حيث تجسيدها لمنظومة عالمية كاملة تتورط بصورة فعالة على بقعة ضيقة من الأرض. كانت هذه حربًا إقليمية بتدخل أجنبي من حيث الشكل، لكنها كانت عالمية من حيث الجوهر.

ولم تنجم عالمية الحرب عن تقاطع المصالح العالمية فحسب (العالم = الغرب؛ المصالح العالمية = المصالح الغربية)، تلك المصالح الاقتصادية التي أعادت الاعتبار إلى المادية التاريخية بعد انهيار الأنظمة التي حولتها إلى دين رسمي، بل نجمت أيضًا عن الدور الهائل الذي تؤديه وسائل الاتصال في التكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي جعل المصلحة الاقتصادية والحرب كلتيهما أمرًا واحدًا وحاضرًا في كل بيت. إن المصلحة الاقتصادية المكشوفة والأقنعة الأخلاقية أو القومية أو الدينية يعملان بصورة متلازمة. من دون أن تختفي المصلحة وراء القناع، ومن دون أن يدّعي القناع تغطية المصلحة؛ عاملان مستقلان كل يقوم بدوره، القناع قناع لذاته، والمصلحة الاقتصادية سهلة على الهضم والاستيعاب من دون الحاجة إلى القناع.

عندما ازدان العلم العراقي بشعار "ألله أكبر"، وعندما صلى جورج بوش في كنيسة "سانت جونت"، اعتُبرت هاتان الخطوتان عاديتين ومقبولتين ومكملتين للصراع، من دون أن تنطلي اللعبة على أحد. المعركة علمانية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها لكن لا بأس في توريط السماء في لعبة إلى جانب اللعبة الأرضية، من دون أن يعتدي أحد على حدود الآخر.

لكن وسائل الاتصال الحديثة لم تعكس فقط ما يجري على أرض الواقع بصورة مقلوبة ومفضوحة في الوقت نفسه، بل قامت أيضًا بدور في المعركة ذاتها وبصورة لم يسبق لها مثيل، وطمست الحدود بين السلاح ووسيلة الاتصال. الأسلحة بحدَ ذاتها عبارة عن وسائل اتصال محوسبة. قوة الانفجار والطاقة التدميرية لا تنفصلان عن الدقة في تحديد الهدف وتخطيطه، وتحولت القنبلة إلى وسيلة اتصال، ونشأ مصطلح القنبلة الذكية. عندما كتب ماركس ما كتبه في "رأس المال" عن الصنمية fetishism التي تجعلنا نعزو إلى البضاعة وإلى المال صفات إنسانية، فإن مخيلته لم تصل إلى الصنمية الجديدة الناجمة عن تطور وحوسبة وسائل الاتصال والأسلحة.

لقد هزمت قوى الإنتاج الجديدة – الحاسوب والميكروشوب والثورة في وسائل الاتصال – المنظومة الاشتراكية من دون حرب على الإطلاق. وهي التكنولوجيا نفسها التي هزمت العراق من دون حرب برية، محوّلة الشوق إلى الحرب البرية إلى ضرب من الرومانسية يشبه شوق أرستقراطية أوروبا إلى الفروسية في الحرب العالمية الأولى. والتهديد بأنه لو وقعت الحرب البرية "لأريناهم!"، هو ضرب من الرجولة الشرقية التي حطمتها الحداثةُ كما حطمت الفروسيةَ الأوروبية. وتمني النفس بشكل آخر من أشكال الحروب ما هو إلاّ خداع للذات، لأن الحرب الحديثة هي الحرب التي وقعت ولا وجود بعدها لحرب أخرى على هذا النطاق. ومن يريد أن يحارب على المستوى الدولي فهذه هي الحرب: يخوضها طرف من دون مجازفة وطرف آخر من دون أمل؛ طرف تسقط ضحاياه نتيجة المصادفة وحوادث السير، وطرف آخر تسقط ضحاياه بالضرورة.

هناك نوعان من الحساب مع الدكتاتورية العراقية؛ الحساب الأول هو الحساب الجوهري، وسيقوم بتقديمه ضحايا هذه الدكتاتورية المباشرون من عراقيين عرب وأكراد، بشأن السياسة القمعية لهذا النظام؛ وفي ذلك لا يختلف الأمر عن حساب الأنظمة الأخرى في المنطقة. والحساب الثاني هو حساب ضحايا هذا النظام غير المباشرين، وهم شعوب العالم الثالث، وضمنها الفلسطينيون الذين ادّعت هذه القيادة تمثيل قضيتهم.

إن الادعاء بلاعقلانية القيادة العراقية وانعدام البراغماتية (الدهاء) لديها هو ادعاء عنصري وباطل من أساسه، ينطلق من تقسيم إمبريالي للعقليات في العالم إلى عقلية غربية عقلانية وبراغماتية، وعقلية شرقية تحركها محفزات عاطفية وقبلية. والواقع أن ما ميز القيادة العراقية هو التعامل مع الغرب بلغة الغرب، أي بلغة المصالح والقوة والبراغماتية.

وأخطأت القيادة العراقية في حساباتها؛ فهي لم تستوعب العالم الجديد الذي أرادت موطئ قدم فيه، ولم تدرك أن ليس[2] هنالك متسعًا تحت شمسين، بل مكان تحت شمس واحدة – وهو ما استوعبته القيادة السورية بسرعة فائقة. لم تدرك القيادة العراقية أن العالم لا يمر بمرحلة انتقالية، بل إنه موجود ما بعد الانتقال، وأن المنظومة الاشتراكية سابقاً هي جزء من النظام الرأسمالي العالمي لاحقاً، أو أنها تسعى جاهدة للانضمام إليه واللحاق به، وهو ما يجعلها أقل مبادرة وأقل قدرة على التحدي من عناصر معينة داخل النظام الرأسمالي العالمي، فهي ما زالت تسعى لتلبية شروط القبول في هذا النظام.

كما أخطأت القيادة العراقية في تقديرها لأهمية أوروبا الغربية كوحدة سياسية. فأوروبا الغربية كوحدة سياسية هي أسطورة الماضي، وهدف المستقبل. والعملاق الاقتصادي لم ينجب حتى الآن سوى قزم سياسي. ليس هنالك موقف أوروبي موحد من القضايا الدولية، بل هنالك ثلاثة أو أربعة مواقف أوروبية على الأقلّ. هنالك نزعات إلى تغيير مهم في المستقبل، لكنها ما زالت في طور التكوين.

وأخطأت القيادة العراقية في فهمها للخريطة السياسية العربية. فمراهنة العراق على عواطف وآمال وأحقاد الجماهير العربية لم تكن في مكانها، وإن كان الحقد على الولايات المتحدة والأنظمة الخليجية قد أدى إلى توجه الأنظار نحو العراق الذي "أنقذ الكرامة العربية" بتحدّيه الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي بنى بنية تحتية اقتصادية جعلته مفخرة للفقراء والمسحوقين من شعوب العالم العربي. لكن الجماهير خرجت إلى الشارع حيث لم يكن هنالك خطر من الخروج إلى الشارع، أي من خلال حلول وسط مع الأنظمة المحلية في الأردن وتونس والجزائر واليمن وحتى المغرب. أمّا حيث كان الخروج إلى الشارع ينطوي على مجازفة في مصر وسوريا والسعودية، وهي الدول الأساسية في التحالف الغربي، أي حيث دعت الحاجة إلى وجود قوة سياسية معارضة ومنظمة، فقد فضلت الجماهير البقاء في البيت ومراقبة المعركة من على شاشات التلفزة.

لقد أخطأ العراق في تقديره لأنه عندما دخل التحدي من أجل موطئ قدم في العالم الجديد، أو في المنطقة على الأقل، كانت المعارضة العربية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقد ساهم النظام العراقي بنفسه في تحطيم المعارضة العربية التي أراد استنفارها في هذه المعركة. وأظهرت التظاهرات الشعبية في الوطن العربي أملاً وإحباطًا ويأسًا وحقدًا وطموحًا... لكنها أثبتت في الوقت نفسه غياب المعارضة العربية التي دخلت الأزمة في جميع فروعها: القومية واليسار والإسلام السياسي. وتبيّن أن جميع هذه الحركات نخبوية وأن الجماهير تتوق إلى العدالة الاجتماعية وتتضامن عربيًا، ولم تتخلّ عن الإسلام. وتبيّن أيضًا أنه لم تنشأ بعد المعارضة الساعية نحو العدالة الاجتماعية من دون أن تكون اشتراكية ستالينية، ونحو الإسلامية من دون أن تكون سلفية، ونحو العربية من دون أن تفقد بُعديها الحضاري والاجتماعي.

وكما أن العراق أخطأ في تقديره لتبلور أوروبا كذات سياسية فعالة، أخطأ كذلك في تقويمه للعالم الثالث والعامل العربي والمعارضة العربية كذوات سياسية فعالة. لا توجد وحدة سياسية اسمها العالم الثالث، ولا وحدة سياسية اسمها العالم العربي، ولا وجود لوحدة سياسية تستحق تسمية المعارضة العربية أو حركة التحرر الوطني العربية؛ ولا شك في أن هنالك وجودًا موضوعيًا للعالم الثالث من خلال أوضاع اقتصادية/اجتماعية تجمع شعوبه ودوله في علاقاتها بالمراكز الصناعية الكبرى، بل تعتبر أزمة الخليج فاتحة دموية لصراعه المقبل مع المراكز الصناعية المتطورة، والذي قد يتحول إلى الصراع الأساسي في عالمنا. ولا شك في ان هنالك وجودًا موضوعيًا لعالم عربي تجمعه لغة وتاريخ وهموم مشتركة. لكن العالم الثالث لم يتحول إلى ذات سياسية فعالة على المسرح الدولي، وكذلك العالم العربي. وقد مثلت جامعة الدول العربية دائمًا وحدة أضداد بين الوحدة والانفصال، القومية والإقليمية. وتبيّن خلال أزمة الخليج أن الوحدة لا تصمد أمام تصعيد صراع أضدادها. ولا شك في أن هنالك قضايا مشتركة لتتبلور حولها معارضة عربية مثل توزيع الثروات وهموم الديمقراطية والعلمنة والتحديث في الوطن العربي وتحرير الأراضي العربية المحتلة، لكن المعارضة العربية غير موجودة كذات فاعلة في السياسة المحلية أو الدولية. هنالك معارضات عربية محلية عديدة، لكن لم تقم بعد المعارضة العربية التي تبلور هموم العالم العربي وتطرحها بصورة موحّدة. وقد أمل المتفائلون بأن تكون حرب الخليج فاتحة لطرح الموضوعات التي ستتبلور حولها السمات الأساسية المشتركة للمعارضات العربية، مثل توزيع الثروات والعلاقة بالغرب والقضية الفلسطينية. وصحيح أن الأسئلة طرحت، لكنها طرحت في السياق المغلوط فيه ومن قبل الطرف الخطأ. ومن نافل القول أنها لم تتلق الإجابة. فليس في استطاعة النظام العراقي الإجابة عن سؤال توزيع الثروات، وليست لديه مصداقية عند الحديث عن العدالة الاجتماعية. أمّا في شأن الديمقراطية، فمن الأفضل أن نلتزم الصمت.

لقد ارتكب النظام العراقي أخطاء عديدة: فقد أخطأ عندما اجتاح الكويت، وأخطأ عندما لم ينسحب في الوقت الملائم، وأخطأ عندما اعتقد أن الحرب لن تنشب، وأخطأ عندما اعتقد أن الحرب البرية لن تقع. ولكن هذه الأخطاء جميعها لا تعني أنه نظام لاعقلاني. بل هو نظام عقلاني براغماتي يفهم لغة القوة ويحاول إتقان التعامل معها من أجل أهدافه، كما يفهمها جميع طغاة العالم الثالث المدعومون من الغرب. فقد خلقوا في واقع الشرق على صورة الغرب وشاكلته. لكن جوهر الصراع مع النظام العراقي هو جوهر الصراع ذاته مع الأنظمة الأخرى، ومنها من شارك في التحالف الغربي ضد العراق، ومنها من تحالف مع العراق نفسه قبل وريطه في صراع مع الغرب لم يرغب فيه أساسًا.

التعبير المفتاح المستعمل بكثرة بعد حرب الخليج هو "النظام العالمي الجديد"؛ والمقصود، بطبيعة الحال وجود قوة عظمى واحدة أو معسكر واحد اقتصادي/سياسي بدلاً من معسكرين أو قوّتين. والاستنتاج الذي توصّل إليه كثيرون من المحللين السياسيين، هو أن على دول العالم أن تتكيف إزاء هذا الوضع الذي لا يسمح بتحقيق إنجازات عن طريق الحرب الإقليمية، كما كان عليه الأمر. ففي غياب حالة التوازن الدولي، أو "الانفراج" أو "التعايش"، أو "عناق الدبّين"، تجد القوى الواقعة على هامش المراكز الاقتصادية العالمية نفسها في حالة عناق مع دبّ واحد إذا حاولت التحدي. وبسرعة تحبس أنفاس المراقب، بدأت القوى التي استظلت بالتوازن الدولي بين المعسكرين التحرك بسرعة في محاولة لإيجاد موقع مضمون في "النظام العالمي الجديد"، كما فعلت سوريا وغيرها من الدول. ولا يجد هذا النظام الجديد صعوبة في استيعاب قوىً كانت تعتبر معادية في السابق، لأنه لم تكن لدى الدول الغربية في يوم من الأيام مشكلة مع طبيعة هذه القوى. وحالما تغيرت السياسة الخارجية تغير الموقف تمامًا؛ فالمعسكر الموالي للغرب اكتظّ بأنظمة من النوع نفسه، وببروقراطيات عسكرية من كل الأشكال والألوان. لقد كان الخطأ في تسمية الدول التي اعتبرها الغرب معادية له دولاً معادية للإمبريالية.

هل هنالك مكان للفلسطينيين في ما يسمى النظام العالمي الجديد؟
وأقصد: هل هنالك مكان لدولة فلسطينية في هذا النظام؟
يشغل هذا السؤال الكثيرين من الفلسطينيين. وقد حسمه البعض وبدأ، بقوة الاستمرار، العمل على إقناع الولايات المتحدة بأخلاقية ومصداقية الصراع مع إسرائيل، وراح البعض الآخر يقنع العالم بأن لدى الولايات المتحدة أخلاقية مزدوجة؛ فما فعلته في الكويت يجب أن تقوم به في فلسطين. إن هذا الطرح لا ينطلق من افتراض أن الولايات المتحدة طبقت الشرعية الدولية (مصطلح ليس له رديف في اللغات الأوروبية) في الخليج فحسب، بل إنه يسلّم أيضًا بما يلي: (1) إن الأخلاقية تحكم سياسة الولايات المتحدة (2) إن لدى الولايات المتحدة ازدواجًا في الأخلاقية. والافتراضات الثلاثة هي افتراضات مغلوط فيها، وأكثر إثارة للقلق هو افتراض الأخلاقية المزدوجة لأنه يظهر بمظهر توجيه النقد واللوم إلى الولايات المتحدة. وإذا كانت هنالك أخلاقية أمريكية في السياسة الخارجية فهي واحدة في الخليج وفي فلسطين، وهي تستند وتبرر المصالح الاقتصادية الغربية وامتياز الولايات المتحدة كمصدّر للقوة العسكرية وكحامٍ لهذه المصالح. والأخلاقية التي تدعم إسرائيل بلا قيد أو شرط هي نفسها التي بررت قصف العراق من دون قيود.

إن الإجابة عن السؤال بشأن مكان للفلسطينيين في العالم الجديد، يجب أن تتم على حلبة أخرى، وعلى صعيد آخر. فقد نستطيع أن نصرخ بأعلى صوتنا أن هنالك ازدواجية في الأخلاقية الأمريكية، ولن تكون النتيجة سوى رجع صدى صوتنا في أنحاء المعمورة كافة: إن هنالك أخلاقيّ في السياسة الأمريكية.

ملاحظات في شأن مشاريع الحلول

يدور نقاش في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة في شأن الوضع الفلسطيني بعد حرب الخليج: بنية منظمة التحرر الفلسطينية وديمقراطيتها الداخلية، وعملية اتخاذ القرار، وحتى مشاريع الحلول. وقد قامت وسائل الإعلام الإسرائيلية بالتعرض لهذا النقاش، واقتباس حيثياته بغزارة. ومن الواضح أن ما يهمّها هو ظاهرة النقاش أكثر من مضمونه، وخصوصًا عندما يتطرق إلى موضوع ديمقراطية المنظمة ومدى مصداقية تمثيلها للشعب الفلسطيني. والعريب أن تتحول التلفزة العربية الإسرائيلية مسرحًا لمثل هذه النقاشات، بل إن البعض يدعو إلى التقيد بقرارت القيادة الوطنية الوحدة من على شاشة هذه التفزة. فما الذي يجري؟

انطباعي الأول أن ما يميز انقاش الدائر حاليًا على الساحة الفلسطينية هو الاندفاع والتسرع أنفسهما اللذان ميّزا الموقف الفلسطيني من حرب الخليج. ومنذ انهيار المنظومة الاشتراكية تحول موضوع الديمقراطية إلى النقاش السائد لدى اليمين واليسار معًا، في الغرب وفي الشرق وفي العالم الثالث. حتى تحوّل هذا الموضوع إلى تقليعة دارجة، وتحولت الديمقراطية إلى علاج جاهز لكل داء، وأصبح غيابها مصدر الآفات كلّها.

ولن أعالج في هذه الدراسة تطور مفهوم الديمقراطية تاريخيًا، ولا موضوع العلاقة بينهما وبين درجة معينة من التطور الاقتصادي/الاجتماعي. كما لن أتطرق إلى موضوع العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية.

ما يهمّني في هذه الدراسة هو عدم التواضع الذي يميز أتباع تقليعة الديمقراطية. وعدا عن أن نقاشهم للديمقراطية الفلسطنية جاء متأخرًا بعض الشيء، فإن الموضوع ليس جديدًا لا في العالم الثالث ولا في العالم العربي. والديمقراطية كدواء شافٍ وجاهز لكل داء ليس اكتشافاً جديدًا، وطُرح في العالم العربي منذ لقائه الأول مع الاستعمار الغربي.

كل هذا لا يقلل من أهمية طرح الموضوع في مجتمعنا وحركتنا الوطنية ومؤسساتنا. لكن طرح الموضوع بالعمومية والتجريد اللذين يُطرح بهما هو هروب من تطبيق الديمقراطية، ويذكّر برفض التفرّد بالقرار، والمطالبة بإدخال الديمقراطية إلى مؤسسات المنظمة.. إلخ. هذه المقولات التي كانت تعاد كالطقوس الدينية في كل بيان يصدر عن فصيلين في منظمة التحرير منذ السبعينات، وكما هو معلوم لم يطبق أي فصيل من الفصائل في مؤسساته ما يدعو إليه، وكان هنالك دائمًا ثمن ملائم للتخلي عن الديمقراطية. إن تكرير مقولات مثل حرية التعبير والتعددية والتسامح لا يأتي بشيء جديد.

ويكمن التحدي في تحديد كيفية ارتباط هذه المفاهيم بالبنية الاقتصادية/الاجتماعية السائدة وبالمبنى السياسي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. هذا هو التحدي الأساسي. هل كُتبت علينا ديمقراطية الهند أو الأردن، أو حتى منظمة التحرير، أم علينا أن نشغل رؤوسنا بالتفكير لاستحداث أدوات تحليل تمكننا من فهم العلاقة بين القيم الديمقراطية والتركيب الاقتصادي/الاجتماعي لشعبنا ومبنى حركته التحررية؟ والبون الشاسع بين الكتابة عن الديمقراطية وممارستها يحتاج أيضًا إلى إيضاح.

ومن باب التجديد، تكاثرت في الأرض المحتلة الطروحات المتعلقة بمشاريع التسوية والحلول، وخصوصًا في الصحف القدسية. وكلما ازداد الواقع فقرًا ازداد النقاش غنىً. وكلّما قلّت المعطيات اللازمة للحل في الواقع ازدادت مشاريع الحلول. ولا غرابة في ذلك؛ فمنذ سنة 1967 يدور نقاش بشأن شروط التسوية بعد الهزيمة في مد وجزر يتلاءمان تلاؤمًا عكسيًا مع عوامل القوة العربية.

والواقع أن عملية طرح المراحل، والمراحل للوصول إلى المراحل، بدأت عند قيادات منظمة التحرير في الخارج. لكن الاجتهادات فاقت كل تصوّر داخل الأرض المحتلة بعد حرب الخليج – والواقع أننا لم نعد نفهم هل تقبل المنظمة، وهل يقبل مؤيدوها في الأرض المحتلة بأقلّ من المؤتمر الدولي، أو بأقلّ من تمثيل المنظمة، أو بأقلّ من ممثلين من القدس الشرقية؛ هل نقبل بأقلّ من الدولة، هل قُبلت "الأوتونوميا" كمرحلة، هل أصبحت هدفاً، هل أصبح "كامب ديفيد" مطلبًا وطنيًا؟

هنالك خطأ منهجيّ أساسي في طرح استراتيجية المراحل. منذ السلطة الوطنية القائلة بإقامة الدولة على أي جزء يتحرر، إلى القول بالدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى شعار الدولتين، ثم الحكم الذاتي في الطريق إلى الدولة. فمنذ أن برزت المعطيات التي تؤدي إلى برنامج الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان من المفروض أن يُطرح هذا كبرنامج وطني استراتيجي لا هو مرحلة ولا تقود إليه مراحل (ليس في البرنامج على الأقل)، وعلينا أن نقرر ماذا نريد؟

إذا كان الهدف هو الاستقلال، فعلينا أن نعمل من أجل الاستقلال. لم تحقق دولة من الدول استقلالها على مراحل. وإذا كانت الأوضاع الراهنة بعد حرب الخليج لا تسمح بقيام دولة فلسطينية في المستقبل المرئي، فهذا لا يعني أن نتوقع حلاً آخر، كما لا يعني أن نتوقف عن النضال ضد الاحتلال ومن أجل الاستقلال. وإذا لم تقم الدولة في جيلنا، فمن الواضح أن المعطيات ستتغير بالنضال وبغيره. وربما سنضطر في نهاية القرن العشرين إلى النضال من أجل إلغاء الأبارتهايد وإقامة الدولة العلمانية، أو ثنائية القومية.

إذا قررنا أننا نرفض الاحتلال فليس أمامنا سوى خيارين لا ثالث لهما: إما الاستقلال وإما المساواة. والمساواة تعني الدولة الديمقراطية العلمانية أو ثنائية القومية. وهنالك فارق بين أن تأخذ ما يُعرض عليك أو أن تحصل على إنجازات في الطريق نحو الهدف، وبين طرح المراحل جزءًا من برنامجك.

لا نهاية لنقاش المراحل. وإذا كانت موازين القوى السائدة لا تنجب دولة، فإنها لا تنجب مراحل نحو الدولة. وقد ثبت مؤخرًا أن إسرائيل ترفض حتى التنازل لتحقيق الحكم الذاتي. وإذا تنازلت فلنوع من "الأوتونوميا" يُعتبر حلاً نهائيًا بعد توريط الأردن والفلسطينيين في توقيعه من خلال معاهدة سلام، وبعد إخراج منظمة التحرير وفلسطينيين الشتات مما يسمى "العملية السلمية". وبعد أن تتحول قضية فلسطين إلى قضية "مناطق محتلة"، ثم "مناطق"، وبعد إخراج الأرض والماء والهواء من نطاق سلطة "الأوتونوميا".

ما تقبله إسرائيل في المرحلة الحالية، وهو ما تحاول الدبلوماسية الأمريكية جاهدة تحقيقه، هو الحصول على توقيع فلسطيني للوضع القائم، وهو أمر يجب ألاّ يُسمح به بأي حال من الأحوال ففي مقابل قبول الاحتلال لن نحصل إلاّ على الاحتلال ذاته.

لقد ارتكبت الحركة الوطنية الفلسطينية العديد من الأخطاء، خلال مسيرتها الطويلة. لكن الفلسطينيين ليسوا أغبى من الشعوب الأخرى التي حصلت على استقلالها في أوضاع أقل تعقيدًا. فقد أدخلتنا دوّامة الرأي العام والحوارات ونصائح اليسار الصهيوني في حلقة مفرغة من الجلد الذاتي. كانت نتيجتها، القناعة بأن المسألة كلها تتوقف على طرح مشاريع الحلول الصحيحة. وفي الواقع كثيرًا ما أخطأ الفلسطينيون في طرح البرنامج الملائم في الوقت الملائم.

ولكن الأمر في المرحلة الحالية لا يكمن في النقص في مشاريع الحلول. إن الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية تدرك جميعها أن الفلسطينيين يريدون التخلص من الاحتلال، وأن إسرائيل ترفض ترفض تصفية الاحتلال. وليست هنالك قوى محلية ودولية كافية لتفرض عليها ذلك. إن موازين القوى لا تفرز حلولاً نقبلها في المرحلة الراهنة (أي تشمل تصفية الاحتلال).

والإكثار من طرح المشاريع يعكس هذا الوضع، ويُحدث في الوقت نفسه أثرًا عكسيًا غير الأثر المرجوّ، وذلك للأسباب التالية: (1) إنه يُحدث ارتباكًا في الحركة الجماهيرية، وهي المكنوز الاستراتيجي الأساسي حاليًا؛ (2) إنه يشجع إسرائيل على المضيّ في رفضها وأوهامها بشأن إمكان الفصل بين "قضية المناطق" والقضية الفلسطينية. (3) إنه يشجع الخصم، إن كان الولايات المتحدة أو اليمين العربي الإسرائيلي أو إسرائيلي، على الاعتقاد أن لا حدود لإمكانات التراجع الفلسطيني – أي أنه كلما طال الانتظار تراجع الفلسطينيون؛ (4) إنه يشجع الفلسطينيين على الاعتقاد أن لا حدود للمراحل (إلى درجة اعتبار قبول الوضع القائم مرحلة).

وحتى لو سلّمنا بوجود موضوع أو حالة أو ذات تستحق تسمية "الرأي العام العالمي"، وحتى لو سلّمنا بكونه عاملاً سياسيًا فعّالاً على الساحة الدولية، من دون النظر في مركباته أو تفكيكها لإمعان النظر فيما وراء هذا المصطلح، فإن التراجعات في طرح المواقف المبدئية تعتبر غير جذرية، ولا تحظى بالمصداقية، ولا تحقق إنجازت تُذكر على هذا المستوى.

لقد حققت الانتفاضة الفلسطينية بقلبها معادلة المجرم والضحية إنجازات ملموسة على مستوى التعاطف العالمي، لكنها كانت عاجزة عن تحويل هذا التعاطف إلى تضامن. وبعد مرور أحد عشر شهرًا على اندلاع الانتفاضة، طرحت منظمة التحرير مبادرتها السلمية. وكان طرح هذه المبادرة صحيحًا وفي مكانه، لكن المبادرة لم تحقق إنجازات على مستوى التعاطف الدولي. وإذا كان القصد من طرح المبادرة تحديد ما نريده في برنامج سياسي فهذا أمر جيد، أمّا إذا كان القصد تحقيق إنجازات على مستوى الرأي العام العالمي فهذا لم يتم، بل حدث عكسه، ليس نتيجة للمبادرة، بل نتيجة لأحداث أخرى جرت في أوج النشاط الوطني الفلسطيني ولا يمكن اعتبار الفلسطينيين مسؤولين عنها. وأهمّ هذه الأحداث: انهيار المنظومة الاشتراكية في العام الذي تلا المبادرة السلمية الفلسطينية، وبدء الهجرة اليهودية الجماعية من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل، وأزمة وحرب الخليج وتكريس السيطرة الأمريكية على المنطقة بعد حرب الخليج، وزيادة قوة الإقليمية العربية في مقابل العامل القومي الذي استثمر عادة في القضية الفلسطينية.

ومنذ أن بدأ النظام العالمي بأكمله الانهيار، وتسارعت الأحداث الدولية، تتراجع القضية الفلسطينية باستمرار على جدول الأعمال الدولي. وفي مثل هذه الأوضاع، أمام عظمة الأحداث، وبعد أن حددنا ما نريد؛ لا قيمة للتراجع في المواقف، والتنازل لا يقابَل بالتنازل.

في مثل هذه الأوضاع علينا أن نتقن الانتظار والصمود، إلى حين تسنح فرص أفضل من أجل المبادرات الدبلوماسية.  لكن حتى ذلك الحين على العالم بأسره وخصوصًا الخصم، ألاّ يلتبس في فهم ما نريده. تُطرح المراحل عند بدء المفاوضات، ويتفق الطرفان على طبيعتها المرحلية، ولا معنى للمراحل في غير هذا السياق.

وكلما اقتنع الكثيرون من الفلسطينيين بنظرية الأخلاقية المزدوجة اقتنعوا بنظرية الضغط الأمريكي على إسرائيل؛ وهي نظرية ابتكرها اليسار الصهيوني وهو اليسار الوحيد في العالم الذي يعوّل على الولايات المتحدة لتقوم بإنجاز مهماته بدلاً عنه. والواضح أن الخيار الأمريكي في هذه الحالة هو بديل من الخيار الإسرائيلي، الذي يُلزم اليسار الصهيوني بالتحول إلى معارضة فعلية تُحدث شرخاً في المجتمع الإسرائيلي وتمزق قناع الوطنية الزائف، الذي يلبسه ويجعله يطرح "استيعاب الهجرة ومهمات قومية أخرى" موضوعات للإجماع الوطني. ويهرب اليسار الصهيوني من مهمّاته داخل المجتمع الإسرائيلي إلى الخيار الأمريكي، وإلى الحوار مع الفلسطينيين لتكون النتيجة ألاّ تقوم في إسرائيل معارضة فعلية مستعدة لدفع ثمن معارضتها الجذرية لسياسة السلطة وتجبر المجتمع الإسرائيلي على دفع الثمن، وأن تقلّ الأسباب التي تدعو إلى ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل، ويقع الفلسطينيون في دوامة تنازلات يؤدونها لليسار الصهيوني ولا يحصلون على مقابل لها.

غير أن نظرية الضغط الأمريكي على إسرائيل هي أيضاً نظرية عربية التقى من خلالها دائمًا اليمين العربي مع اليسار الصهيوني. ففي حالة اليمين العربي تعتبر السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مجرد خطأ؛ وعلى العرب أن يساعدوا الولايات المتحدة في فهم مصالحها الحقيقية في المنطقة وهي متوفرة عندهم وليس عند إسرائيل. وبموجب هذه النظرية هنالك عائقان أمام الولايات المتحدة لتفهم مصالحها ولتتفاهم مع العرب (كما كان الحال مع بريطانيا في الماضي): (1) "اللوبي اليهودي" في الولايات المتحدة؛ (2) الرفض العربي والغباء العربي في المجال الدبلوماسي. ومنذ عقود يحاول اليمين العربي التعامل مع هذين الموضوعين كمسلّمات، فما ازدادت الدبلوماسية العربية إلاّ غباءً وما ازداد "اللوبي اليهودي" إلاّ قوة.

والحقيقة أن الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط والدعم الامريكي الاستراتيجي لإسرائيل لا يستندان لا إلى قوة "اللوبي اليهودي" ولا إلى الغباء العربي في المجال الدبلوماسي (يقابله في هذه الحالة الدهاء الإسرائيلي). وأكثر من ذلك، فإن هذه المسلّمات تستند إلى فهم مقلوب للأسباب والنتائج. فقد ازدادت قوة "اللوبي اليهودي" في الولايات المتحدة نتيجة تصاعد اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أثبتت إسرائيل في حرب 1967 بصورة خاصة أنها حليف استراتيجي من نوع خاص ومن دون شك، أصبح لهذا "اللوبي" نفوذ وتأثير مستقلان، لكنه لم يتحول حتى الآن إلى محدد أساسي للسياسة الأمريكية، وما زال أحد إسقاطاتها. وليس لديّ شك في أنه إذا حدث تحوّل في السياسة الأمريكية نتيجة عدم إمكان حماية المصالح نفسها بالسياسة القديمة نفسها، فإن قوة "اللوبي اليهودي" ستنخفض أو تتلاءم مع السياسة الأمريكية. لقد تبنت المنظمات اليهودية الأمريكية سياسة الولايات المتحدة في كامب ديفيد، ولم تحدث أثرًا ملموسًا سنة 1956 عندما أمرت الولايات المتحدة إسرائيل بالانسحاب من سيناء. هل هنالك شك في أنه إذا أظهرت الولايات المتحدة جدية كافية في معالجة القضية الفلسطينية كالجدية التي أظهرتها بعد إدراكها للحاجة إلى ضم مصر إلى التحالف الغربي بعد حرب 1973، هل هنالك شك في أن المنظمات اليهودية ستقف إلى جانب الإدارة الأمريكية في قضايا عينية على الأقل، مثل وقف الاستيطان أو وقف العقوبات الجماعية..؟

إن الدهاء الدبلوماسي العربي الذي يحاول دق إسفين بين "اللوبي اليهودي" الإدارة الأمريكية، هو الوجه الآخر للغباء. والأكثر من ذلك والأهم، أنه يعبّر عن التبعية السائدة في علاقة اليمني العربي بالولايات المتحدة. وكما أن القضية ليست أخلاقية أو غير أخلاقية، أو ازدواجية أخلاقية الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، كذلك ليس الموضوع غباء أو دهاء دبلوماسيًا عربيًا، بقدر ما هو علاقة تبعية بين الأنظمة العربية الفاعلة في الصراع وبين الولايات المتحدة. وبعد حرب الخليج أصبحت علاقة التبعة شاملة ومطلقة، إلى درجة حوّلت الآمال بشأن محاولة ستقوم الولايات المتحدة بها للضغط على إسرائيل إرضاءً منها لحلفائها العرب بعد حرب الخليج، حولت هذه الآمال إلى سراب صحراوي.

والفلسطينيون، الذين لا يملكون القدرة على "دق إسفين" بين الولايات المتحدة وإسرائيل، تأثروا نتيجة هذه المسلمات بطريقة أخرى. فقد استنتج البعض أنه يستطيع التأثير مباشرة في "اللوبي اليهودي" القائم على أساس المصلحة المشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة، أو عن طريق مخاطبة أخلاقية الولايات المتحدة.

لا ضير من مخاطبة الرأي العام، ولا شك في الحاجة إلى مخاطبة جميع التنظيمات الحكومية وغير الحكومية، وليس هنالك معنىً للصبيانية التي تقاطع أي جزء من الرأي العام. علينا أن نتقن المخاطبة، وأن نحسن برمجة المعركة الإعلامية، لكن علينا أن ندرك حدودها، فهي إذا تحولت إلى استراتيجية (وحتى في هذا المجال ليس لدينا استراتيجية تخدمها الانتفاضة بدلاً من أن تكون هي في خدمة الانتفاضة)، خرجت من سياقها. المعركة الإعلامية والدعاية؛ نعم الدعاية من أجل قضية عادلة، هي أمر، والحوار وتقديم التنازل تلو التنازل من دون استعداد الطرف الآخر حتى للتفاوض، فذاك أمر آخر.

وفي مجال الإعلام والرأي العام، يغيب عن بالنا أمر لم يحظ بالاهتمام اللازم، وهو الاهتمام الإعلامي الغريب بالصراع العربي – الإسرائيلي. وفي الواقع لم تحظ أية قضية في العالم الثالث بما حظيت به القضية الفلسطنية به من تغطية إعلامية. ويقع الفلسطينيون غالبًا في وهم أن هذا هو أحد مصادر قوة القضية الوطنية الفلسطينية. والواقع أنه من مصادر قوتها وضعفها في الوقت ذاته. فالاهتمام الإعلامي بالقضية الفلسطينية ترافقه في الكثير من الأحيان مظاهر احتفالية وتحريضية تحول القضية الفلسطينية إلى قضية معنوية أو حتى نفسية، في صراع المثقف اليهودي الأوروبي أو الأمريكي المتوسط مع ذاته وهويته. إن الاهتمام الإعلامي بهذه القضية لا ينجم عن أهمية منطقة الشرق الأوسط، أو عن التعقيدات الهائلة لتطور القضية الفلسطينية (والإعلام يساهم في هذه التعقيدات) فحسب، بل ينجم إضافة إلى ذلك عن عاملين مهمّين: (1) إن القضية الفلسطينية هي من القضايا الكولونيالية القليلة التي بقيت من دون حل في الربع الأخير من القرن العشرين. (2) تشابك هذه القضية مع تعقيدات ولواحق المسألة اليهودية في أنحاء العالم كافة. في الحالة الأولى يعتبر الاهتمام الإعلامي مصدر قوة، أما في الحالة الثانية فهو مصدر ضعف، ولا يعبّر دائمًا ازدياد الاهتمام العالمي عن اقتراب الحل بل قد يعبر عن تعقيداته.

الانتفاضة

بدأ الحوار يدور بشأن وضع الانتفاضة الراهن ومستقبلها قبل أزمة الخليج، ثم جُمّد هذا الحوار طوال فترة الحرب، وعاد بعد الحرب ليحتل المكان الأول في جدول الأعمال الفلسطيني إلى جانب موضوع الدبلوماسية الأمريكية بعد الحرب. وقد طرح النقاش في حينه مسائل عديدة منها: مظاهر الرتابة والجمود وانعدام العمل الخلاّق في ابتكار الوسائل النضالية؛ بنية الانتفاضة؛ مظاهر التسيّب في التعامل مع الجماهير؛ كيفية المحافظة على استمرارية الانتفاضة. كما تناول النقاش موضوع "العلاقة بين الداخل والخارج"، ومؤخرًا موضوع الديمقراطية الفلسطينية وممارستها.

في تلك المرحلة، أي قبل أزمة الخليج، بدا أن الانتفاضة في أزمة، وخصوصًا بعد أن توقف الحوار الأميركي – الفلسطيني وبدأت حملة تحريض ضد الفلسطينيين، وكانت حملة شبه رسمية في مصر. وتبين أن الولايات المتحدة ومصر تدفعان في اتجاه إخراج منظمة التحرير مما سمّي "العملية السلمية". في هذه المرحلة أيضاً، تفككت حكومة التكتل القومي في إسرائيل، وأخفق حزب العمل في تأليف الحكمة، وانتهى الأمر إلى الحكومة برئاسة شمير وبائتلاف حزب الليكود مع الأحزاب التي تقع إلى يمينه في الخريطة السياسية الإسرائيلية.

وقام وزير الدفاع الليكودي، موشيه آرنس، باتباع ما بدا منه أنه تكتيك جديد في قمع الانتفاضة، تجلى بإغلاق الأراضي المحتلة لفترات متواصلة، وإجبار العاملين في إسرائيل من سكان الضفة والقطاع على الحصول على تصاريح بأنواع مختلفة للوصل إلى أماكن عملهم في إسرائيل. كما جرت محاولة قصيرة لتخفيف الوجود العسكري في بعض القرى، وتمّ فتح بعض الجامعات الفلسطينية (بيت لحم والخليل)، واتضح أن التكتيك الإسرائيلي يرمي إلى جانب الفصل بين الداخل والخارج، إلى شق الصفوف في الداخل عن طريق إبعاد كوادر الانتفاضة عن جماهيرها.

ومنذ بدء الانتفاضة، طرحت على الساحة الفلسطينية في الداخل عدة أفكار تتعلق بكيفية تصعيدها والوصول بها إلى حالة العصيان المدني، من دون أن يكون هنالك مفهوم لمعنى العصيان المدني في أية مرحلة يبدأ، وهل هو ممكن، وكيف يستنبط العصيان المدني من العلاقة بين هدف الانتفاضة ومعطياتها الموضوعية؟ كما نشر الكثير عن البعد الجماهيري للانتفاضة وأهميته، ودور اللجان الشعبية في بدايتها، وقضية التعليم البديل. أي أن النقاش دار في شأن مجمل جوانب حياة المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة. ولن أتطرق في هذه الدراسة إلى هذه الجوانب بالتفصيل، لكني أودّ أن أشيرإلى أن حقيقة مناقشة هذه القضايا تدلّ على أن الانتفاضة كانت ما زالت أشمل من أن تكون مجرد حدث تاريخي في حياة الشعب الفلسطيني، بل تحوّلت لتصبح مجرى حياة هذا الشعب في ظل الاحتلال. وهذا يعني أن هنالك أمورًا يجب أن تعالج، ولا يمكن تأجيلها إلى ما بعد الانتفاضة؛ فالانتفاضة ليست حدثاً ينتهي وتتفرغ بعده لمعالجة الموضوعات الحياتية، بل هي الموضوعات الحياتية ذاتها.

ونحن نميل إلى نسيان هذه الحقيقة لدى مناقشة دور الانتفاضة السياسي، فنعود عند ذلك إلى التعامل معها كحدث سياسي، مثل حرب تجري بين خصمين وتنتهي بانتصار أحدهما وهزيمة الآخر خلال فترة محددة. وتتعدى المسألة في هذه الحالة مجرد التسميات؛ فاعتبار الانتفاضة حدثاً من هذا النوع، حرب حجارة أو ثورة شعبية مثلاً، أدّى إلى حسابات مبكرة للربح والخسارة وإلى التصعيد والتكثيف للوصول إلى الأهداف المرجوّة بأقصى سرعة ممكنة، دولة فلسطينية خلال عام أو عامين مثلاً. ولم يتوقف الأمر عند خيبة الأمل والإحباط لدى صانعي القرار عندما لم تتحقق هذه الاهداف، كما لم يتوقف الأمر عند تحميل الانتفاضة أكثر مما تحمل، وإجهاد كوادرها وجماهيرها؛ بل تعدى كل ذلك إلى الارتباك السياسي والتأرجح بين طرح مشاريع تعتبر تراجعًا عن المبادرة السلمية الفلسطينية، وبين اللجوء من جديد إلى عوامل القوة العربية والمراهنة على النظام العراقي وعلى ربطه لقضية الكويت بالقضية الفلسطينية، أو حتى على تحقيقه لإنجازات عسكرية فعلية على أرض الواقع بتوجيه ضربات موجعة لإسرائيل.

لا تُحسب قيمة الانتفاضة الاستراتيجية للشعب الفلسطيني وحركته التحررية بمدى قدرتها على تحقيق الاستقلال في أقصر مدة ممكنة. وبالقدر الذي تبين فيه خلال فترة وجيزة أن الانتفاضة لا تستطيع هزم إسرائيل اقتصاديًا بصورة مباشرة، وبمجرد مقاطعة البضائع الإسرائيلية، أو تعطيل العمل في بعض المنشآت الخدماتية أو حتى الإنتاجية الإسرائيلية، أو عن طريق إجبار إسرائيل على زيادة نفقاتها العسكرية في الأراضي المحتلة، تبين أيضاً أن الانتفاضة غير قادرة على هزم إسرائل في ساعة حسم، أو حتى سنة حسم.

عند ذلك اتضح أن قيمة الانتفاضة تكمن في جعلها الاحتلال مشروعًا خاسرًا، على الرغم من عدم تمكنها من تحديد قدرة إسرائيل على تحمل هذه الخسارة. واتضح أيضًا أن قيمة الانتفاضة تكمن في تفعيل عوامل أخرى، دولية وإقليمية ومحايدة، تقوم بتحديد قدرة إسرائيل على مواصلة الاحتلال وقمع الانتفاضة.

حققت الانتفاضة العديد من الإنجازات على المستويات الثلاثة، وقدقام الكثيرون من الباحثين الفلسطينيين والإرائيليين والغربيين بتحديدها. لكن عدم تطوير هذه الإنجازات إلى درجة محاصرة الخصم، أو فرض عقوبات عليه، لم يرتبط بتطور الانتفاضة أو تصعيدها في الدرجة الأولى، بل بعوامل دولية وأحداث تاريخية أنف ذكرها. والحقيقة أن المرء لا يستطيع تجنب رؤية المفارقة التاريخية أو تجاهلها. فعندما وصل النضال الفلسطيني إلى أوجه في المرة الأولى خلال ثورة 1936-1939 وقعت الحرب العالمية الثانية وكارثة يهود أوروبا. وفي المرة الثانية وفي أوج انتفاضة الفلسطنيين انهار المعسكر الاشتراكي وانفكت عزلة إسرائيل الدبلومساية، وباشرت إسرائيل توسيع علاقاتها الاقتصادية بدول هذا المعسكر، ثم تتالت موجات الهجرة اليهودية الجماعية إلى إسرائيل. وفي هذه الفترة تفجرت أزمة الخليج إلى حرب ضروس كرّست الهيمنة الأميركية على المنطقة، وقزّمت أوروبا كعامل سياسيّ كان الفلسطينيون يراهنون عليه، وبدأت إسرائيل محاولة لابتزاز امتيازات جديدة في الغرب لأنها ساهمت في تشكل التحالف الغربي بعدم انضمامها إليه. وبدا أن إسرائيل تحصل على مقابل من الغرب عند الحاجة إليها وعند عدم الحاجة إليها.

في هذه الأوضاع كان على الانتفاضة الفلسطينية أن تلعق جراحها، وأن تستمرّ. وحتى بعد أن حاولت إسرائيل خلق فاصل زمني في استمراريتها من خلال منع تجول فريد في التاريخ فُرض على شعب كامل لأكثر من شهر – حتى بعد ذلك استمرت الانتفاضة. وهنا يكمن الإنجاز الهائل والتناقض الأساسي في الوقت نفسه؛ ف في الوقت الذي تعمل الكوادر السياسية بناءً على جدول أعمال أميركي – أوروبي، ترفض الانتفاضة الشعبية العمل بناءً على هذا الجدول.

كان من المفروض أن يتمّ استثمار الانتفاضة عربيًا، ولم يتمّ ذلك إلاّ لتقوية مواقع منظمة التحرير في مؤتمرات القمّة العربية، في الجزائر وبدرجة أقلّ في بغداد. ولم يكن ذلك خطأ المنظمة فحسب، بل إنه نجم أيضاً عن عدم وجود معارضة عربية تستطيع استثمار الانتفاضة التي أثبتت أن لها موقعًا متميزًا وملهبًا للجماهير في العالم العربي.

بعد أن تبين كل ذلك، على حركة التحرر الوطني الفلسطيني أن تقف وقفة تفكير مليّ في شأن العلاقة بين طبيعة الانتفاضة ودورها السياسي واستخلاص النتائج فيما يتعلق بكيفية استمراريتها.

تعني الانتفاضة في هذه المرحلة، في الدرجة الأولى رفض تطبيع الاحتلال، أو المحافظة على حالة غير طبيعية للاحتلال وهذا يعني أن الانتفاضة حالة وليست حدثاً، حالة جاهزة للتصعيد الدراماتيكي عندما تنشأ الأوضاع الملائمة لذلك. وكي تستمرّ هذه الحالة، يجب أن تتوفر لها مقوّمات الاستمرار إلى أن ينشأ الوضع الدولي والإقليمي الذي يمكّن من بدء مفاوضات تنتهي بتصفية الاحتلال.

وتُستشفّ مقوّمات الاستمرار بعد فحص مكامن القوّة ومكامن الضعف في الانتفاضة.

إن أهمّ ما يميز الانتفاضة من عناصر القوة هو: (1) جماهيرية الانتفاضة وشعبيتها؛ (2) شمولية الانتفاضة كحالة تلازم نواحي الحياة الفلسطينية كافة؛ (3) الصدامية مع الاحتلال، ورفض الوضع القائم والوضوح في هدف التخلص من الاحتلال؛ (4) تسييس الجماهير الفلسطينية في الداخل ونشوء جيل جديد فولذته عملية الصدام مع الاحتلال؛ (5) وجود برنامج سياسي واضح تتبناه الانتفاضة منذ الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني.

أما أهمّ نقاط الضعف للانتفاضة، والتي قد تهدد استمراريتها فهي: (1) عدم توفر بنية تحتية قطرية منظمة للانتفاضة؛ (2) عدم توفر توازن بين المبادرة المحلية والمصلحة القومية في العمل الانتفاضي؛ (3) عدم قيام قيادة علنية في الأرض المحتلة تتمتع باحترام أغلبية الشعب الفلسطيني وتكون جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية؛ (4) حالة التسيب في عملية اتخاذ القرار بشأن كيفية التعامل مع الجماهير والأساليب التي يجب اتباعها لتجنيد كل فئات الشعب في العمل الانتفاضي؛ (5) عدم توفر رؤية اجتماعية شاملة، أو حتى عقد اجتماعي ينظم مجالات الحياة الاقتصادية والتربوية والصحية والحقوقية (الفصل في النزاعات الداخلية).

فيما عدا الجو الانتفاضي غير المحدد بطبيعته، ما زال الإضراب العام رمز الانتفاضة الأساسي والعملية الوحيدة ذات الطابع القطري، أي التي تجمع بين جماهير الضفة والقطاع في خطوة سياسية واحدة. وعلى الرغم من أن هنالك شكًا في مدى إضرار الإضراب العام بالاحتلال مباشرة، فإنه ضروري للمحافظة على الانتفاضة وقد أدركت القيادة الموحدة، في الفترة الأخيرة، أن قيمة الإضراب العام قيمة سياسية ومعنوية، وقد يحدث أثرًا عكسيًا في حالة تكراره بصورة مبالغ فيها خلال فترة قصيرة. لذلك قلّت أيام الإضراب التي تحدد في مناشيرها. ويغلب الطابع المحلي على المواجهات والأعمال الأخرى التي تنفذها مجموعات الشباب في الانتفاضة، في مقابل قمع احتلال أصبح أكثر تمرّسًا في المبادرة والردّ.

ولقد كانت العقوبة ظاهرة قوة في الانتفاضة، وكانت تحمل في البداية طابعًا تقدميًا كما هو الأمر في كل الانطلاقات الشعبية العنيفة التي تجلب معها قيمًا جديدة وخروجًا عن المألوف، بما في ذلك في القضايا الاجتماعية. لكن، بعد أن اتضح أن الانتفاضة ليست حدثًا جماهيريًا بل حالة متواصلة، وبعد أن بدأت إسرائيل هجومها المضادّ بالعقوبات الجماعية لجعل الانتفاضة مكلفة من الناحية المعيشية في جميع المجالات الاقتصادية والتعليمية والصحية.. إلخ. عندها بدأت الانتفاضة بالمراوحة، وغابت ألوان الانطلاقة الزاهية في رمادية الصمود والانكفاء على الذات وتضميد الجروح والبحث عن المألوف والمحافظ والمشترك والتقليدي. أصبح العمل العفوي ذا طابع رجعيّ تحركه دوافع نبيلة ومفهومة مثل المرارة نتجية القمع الإسرائيلي والنقمة على المتعاونين مع الاحتلال، لكنه لا يتجاوب مع طبيعة المرحلة، وهي مرحلة تحتاج إلى عمل منظم ومدروس. لقد انتهت الانطلاقة وأصبحت الانتفاضة حياة كاملة لشعب كامل في ظل احتلال تضاعفت قمعيته.

والعقبة الأساسية أمام بناء أساس تنظيمي متين للانتفاضة، كانت وما زالت، عدم وجود تكامل بين قيادات سياسية على المستوى القطري وكوادر محلية وبين قيادرة المنظمة وأجهزتها في الخارج.

ليس النقاش في شأن هذا الموضوع نوعًا من الترف الفكري، بل أصبح ضرورة حياتية لاستمرار الانتفاضة. وما تعتبره الصحافة العربية قيادة سياسية هو في الواقع وجه الانتفاضة الإعلامي. وقد يصلح قسم منها ليكون جزءًا من قيادة سياسية فعلية، لكن هذا نقاش آخر.

"العلاقة بين الخارج والداخل" علاقة غير منظمة، وغير متفق على طبيعتها، كما أنها تتم عبر قنوات مختلفة تعيد إنتاج خلافات الخارج وعناوينها المتعددة في الداخل، الأمر الذي يساهم بدوره في منع إفراز قيادة محلية، لا لغرض التفاوض بل لغرض توجيه الانتفاضة سياسيًا واتخاذ القرار في قضايا حياتية ومعيشية لا يمكن تركها موضوعًا للاحتكام أمام فوضى الدكاكين المتعددة.

لم يرتفع في الأراضي المحتلة منذ بداية الانتفاضة صوت يدعو إلى قيادة بديلة من المنظمة، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية كافة. لكن على المنظمة بالتعاون مع الحركة الوطنية في الداخل – وهي جزء مهم وحيوي منها – ان تعمل كل ما في وسعها كي يقوم نوع من القيادة المحلية يحوز ثقة الجماهير.

إن المجتمع لا يحتمل الفراغ. وفي حالة غياب القيادة الوطنية القادرة على اتخاذ القرار، وعندما يتدهور الوضع في إحدى القرى والمدن الفلسطينية إلى حالة خصام ونزاع دموي بين الفصائل أو بين العشائر، تعود العشائرية إلى احتلال مكانتها المرموقة لفضّ الخلافات بين الناس. وعندما تحدث تجاوزات من قبل كوادر انتفاضية، بفرض قرار على الجماهير لم يدرسه أحد ولم يقرّه أحد، عند ذلك يُملأ الفراغ بنقمة تعبّأ في اتجاه عكس الاتجاه المرغوب فيه.

في هذا الجو العام علينا أن نسيّر شؤوننا الصحية والتعليمية والاقتصادية وغيرها في ظل الانتفاضة. ولن يكون الاستمرار في ذلك بصورة سليمة من دون أن تحصل هذه المجالات على استقلالية نسبية في التخطيط والبرمجة، ضمن خطة وطنية وعقد اجتماعي شامل. ويجب يقوم بالتخطيط أخصائيون، لا ممثلو فصائل سياسية لكونهم ممثلين عن هذه الفصائل.

إن أهم ما يثير قلق الجماهير في الداخل هو الوضع الاقتصادي في الضفة والقطاع نتيجة انقطاع الموارد من القوى الفلسطينية العاملة في الخليج، وانخفاض معدلات العمالة الفلسطينية في إسرائيل.  والسبب الثاني ناجم عن سياسة إسرائيلية مدروسة لقلب المعادلة وجعل الانتفاضة مكلفة للمجتمع الفلسطيني أكثر من كونها مكلفة لإسرائيل، وميكانيكيات تطبيق هذه السياسة هي العقوبات الجماعية وإغلاق المناطق المحتلة وسياسة التصاريح.

وقد انخفض مستوى معيشة الفلسطينيين في ظل الانتفاضة. لكن تأثير الانتفاضة في الاقتصاد الفلسطيني لا يقاس بهذا المقياس وحده، لأن الأوضاع الاقتصادية المتردية قد تتحول إلى عامل أساسي يدفعنا إلى التفكير لأول مرّة في تاريخنا في اقتصادنا الوطني وتنميته.

أدّت مقاطعة ما يمكن مقاطعته من البضائع الإسرائيلية إلى قيام قطاع إنتاجي فلسطيني، أو توسيع للقطاع الإنتاجي القائم. لكن علمية المقاطعة اكتسبت معناها الحقيقي عندما تبيّن أن هذا هو إنجازها. فتوسيع الإنتاج الفلسطيني يؤدي إلى شراء البضائع من إسرائيل بصورة غير مباشرة. وبدل أن يقوم المستهلك بشراء البضائع الإسرائيلية يقوم المنتج الفلسطيني بذلك، فهو يعمل بمواد خام تنتج أو تستورد في إسرائيل، ويدفع الضرائب لإسرائيل، ويحصل على التصاريح لتوزيع بضاعته، من إسرائيل.

هذه هي أوضاع الصناعة والزراعة الفلسطينية. وفي مثل هذه الأوضاع يحتاج التخطيط للاقتصاد إلى وضوح في الهدف وإلى اقتصاديين ورجال أعمال يرون الهدف جزءًا من مجمل النضال الوطني الفلسطيني.

عندما تبيّن أن التصعيد حتى العصيان المدني غير ممكن، وعندما فشلت محاولة مقاطعة دفع الضرائب لسبب واحد هو أن هذه المحاولات تعني شلّ الاقتصاد الفلسطيني، وهو أمر ممكن عندما تلوح الدولة في الأفق أو عشيّة الاستقلال، عندما تبيّن ذلك، وعاد الناس إلى دفع الضرائب بالتدريج، وتحولت مقاطعة البضائع إلى مقاطعة للبضائع ذات البديل الفلسطيني، وعادت القطاعات الإنتاجية الفلسطينية للعمل، برزت تحديات جدّية وعراقيل تضعها إسرائيل أمام تطور الزراعة والصناعة، تحتاج إلى سياسة لمجابتها تشمل فيما تشمل توريط المجتمع الدولي في هذه المواجهة عن طريق الاستثمار في القطاعات الإنتاجية لا الخيرية أو الإنسانية فحسب.

ليس لدى الفلسطينيين في المرحلة الراهنة سياسة اقتصادية. هنالك حاجة ماسة إلى رقابة على جودة الإنتاج ومحاسبة المنتج على نوعية البضاعة التي يعرضها في الأسواق مستغلاً اضطرار الجمهور إلى شرائها لأسباب سياسية. هنالك حاجة ماسّة إلى التخطيط لقطاعات إنتاجية جديدة، فأيّ عدد من مصانع المشروبات الخفيفة يلزم في الضفة والقطاع، وما هي أفضل الوسائل لتنمية الزراعة وتصنيعها؟ هنالك إمكانيات، حتى في ظل الاحتلال، لتخطيط اقتصاديّ يبدأ بسياسة الاستثمار والتسويق ويتعداها إلى التنمية بصورة عامّة. ويصل حتى إلى علاقات العمل.

ملاحظة ختامية

إن الحفاظ على استمرارية الانتفاضة يبقي القضية الفلسطينية حيّة حتى في مثل هذه الأحوال. هذه القضية تجعل النقاش في الأراضي المحتلة بشأن مقابلة أو مقاطعة بيكر وجدوى كلا الموقفين نقاشًا جانبيًا. لأنه وفي الأوضاع القائمة حاليًا في المنطقة والعالم لا تتوفر حلول للقضية الفلسطينية يمكن أن تشمل تصفية الاحتلال.

ونتيجة موقف سوريا غير المتسرع في البحث عن حلول من دون وعد أمريكي بشان إمكان انسحاب إسرائيلي من هضبة الجولان، سيكون من الصعب على الأردن دخول مفاوضات ليس لدى إسرائيل ما تقدمه فيها للأردن، وليس لدى الأردن ما يقدمه لإسرائيل إلاّ إذا منحناه توكيلاً فلسطينيًا بالتحدث باسمنا.

من الخطأ في مثل هذه الأوضاع أن تقوم منظمة التحرير بالتخلي عن دورها، أو أن تقدم تنازلات أبعد من المبادرة الفلسطينية السلمية. إن التنسيق مع الاردن أصبح ضرورة، خصوصًا بعد قراره فك الارتباط وموقفه خلال أزمة الخليج. كما أن المصالحة مع سوريا ضرورة قصوى، لأن الموقف السوري غير المتسرع هو ضمان أساسي لعدم نجاح بيكر في فرض شروط إسرائيل على العرب.

-------------------------

المراجع

  • [1]- حرب الخليج الثانية (2/8/1990 إلى 28/2/1991).
  • [2]- أضيفت كلمة ("ليس")، لاعتقادنا بأنها أسقطت سهوًا في الأصل. مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد (6) ربيع 1991