تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عن المثقّف والثّورة*

*
2013-06-01

لا تتوخّى هذه المقالة أن تكون بحثًا سوسيولوجيًّا أو تاريخيًّا شاملًا في موضوع المثقّفين والثورات، بل هي مقالة فكريّة مفهوميّة الطبع تنتج المعرفة عبر النقد كما عبر التمييز والتفريق في المصطلحات، لغويًّا ومفهوميًّا وتاريخيًّا: "المثقّف"، "الانتلجنسي"، "المثقّف العضوي"، وأخيرًا "المثقّف العمومي" الذي يتمّ التركيز على ثقافته العامّة التي تتجاوز الاختصاص مع كونه مثقّفًا عموميًّا في الوقت ذاته، أي متفاعلًا مباشرةً مع المجال العمومي وقضايا المجتمع والدولة.

بيد أنّ رحلة التمييز والتفريق لا تتوقّف هنا، بل تتواصل لترسم الحدود بين المثقّف والعامل في مجالٍ معرفي يستثمر فيه نشاطه الذهني أساسًا، والأكاديمي المنهمك في اختصاصه وحده، والفاعل الاجتماعي الذي يُعْنى بشؤونٍ عديدة دون فقه مجال واحد في العمق، وصولًا إلى التمييز بين المثقّف وبقيّة أفراد المجتمع.

هكذا، تتوصّل المقالة، عبر ضروب التمييز ونقد بعض الرؤى، إلى ما تعدّه العلّة وراء اكتساب صفة المثقّف، وهي القدرة على اتّخاذ المواقف استنادًا إلى قاعدة معرفيّة تمكّن من التوصّل إلى أحكامٍ قيميّة أو معياريّة. وبذلك تُعاد الأهمّية إلى الأدوات النظريّة، وإلى النظريّة التي هي، في معناها الهيغلي وبحكم تعريفها، نفي الواقع وإشارةٌ إلى إمكاناته الكامنة.

ويُجلى الربط بين المثقّف والثورة، مزيدًا من الجلاء عبر الإشارة العيانيّة إلى افتقاد المقالة في الثورات العربيّة كلًّا من المثقّف الثوري الذي يحافظ على مسافةٍ نقديّة ليس من النظام فحسب بل من الثورة أيضًا، والمثقّف المحافظ القادر على أن يشرح ضرورة الحفاظ على النظام وإمكانات التغيير القائمة فيه والحكمة التي تنطوي عليها الدولة وتقاليدها. وذلك قبل التمعّن في ضروب المثقّفين بحسب مواقفهم من الثورة، وفي مهمّة المثقّف الثوري التي لا تنتهي مع تفجّر الثورة بل تصبح أعقدَ وأهمّ بالغةً ذروتها في صوغ البدائل من الوضع القائم بعد الثورة.


ملاحظة تاريخية

                    
لا يرجع الباحثون عمومًا إلى دور الفقهاء والعلماء في عصور الخلافة والسلطنات والإمارات التي سُمّيت دولًا إسلاميّة على أنواعها، لرصد تحوّلات دور المثقّف والسلطة في تراثنا. فغالبًا ما يُبحَث سلوكُ العلماء والأئمّة والفقهاء تجاه السلطان، بين من يحضُّه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن يبرّر له منكرَه في سياق فهم دور المؤسّسة الدينيّة وتاريخها حتى عصرِنا. ويعالج بعض الباحثين هذا الأمر في سياق تأصيل ما يسمّى بـ"الإسلام السياسي"، أو حتى في التأصيل لتاريخ الاحتجاج في الإسلام. والحقيقة أنَّ في هذا الأمر اختزالًا لأنَّ جزءًا من دور ما سُمّي في حينه "العلماء" و"أهل العلم"، وإن كان المقصود إليه تمييز المختصين بالفقه والعلوم الشرعية، هو الدور العمومي المرتبط بنقد المجتمع والسلطان خلف مقولة "قولة حقٍّ عند سلطانٍ جائر"، والذي يرتبط بما نسمّيه اليوم دور المثقّف؛ وهو دورٌ اضطلع به عددٌ قليل من العلماء والفقهاء، ولكنهم مع ذلك كانوا أكثر عددًا ممّن اضطلعوا به من بين الكتّاب والشعراء في التاريخ الإسلامي. ففي ذلك السياق لم يتمتع الشعراء والعاملون في فروع اللغة والبلاغة والتراجم والسّير على أنواعهم بالسلطة الشرعيَّة أو الضميرية لنقد الأوضاع القائمة. وراوحت علاقة الشعراء منهم بشكلٍ خاصّ بالسلطة بين المدح والهجاء تبعًا للمصلحة، أو العنفوان الشخصي والعشائري، أو العصبية المذهبية، لا بصفةِ كون الواحد من هؤلاء شاعرًا أو أديبًا صاحب سلطةٍ معنويّةٍ أو أخلاقيّة. هؤلاء من يصعب تسميتهم اليوم "العلمانيين" laity (أي من ليسوا من رجال دين) نتيجةً لحمولة المصطلح الأيديولوجية. ولكن كان هذا هو المعنى الأصلي لصفة "العلمانيّ" حين تلصق بشخصٍ في الثقافة المسيحية، أي مَن ليسوا رجال دين.

هنالك استثناءات كبرى بالطبع، كحالة ابن المقفع وأبي العلاء المعري وابن رشد (وغالبًا ما يغفل أنه كان فقيهًا وقاضيًا) وأبي حيان التوحيدي وعبد القاهر الجرجاني صاحب دلائل الإعجازالذي نقد الوصولية والانتهازية وانحطاط القيم[1]، وما قام به هؤلاء من دورٍ في عصرهم. وكنت سأضيف ابن حزم وابن تيمية، لكونهما تجاوزا، هما أيضًا، مجال "اختصاصهما" الشرعي (علمًا أنّ "الاختصاص" مفردة من سياقنا الحاضر ونستخدمها هنا مجازًا) للإحاطة بعلوم عصرهما بما فيها "الدنيوية". فقد كانا معارفيّين، أي متعدّدَي المعارف يبحثان في الفقه والمنطق والبلاغة والتاريخ وأسئلة الوجود. ولم يكن الديني في كينونته منفصلًا لديهما عن الدنيوي، بل اتّخذا مواقفَ من الشؤون العامّة في بلادهما.
ثمّة تقليدٌ بحثي يميّز كاتب السلطان من الفقيه كأصل تراثي للتمييز بين المثقّف العلماني والكهنوت. ولا أتّفق مع هذا التقليد، ولا مع هذا التقسيم الذي يفرض مفاهيم الحاضر على الماضي، ولا يأخذ في الاعتبار فقهاء وقضاةً أمثال ابن حزم وابن تيمية وابن رشد ممّن تمتعوا بثقافةٍ تتجاوز العلوم الشرعية.
الأمر برمّته يحتاج إلى مراجعة، فمن الخطأ اختزال تاريخ العلماء والفقهاء في الإسلام في تاريخ المؤسّسة الدينيّة، فهو إلى حدٍّ بعيد تاريخ دور المثقّفين في الحضارة الإسلاميّة الذي لم يكن أقلّ من دور كتّاب السلاطين من ناحية دورهم الثقافي تحديدًا. هذا صحيح، حتى  لو وافقنا - وأنا أوافق فعلًا - على أنَّ لفظ المثقّف بالعربيّة غير مشتقّ من تلك المرحلة[2]، بل هو مترجم في عصرنا. ولكن المصطلح المترجم، لا يصبح مفهومًا إلا إذا أخذ في الاعتبار الظواهر المحيطة به والتي لا يفسّرها، وإذا لم يميّز الظواهر التي يفسّرها من تلك الشبيهة أو القريبة من تلك التي يفسّرها.

المصطلح مترجم من القرن التاسع عشر الأوروبي، وبالتحديد من مصطلحات مثل intellectual وscholar وliterati. والأبرز من بينها، والأقرب إلى مفهوم هذه المقالة عن المثقّف في أيامنا، هو intellectual الوارد من صفةٍ أُطلقت على العاملين في مجال الفكر والأدب تحديدًا، والذين اتّخذوا مواقفَ من الشأن العام في فرنسا في القرن التاسع عشر بصفة كونهم مثقّفين. وقد استخدمها النّقاد لاحقًا بكثافة في وصف دور إميل زولا ومن معه من المثقّفين في سياق توقيعهم عريضة سياسية انتقدوا فيها العداء للساميّة الذي رافق محاكمة الضّابط اليهودي الفرنسي درايفوس (1894-1899)، وفبركة الأدلّة في محاكمته. لقد اجتمع هنا رجالُ فكرٍ وأدب على اتّخاذ موقفٍ مشترك من قضيّةٍ سياسية راهنة أشغلت المجتمع الفرنسي في حينه. وهذا المصطلح يوازيه مصطلح "انتلجنتسيا" بالروسية كما صاغه مثقفو الحركة الشعبية الروسية، والذي لا يرتبط بالمؤهّل أو الدبلوم العلمي أو الاختصاص بل برفض الواقع السائد وتغييرِه من منظور المُذلّين المُهانين أي "الشعب". والمشترك بين المصطلحين الفرنسي والروسي هو رفض المثقفين الواقع القائم، وأداء الوظيفة النقدية، ورفض أن يكون المثقف كلب حراسة للوضع القائم، وهو ما واصله أمثال جان بول سارتر في القرن العشرين. وقد نتج من ذلك، التمييز بين المثقف والخبير، أو المثقف التقني المنغلق في حدود اختصاصه، الذي لا يكترث بالشأن العام. ولغرض التشبيه نذكّر بصورة طبيب القرية الذي يدسّ أنفه في قضاياها ومشكلاتها ويعلّق عليها في ضوء قيمه، ويهتمّ بحياة مرضاه خارج العيادة؛ بينما حال الخبير أو المثقف التقني هي حال الطبيب المختصّ الذي يعالج الناس في إطار تخصّصه فقط.

لقد أصبح مصطلح "انتلجنسيا" يُستخدم في وصف فئة المتعلمين والخبراء العاملين في مجال "التفكير" كمهنة، مدرّسين كانوا أو صحافيين أو خبراء أو مهندسين أو علماء من العاملين في مجالات المعرفة والعلم، من دون أن يكونوا من "المفكّرين" المبدعين (أي الذين يقدّمون إنتاجًا إبداعيًّا، فكريًّا كان أو أدبيًّا) الذين يرون أنَّ من واجبهم اتّخاذ مواقف من المجتمع والدولة وغيرها. هذا التمييز بين الخبراء والمثقفين هو تمييزٌ راهن. أمّا تاريخيًّا، فقد استُخدم لفظَا المثقّف intellectual وintelligentsia في وصف مثقفين معارضين نقديين. وظلّ هذا التداعي (بين المثقف والموقف النقدي) قائمًا حتّى عصرنا[3]؛ فقد استُخدم اللفظ الأوّل في فرنسا كما بينّا أعلاه، واستُخدم اللفظ الثاني في وصف النشاط النقدي المعارض (تنويريًّا متأثّرًا بالغرب، أو روسيًّا قوميًّا، أو شعبيًّا اشتراكيًّا) في روسيا منذ ستينيات القرن التاسع عشر. وتحوّلت الألفاظ إلى مصطلحاتٍ بالمعنى أعلاه.

سُمّي مثقّفو الثّورة الفرنسيّة بأثرٍ رجعي بالتّسمية ذاتها، مع أنّ الرائج في حينه تسميتهم بالفلاسفة والمفكّرين، أو رجال الحَرْف. ولست في صدد استعراض تاريخ الدّور والمصطلح، بل أكتفي بالقول إنّه بمدلوله الراهن مصطلح حديث مرَّ بتغيراتٍ عدّة، لكن أهمّها يتّصل بنشوء فئةٍ اجتماعيّةٍ واسعة تعمل في مجال بيع عملها الفكري، أي فئة "الانتلجنسيا" العاملة في الإنتاج والإدارة، وقطاعات الخدمات الدقيقة، ونشوء فئة واسعة جدًّا من خرّيجي الجامعات العاملين في قطاعات الإنتاج والبحث العلمي وإدارة الدولة وغيرها، بما فيها أعداد واسعة منهم لا تجد عملًا لها. ونشأت أيضًا ظاهرة ما يُدعى بـ"عطالة الخرّيجين" أي فئة الخرّيجين المتعلّمين من غير العاملين في الدولة، أو العاطلين عن العمل والمتفاعلين بشكلٍ نقديّ واحتجاجي مع المجتمع، وكذلك مثقّفي الطبقات والأحزاب. ونقصد بذلك المثقّفين الأيديولوجيين المنحازين إلى طبقةٍ أو فئةٍ اجتماعية، والمطّلعين على الفكر والثقافة السائدَين في المجتمع، للتمكّن من السجال والنقاش وإظهار العيوب الموجودة في النظام القائم وثقافته المهيمنة، الذين كَنّاهم غرامشي في دفاتر السجن بـ "المثقّف العضوي"[4]. إنه المثقّف الذي ينحاز إلى طبقة وإلى أيديولوجية وينظّر لها في إطار المفهوم الغرامشي للهيمنة الأيديولوجية في سبيل التحوّل عمّا هو كائن إلى ما يجب أن يكون. وفي هذا التحوّل يكمن مفهوم المثقف برمّته عند غرامشي.

خلافًا للقناعة الحزبية السائدة في بعض الأوساط، فإنّ غرامشي لم يقصد ذلك المثقف الحزبي الذي لا يفقه إلا أيديولوجيته، والذي يحاول أن يفهم كلّ شيء من خلالها. فهذا النوع من المثقفين العاملين في الـ "بروباغندا" الحزبية، ظاهرة دعوية عقائدية مبسّطة (تشمل منظّرين حزبيين وخطباء وكتّابًا). لقد قصد غرامشي بمصطلح المثقّف العضوي ذلك المثقف (الحزبي أو غير الحزبي) القادر على تبيين أنّ الواقع الاجتماعي القائم غير طبيعي، ويمكن تغييره بالقدرة على تحليل ثقافته ونقدها، وتحقيق الهيمنة الثقافية للمضطهَدين. لقد أثار مصطلح غرامشي هذا ضجّةً في أوساط الحركة الشيوعية، واحتفى به مثقفون يساريّون نقديون، ولاحقًا "ما بعد حداثيون"، على الرغم من أنّه لا يُعَدّ نظرية، ولا هو تجديد فكري، إلا بالنسبة إلى الحركة الشيوعية التي قادها مثقّفون لم تفرد أيديولوجيتهم مكانًا لهم كفاعلين تاريخيين. فالنظرية الماركسية لم تفرد للمثقفين دورًا ثوريًّا واضحًا، ومن هنا جاء الاحتفاء بغرامشي الذي لم يكتشف دور المثقف، بل قام بـِ "شرعنَته" في الأيديولوجية الماركسية. لقد كانت فكرة غرامشي توفيقًا بين واقع الحركة الشيوعية وفكرها. ففي واقعها كان المثقّفون يقودونها، وفي فكرها لا يُعترف للمثقّفين بدورٍ خاصّ. كما يمكن اعتبارها توفيقًا بين النظرية الماركسية التقليدية وواقع المجتمعات الأوروبية من حيث أنّ الثورة الاشتراكية اندلعت ضدّ كتاب رأس المال في مجتمعاتٍ غير رأسمالية، فانهار النظام القيصري، بينما تطوّرت في المجتمعات الرأسمالية المتطوّرة طبقةٌ وسطى و"انتلجنسيا" وتكنوقراط، وطوّرت خطوطًا دفاعية بقوّةِ ما أسماه غرامشي المجتمع المدني القادر على احتواء المثقفين كأدواته الأيديولوجية، وهو ما دفعه إلى التمييز بين السيطرة والهيمنة. والهيمنة التي تعني في نهاية المطاف اعتراف المجتمع بشرعية النظام بسبب خضوعه لهيمنته الثقافية، ومن ثمَّ استغناء النظام عن الاستخدام المفرط للقمع لتثبيت حكمه، لا يمكن أن تتمّ من دون مثقفين.

أخيرًا المثقّف العمومي Public Intellectual، وهو المتخصّص صاحب الثقافة الواسعة الذي يكتب ويُنتج بلغةٍ مفهومةٍ للعموم عن قضايا تهمّ المجتمع والدول بشكلٍ عامّ. وقد تتوسّط أحيانًا بين البحث العلمي وجمهور المستمعين والقرّاء إذا توافر فضاءٌ تواصلي عقلاني. كما أنّ المثقّف العمومي يساهم في هذا الفضاء من منطلقه، ولا تخلو مساهمته من مواقف. فهو ليس محلّلًا أو خبيرًا فقط. وفي الثقافة العربية المعاصرة غالبًا ما نستخدم كلمة "مثقّفين" في وصف فئة "الانتلجنسيا" كلّها. لكني سأستخدمها هنا بمعنى ضيّقٍ أكثر، ولا أقصد استخدامها بمعنى "مبدعين" لتمييزها من الانتلجنسيا ككلّ، ولا بمعنى "مفكّرين"، لأنّ ثمّة إسرافًا في استخدام هذه المفردة الأخيرة، واستسهالًا إعلاميًّا في إطلاقها على المثقّفين. وأعتقد أنّ من المفترض أن تقتصر على من ينتجون إنتاجًا فكريًّا كونيًّا وأصيلًا فعلًا. وسأستخدم لفظة "مثقّف" بمعنى اصطلاحي لما يسمّى في عصرنا بـِ "المثقف العمومي"، أي المثقّف الذي يؤدّي دورًا في الشأن العامّ انطلاقًا من كونه مثقّفًا؛ أي مستخدمًا معارفه الشاملة والعابرة للتخصصات. المثقف هنا هو مثقف عامّ General، أي لديه ثقافة عامّة تتجاوز الاختصاص، وهو مثقف عمومي Public في الوقت ذاته، أي متفاعل مباشرةً مع المجال العمومي وقضايا المجتمع والدولة.  ومن هنا، لا تقتصر صفة المثقّف على الثوري أو المثقّف النقدي فحسب، بل تشمل من يساهم في مناقشة الشأن العامّ بأدوات عقلانية، ومن منطلق المواقف الأخلاقية. فمن يساهم بالتحليل العقلاني وحده هو متخصّص وخبير. ومن يساهم بالأحكام الأخلاقية ليس مثقّفًا بالضرورة. المثقّف العمومي هو ذلك القادر على الجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العقلاني واتّخاذ الموقف.

نجد هذا المثقّف في الوطن العربيّ في نهاية القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين، كما نجده في أوساط العلمانيّين والمتديّنين قبل أن تتحوّل العلمانية ويتحوّل الدين إلى أيديولوجيات حزبية. فكيف نتعامل مع الكواكبي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني ومحمد كرد علي وفرنسيس مراش ومحمد عبده وفرح أنطون وسلامة موسى وأحمد أمين وطه حسين وأحمد لطفي السيد وعباس محمود العقاد وساطع الحصري، وغيرهم كثير، إن لم يكن هؤلاء مثقفين عموميين؟ وهل نستطيع مقاربتهم بمفهوم الاختصاص أم بمفهومٍ معرفي نقدي أشمل يميّز المثقف العمومي، وقد يندرج قسمٌ كبير منه في مجال ما يمكن وصفه بالأدب التنويري الذي يمزج معارفَ واختصاصاتٍ متعددة؟

هؤلاء هم "سلف" المثقف العمومي العربيّ. فهم لم يكونوا خبراء ، أو دعاة وحسب، ولا كانوا مثقفين عضويين بالمعنى الطبقي الأيديولوجي عند غرامشي. ولكن مع تعمّق التخصصات ما عاد المثقف العربيّ في عصرنا قادرًا على ممارسة دور المثقف العمومي من دون معرفة في تخصّص واحد على الأقلّ كمنطلق لثقافته العامة الواسعة. كما أصبحت مهمتهم أكثر صعوبةً، خاصّةً مع انتشار التعليم من جهة، ووسائل الاتصال الفوري والمباشر من جهةٍ أخرى، ونشوء فئاتٍ من المواطنين لديهم ثقافة كافية للتحدّث والكتابة في الشأن العام مع توافر أدوات تروّج الفكر العقلاني و"البروباغندا" السياسية، أو التحريض، والخرافات والشعوذة في الوقت ذاته. وهذا يجعل مهمتهم صعبة وأكثر تحديدًا وتميّزًا.
 
إشكاليات

 
تواجهنا هنا إشكاليات عدّة منها تمييز هذا المثقّف من العامل في أحد مجالات المعرفة الذي يستثمر النشاط الذهني في العمل بشكلٍ يفوق استخدامه في المهن الأخرى، إذ إنّ مؤهّلاته علميّة ومعرفيّة، كما في حالة المدرّس، والباحث في المختبر، والكاتب في الصحافة، والمحاسب والمهندس ومدير الشركة، ومنهم المثقّف وغير المثقّف؛ ومنها أيضًا تمييز المثقّف من الأكاديمي المنهمك في اختصاصه وحده حتّى لو كان باحثًا؛ وتمييز المثقّف أيضًا من ذلك الفاعل اجتماعيًّا الذي يتحدث في شؤونٍ عديدة، ويكتب عنها من دون أن يفقه مجالًا واحدًا في العمق، وغيرها من التمييزات.

عرّف إدوارد شيلز المثقّف تعريفًا عامًّا يشمل بعض هذه التمييزات: "المثقفون هم في أيّ مجتمعٍ مجموعة من الأشخاص الذين يوظّفون في معاملاتهم وعباراتهم رموزًا عامّة ومرجعياتٍ مجرّدةً متعلقة بالإنسان والطبيعة والكون بكثافة أكثر من أفراد المجتمع الآخرين"[5]. والفرق بينهم وبين بقية أفراد المجتمع هو، بموجب هذا التصنيف، فرقٌ في الدرجة وليس في الكيفية؛ ويكمن التفاوت في القدرة على توظيف المعارف في قضايا عامّة ومجرّدة متعلقة بالمجتمع والإنسان والطبيعة ككلّ. هنا يظهر المثقفون كأنهم فلاسفة الحياة العادية والشأن العامّ، وهذا من نوع التعريفات العامة التي تصعّب فهم خصوصية دور المثقف الذي نقصد.

 كما أنّ هنالك إشكاليةً أكثر أهمية، لا تنطبق على مرحلةٍ تاريخيّة بعينها، بل  نواجهها في المراحل التاريخيّة المختلفة، وهي: هل يكون المثقّف بالضرورة نقديًّا تجاه النظام السائد، أم يمكن أن يكون المثقّف مثقفًا، بمعنى صاحب إلمامٍ معرفي ومواقفَ عمومية في الوقت ذاته، من دون أن يتّخذ مواقفَ نقدية، وهو ما سأسمّيه بالمثقّف المحافظ؟ إنّها الإشكاليّة التي سيتمحور كلامي اليوم حولها؛ لأنّني حقيقةً لا أرغب في إرهاق القارئ بالتمييزات اللازمة للمثقّف من الأكاديمي البحت؛ أو المثقّف من غير المثقّف الذي يصرّ على الكتابة على الرغم من ذلك؛ أو تمييز الثّقافة من مهنة الإعلام والصحافة المهمة بحدّ ذاتها، وغيرها من التمييزات على أهميّتها، وأكتفي بما يلي:
ليس المثقّف هو الأكاديمي أو الباحث في مجالٍ بعينه، ولكن هذا لا يعني أنّ الباحث لا يمكن أن يكون مثقّفًا، أو أنَّ المثقّف يجب أن يكون عموميًّا إلى درجة عدم التعمّق في أيّ موضوع. وأنا أرى أنّ العكس هو الصحيح، أي أنّ مثقّف عصرنا ما عاد في إمكانه أن ينطلق من العامّ إلى الخاص كالفلاسفة في عصورٍ ماضية، إذ بات تطوّر المعرفة يتطلب الانطلاق من الخاصّ إلى العامّ، أي من معرفة موضوعٍ بعمقٍ إلى القدرة على تجاوز التخصّصات والإحاطة بعدّة مجالات إحاطةً عقلانيّةً راشدة ناجمة عن الأدوات العلميّة التي اكتسبها في تخصّصه، وعن نزعة نظرية وأخلاقية تدفع إلى اتّخاذ مواقف عمومية وكأننا في استعادةٍ لفكرة أرسطو القائلة إنَّ من يعرف شيئًا واحدًا فهو لا يعرف شيئًا. ونحن نضيف إليها أنّ الذي يريد أن يعرف الكثير في عصرنا، لا بدّ أن يعرف بعمقٍ شيئًا واحدًا على الأقلّ.

لا يُختزل المثقّف في عصرنا في أكاديميٍّ مختصّ (وهذا لا ينتقص من دور الأكاديمي المتخصّص الذي لا يقوم علمٌ من دونه، ولا تُبنى مدنيةٌ حديثة) لكنه أيضًا ليس جامعًا للمعلومات العامّة، أي "من كلّ بستان زهرة"، فهذا في حدّ ذاته لا يكفي. إنّ اكتساب هذه الصفة ناجمٌ عن القدرة على اتّخاذ المواقف، أي أنَّ ما تحدّثنا عنه سابقًا هو قاعدةٌ معرفيّة يمكن على أساسها اتّخاذ مواقفَ، والمواقفُ هنا هي أحكامٌ قيميّة أو معيارية. ويقع التقاطع هنا، عند المثقّف الذي يستحقّ التسمية، بين القدرة النظرية على التعميم وتشكيل فكرةٍ عامّة وتصوّر عن المجتمع ككلّ، وبين الموقف الأخلاقي. وإذا كان المقصود أنَّ المثقّف نقديّ بالضرورة، فأنا موافقٌ على ذلك من دون أن يشمل هذا الحكم تحديد معنى الموقف النقدي. وسأبيّن لاحقًا أنّ الموقف النقدي قد يكون ثوريًّا، وقد يكون محافظًا، لكنّه يبقى قيميًّا أو معياريًّا.
 
عن المسافة

 
ثمّة نزعتان لا أتّفق معهما انتشرتا مؤخّرًا بين عددٍ من الكتّاب العرب وغير العرب. وألخّص النزعة الأولى بكلامٍ لإدوارد سعيد: "المثقّف الحقيقي غريب أو خارجي outsider يفرض على ذاته المنفى على هامش المجتمع"[6]. وأنا لا أفهم ما معنى كلمة "حقيقي" هنا. الحقيقي في هذه الحالة تعني عكس الكاذب بحسب رأيي، أو عكس المزيّف. وأعتقد أنّ درجة الحقيقة والتزييف لا تعتمد على كون الإنسان خارجيًّا أو منفيًّا ذاتيًّا، وإنّما تعتمد على تعريفات المثقّف لنفسه ومدى التزامه هذه التعريفات، هنا تكمن الحقيقة وكذلك التزييف. ثمّ إنّ هناك قدرًا من الادّعاء والزعم في مثل هذا القول، ولا سيَّما حين يصدر عن مثقّفين هم جزءٌ أساسي من المؤسّسة الأكاديميّة، ومن الحياة في ظلِّ فائض القيمة الفكري والثقافي الرأسمالي الذي بات يمنح للنقد هامشًا واسعًا، بل واسعًا جدًّا، بما في ذلك إمكانية تلقّي راتبٍ وأمن معيشي وحتى امتيازات لقاء هذا النقد. ما عاد النقد في المؤسسة الأكاديمية الغربية مكلفًا، بل أصبح جزءًا من الخطاب الأكاديمي الذي يَمنح المبدعين فيه احترامًا وتقديرًا، وحتّى امتيازات[7]. "الهامش" هنا هو المتن ذاته، والغريب هو صاحب الامتياز. أمّا إذا كان المقصود هو المنفى الذاتي المفروض معنويًّا، فهذا قد يكون ناتجًا من رفض الظلم في مجتمعاتٍ قمعية، أو رفض النفاق في الأكاديمية الغربية، ومنه النفاق المذكور أعلاه؛ كما قد يكون ناجمًا عن الغرور، أو اصطناع التواضع، وهو بحسب رأيي أسوأ أنواع الغرور؛ أو قد يعني الترفّع عن الصراعات وعدم اتّخاذ موقف بحجّة ترفّع المثقف واغترابه عن التفصيلات الحياتية.

أمّا المنفى الذي يعانيه مثقّفٌ نُفي من بلده، أو اضطرّ إلى مغادرته قسرًا تحت وطأة الملاحقة لإسكات صوته، والتهميش الناجم عن حرمانه من حرية التعبير والحركة، فهذه الأمور أفهمها، ولكنها مثل أيّ معاناة، تقول شيئًا أو اثنين عن المثقف نفسه، ولا تشرح كثيرًا عنه، بل عن طبيعة النظام الذي عاش في ظلّه. فالاضطهاد والسجون والمنافي ليست في حدّ ذاتها كفاءات، ولا امتيازات كي تزكّي أحدًا لموقع المثقف. ولكن الإنسان الذي لديه المؤهّلات الثقافية، والذي يحافظ على كفاءته الفكرية وقدراته التحليلية وتماسكه الأخلاقي على الرغم من السجن والمنفى والاضطهاد، هو مثقّفٌ يستحقّ الاحترام.

ليست المسافةُ التي ينبغي أن يتّخذها المثقّف من الواقع الاجتماعي القائم تلك التي تُتَّخَذ قسرًا أو نفيًا مفروضًا ذاتيًّا أو اجتماعيًّا، وإنما هي ناجمة عن الأدوات النّظريّة ذاتها باعتبارها عامّة وتتّخذ مسافةً من الواقع، بما في ذلك الواقع الاجتماعي. وهذا هو المعنى الهيغلي للنظرية باعتبارها، بحكم تعريفها، نفيًا للواقع، ولكنها لا تتحوّل إلى نقدٍ له إلّا حين تتفاعل مع هذا الواقع، بمعنى تفاعلها مع الجانب العقلي في الواقع ذاته، من حيث أنّ تاريخه هو تاريخ بنياته العقلانية: كلّ ما هو واقعي عقلاني؛ وكلّ ما هو عقلاني واقعي (ونقدي نظريًّا) لأنه يشير إلى الإمكانات الكامنة في الواقع. كما أنّ المسافة تتعلّق بمدى القدرة على اتّخاذ أحكامٍ قيميّة، والجرأة على عدم تجنّبها بغضّ النظر عن الثمن. هذه هي عناصر الاغتراب الثقافي، وليس ادّعاء المنفى، أو زعم الهامشية.

ربّما يكون المثقّف على هامش المجتمع في إنتاج حياته الاجتماعيّة، ولكنّه محافظ جدًّا في مواقفه. وقد يكون المثقّف معتمدًا في معاشه على المؤسسة الأكاديمية، أو مؤسسة أخرى تقع في صلب النظام الاجتماعي القائم، ولكنه قادرٌ على اتّخاذ موقفٍ نقديٍّ منها. وثمن ذلك مرتفعٌ في الأنظمة السلطوية غير الديمقراطية، لكن مؤسّسات الأنظمة الديمقراطية لا تخلو من فرض الامتثال على المثقّفين، ومحاولة تدجينهم وتكييفهم مع أولويّاتها ورؤاها ومناهجها. لكنّ أكثر ما يزعج المرء هنا هو النفاق القائم في انتقائية المثقف للحالات التي يضع فيها مسافةً بينه وبين العمل في المجتمع؛ والأمر الأكثر إزعاجًا هو أنَّ المسافة قد تكون غرورًا وترفّعًا عن اتّخاذ موقف.

أمّا النزعة الثانية فهي تَوَقُّع النقدية من الأدباء والفنّانين. هل تنطبق فكرة النقد بالضرورة على الأدباء والفنّانين؟ الجواب هو لا. لقد نشر التقليد النيتشوي فكرةً تقول إنّ الأخلاق، بما فيها فكرة العدالة والتسامح والمساواة وغيرها، تعبيرٌ عن علاقة القوى في المجتمع وإرادة القوّة، وإنّ هذا ينطبق على النظرية الاجتماعية والفلسفة؛ وإنّ الإبداع الجمالي وحده، في الموسيقى والفنون التصويرية والأدب، يمكنه أن يشكّل نقدًا للواقع، لأنه ينطلق من طبيعة الإنسان العميقة وينسجم مع الطبيعة. نحن لا نتّفق مع هذا التقليد، كما هو معلوم. وقد أثبتت التجربة التاريخية أنّ التخلّي عن الموقف الأخلاقي أدّى إلى العدمية التي أدّت بدورها إلى تزوير مفهوم القوّة والتسليم بتفسيرها كبقاءٍ للأصلح في المجتمع، وليس في الطبيعة فحسب، كما أدّت إلى استخدام الجماليات في استحداث مشاعر التقديس اللازمة في التعبئة الشعبية لأنظمةٍ سياسية شمولية.

إليكم فكرة بسيطة غير متعلّقة بمضمون الفنّ والأدب ذاتهما، بل بدور الفنّان والأديب. فمثلما نحترم إنتاج عالمٍ في مجاله العلمي التخصصي وفائدته للإنسانية من دون أن يكون هذا مرتبطًا باتّخاذ العالم مواقف في الشأن العامّ، فلا بأسَ أن نحترم فنّانًا أو رسّامًا أو حتّى أديبًا إذا أبدع جماليًّا في مجاله، حتّى إذا لم يتورّط في موقف، أو في حمل قيمةٍ أخلاقيّةٍ في تعامله مع النظام السياسي الاجتماعي. ولكن الاحترام المهني يختلف عن تقديس النجومية، كما أنّه لا يعني التسليم بأنّ الفنّ ذاته هو نقد، أو بديل من الأخلاق. ومن دون أن أضيف كلمةً واحدة، أعرف أنّ هنالك مشكلةً في هضم هذه الجملة الأخيرة؛ فنحن نتوقّع من المشتغلين في مجالاتٍ مثل الأدب والفنّ أن يجترحوا مواقفَ في الدفاع عن الإنسان على الأقلّ، إن لم يكن عن الشعب أو المجتمع. ولا شكّ في أنّ هذا التوقّع يدفع أيّ نيتشوي للابتسام بسخرية من هذه السذاجة التي تكاد تكون سوقيّة.

في كثيرٍ من الحالات يكون موقف الأديب والفنّان من الشأن العام متملّقًا للسلطان ارتزاقًا، أو متملّقًا لحركة الشارع حبًّا في الشعبيّة والنجوميّة. ولكنّي أتابع لأقول: هل هي مصادفة أنّنا نستمتع بشعرٍ وأدبٍ من العصر العبّاسي أو الأموي على الرغم من أنّه نُظِم في تملّق حاكمٍ وتعداد مناقبه طمعًا بالمال، أو في هجاء آخر من دون سببٍ مقنع، كما نستمتع بجمالية "بورتريهات" رُسمت في أوروبا في عصر النهضة لأمراء وملوكٍ وكرادلة. لكن، في هذا العصر يصعب على الشخص نفسِه الذي يستمتع بشعر المتنبي في المدح والذمّ وفي الفخر ورفعة الحرية البدوية، أن يستمتع بشعرٍ نُظِمَ في مدح رئيسٍ حاكم حاليًّا أو صاحب قرار، أو بقصيدة في الفخر؟

نعم، لقد طرأ تغيّرٌ على فهمنا لوظيفة الأدب والفنّ وتوقّعاتنا منهما، ولا يمكن التحرّر من التداعيات التي تثيرها كلماتٌ مثل الآداب والفنون، والإنسانيات أو العلوم الإنسانيّة في ذهن الإنسان المعاصر. فهو لا يتوقّع أن تكون علومًا وحسب، مثلما لا يتوقّع أن يكون الإنتاج الأدبي والفنّي جمالياتٍ وحسب. نحن نتوقّع غالبًا موقفًا "ضميريًّا" و"إنسانيًّا" من الناس العاملين في مجال الأدب والفنّ، أو في مجالات العلوم الإنسانية، وهو توقّعٌ في غير مكانه، لكنّه يقول شيئًا "عنَّا" وليس بالضرورة "عنهم".

ربّما فاجأ فوكو قرّاءَه بأفكاره عن المثقف، حين أصرّ على أنّ على عاتق الأخير تقع مهمّة  طرح الأسئلة، لا الأجوبة (التي حُمِّلت أكثر ممّا تحتمل، فهي اللافلسفة بحكم تعريفها والتي حوَّلها بعضهم إلى فلسفة). فهو يجعل طرح الأسئلة مهمّة المثقّف. وهو يأخذ منه الحقّ في طرح النقد بشكل متعلق بما يجب أن يكون، محذّرًا من عدم الاكتفاء بالبحث عن كيفية نشوء واقعٍ اجتماعي معيّن، لغةً وتاريخًا. وكيف يعمل نظامٌ ما، وأيّ وظيفة يؤدّي هذا النظام في الهيمنة السياسية القائمة؟ "ليست وظيفة المثقف أن يخبر الناس ما عليهم أن يفعلوا، فبأيّ حقّ يفعل ذلك؟ وظيفته ليست أن يصحّح إرادة الآخرين السياسية؛ فعبر التحليل الذي يُجريه في مجاله يجب أن يجعل ما يُطرح كأنه واقعٌ مفروغ منه موضعَ مساءلة، وأن يزعج ما اعتاد عليه الناس، وكيفية تفكيرهم في الأشياء، وأن يبدّد ما هو مألوف، وأن يعيد أَشْكَلة (من إشكال، وتعني تحويلها إلى إشكال - المؤلّف) القواعد والمؤسّسات. وفي هذا يتحمّل مهمّة عينية كمثقّف. أمّا تشكيل الإرادة السياسية فلديه دورٌ يؤدّيه فيها كمواطن"[8]. لا شيء يميّز المثقّف في الدور السياسي الذي يؤدّيه. فهو يقوم بهذا الدور، إذا قام به، كمواطن. وقد أثبت فوكو ذلك شخصيًّا؛ فمن يقرأ مقالاته شبه الصحافية التي كتبها في صحيفة كوريري ديلا سيرا في عامَي 1978-1979 عن الثورة الإيرانيّة، يجد مقالاتٍ سياسية عاديّة تفتقر برأيي إلى العمق، وقد كتبها بصفته مواطنًا كما يبدو. وما من سببٍ لترويجها إلا طقوس عبادة النجوم في مجال العلوم الإنسانية، وصدمة المثقفين العلمانيين الفرنسيين من موقف فوكو المتفهّم لدور الدين السياسي التحرري في بعض الحالات. ومرّةً أخرى لن أفصّل في هذا الموضوع، ولكن ما أريد هنا قوله يتلخّص في ما يلي:

يمكننا أن نحترم مُبدعًا أدبيًّا أو فنيًّا على تقنية إبداعه وجماليّتها، مثلما يمكن أن نحترم إبداع عالمٍ أو غيره مع أخذ فرقيْن أساسيّين في الاعتبار: الفرق الأوّل، أنّنا قد نعدّ الجماليّة في حدِّ ذاتها صورةً مثاليّةً، ويعدّ إنتاجها نقدًا للواقع؛ والفرق الثاني، يمكن أن نحترم هذا الأمر إذا لم يتحوّل إلى عدميّة، بمعنى اعتبار القيمة هي اللاقيمة، واعتبار الحلّ هو انعدام القيم والمواقف، واعتبار السياسة الوحيدة الممكنة هي نقد السياسة. وقد أوقع التقليد النيتشوي عددًا من المثقّفين الذين غالبًا ما كتبوا بلغةٍ تبدو غيرَ عاديّة، أو للدّقة غير امتثاليّة non-conformist، ولكنها لا تتضمّن نقدًا أو مواقفَ أخلاقية في الوقت ذاته. وقد تقود في النهاية إلى الامتثال لما هو قائم على علله، بحجّة أنّ البدائل أسوأ، أو لأنّ الصراع ليس بين خيرٍ وشرّ، أو قبيح وحَسَن أو بين عدلٍ وظلم، وإنّما الصراع بين "تمثّلات مختلفة للقوّة"، أو "لأنّ الصراع يدور في الحقيقة بين سرديّات مختلفة" وليس بين ظالمٍ ومظلوم، أو بين "ثقافات متصارعة"، وليس بين محتلٍّ وواقع تحت الاحتلال. هكذا كانت بعض اتّجاهات الأفكار ما بعد الحداثية ضالعة في إحلال السرديات محلّ علاقات الواقع، وغالبًا ما برّرت بذلك سياسات محافظة وغير نقدية في النهاية.
 
 المثقف والثورة

 
الثورة هنا هي الثورة السياسية التي تهدف إلى تغيير نظام الحكم بالتحرّك الشعبي من خارج الدستور. وبدايةً، وبما أنّ الأمر يتعلّقُ بالفرق بين الثّورة والإصلاح التدريجي لأيّ نظامٍ حاكم، فسنحتاج إلى تمييزات أخرى للمثقّفين. فالمثقّف العمومي الذي يميلُ إلى وضعِ أفكارٍ عامّة لنظامٍ أفضل، هو المثقّف الذي يميل فكرُه إلى الثّورة أكثر ممّا يميل إلى الإصلاح. ولا أقول إنّه يميل شخصيًّا إلى الثّورة، وإنّما أقول إنَّ فكره قابلٌ للاستخدام في تبرير الثّورة، أكثر ممّا هو قابل للاستخدام في تبرير الإصلاح لأنّه يطرح تصوّرًا شاملًا مغايرًا للواقع. لقد كان هذا الأمر مصدر قوّة الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر، ولكنّه كان أيضًا مصدرًا رئيسًا للنقد الذي وجّهه إليهم في مرحلةٍ لاحقة المثقّفون المحافظون من أمثال ألكسيس دي توكفيل في فرنسا وإدموند بيرك في بريطانيا.

نشير هنا إلى دور المثقّفين الذين شاركوا في الثورة الفرنسية ذاتها، والذين تشرّبوا هذه الأفكار التي سبقت الثورة، وميلهم عمومًا إلى مصادرة الثّورة وأخْذها نحو اتّجاهاتٍ راديكاليّة تتضمّن حلولًا شاملةً تنذر الحداثة كلّها بما أسميناه لاحقًا الهندسة الاجتماعيّة. وفي أيّ حالٍ، تطوّر بين المثقّفين الفرنسيين مثقفون إصلاحيون قادوا الجمهورية بالتدريج وعبر آلام مخاضٍ طويلة نحو الديمقراطيّة. لكنني سأستخدم مثالَ النقاش الذي دار في حينه في تقويم الثّورة الفرنسيّة، والذي لا يمكننا بعده أن نعدّ المثقّف هو المثقّف الثوري أو النقدي فحسب. فقد نشأ مثقّفٌ مسؤول ينتقد الثّورة من منطلقاتٍ قيميّة، مع أنّها قيمٌ محافظة، وهي نوعان: نوعٌ يبرّر التمسّك بالنظام القائم ويعدّه في جميع الحالات أفضلَ من مخاطر الفوضى التي تتضمّنها الثّورات. وقد يشبهه في بعض الوجوه الموقف الفقهي الكلاسيكي في التاريخ الإسلامي في سياقٍ آخرَ تمامًا، "سلطانٌ غشوم خيرٌ من فتنةٍ تدوم"، الذي يبرّر ذاته بمصادرَ شرعية دينية. ونوعٌ آخر محافظٌ أيضًا يعدّ الحريةَ قيمة، ولكنّه يعدّها شرًّا، بل شرًّا أعظمَ إذا جاءت من دون حكمةٍ ومن دون فضيلة Virtue. ومصدر الفضيلة والحكمة في حالة المجتمع هو تراكم الخبرة التاريخيّة والتقاليد والدولة. هذا هو الموقف النقدي المحافظ[9].

لا شكَّ في أنّ المؤرّخ والمثقّف الملمَّين بأوضاع بلادهما، كما في حالة إدموند بيرك وألكسيس دي توكفيل، لا يستحقّ الواحد منهما أن يسمّى مثقّفًا فقط، بل حتّى مفكّرًا. وهو مفكّرٌ محافظ، ولكنه ليبرالي نقديّ، إذ يمكنه أن يدافع عن حقوق المواطن وحرياته، ولكنه يعارض الثّورة، ويرى أنّ النظام يجب أن يُنتقد وأن يصلح ذاته في إطار تراكم التقاليد والخبرات المتجسّدة عمومًا في حكمة الدّولة. ويمكن القول إنّ فيلسوفًا مثل هيغل الذي سحرته أفكار الثّورة الفرنسيّة في بدايات إنتاجه، عاد وتبنّى مثل هذا الموقف، ليس كمبدأ كما في حالة بيرك، بل كخلاصة لمسارٍ تاريخي. فهو لم يهاجم الفلاسفة الفرنسيين كما فعل إدموند بيرك وتوكفيل، بل رأى فيهم مرحلةً مهمّة وثورة ضرورية في مسيرة العقل ونضجِه.

هنا يمكننا أن نضع تمييزًا تاريخيًّا بين مفكّريْن عاشا في الجامعة ذاتها، ودرّسا في جامعة برلين نفسها؛ أحدهما الفيلسوف آرثر شوبنهاور، والثاني هو هيغل ذاته. كان موقف شوبنهاور من الثورة الفرنسية سلبيًّا بالمطلق، وكذلك كان موقفه من تأثيرها في المثقّفين الألمان. ففكره كان تشاؤميًّا في جميع ما يتعلّق بطبيعة البشر، ومن حيث أنّه لا يمكن أن ينشأ نظامٌ أفضل، وأنّ جميع الأنظمة السياسية والفكرية هي تعبيرات عن إرادة القوّة. ولكن حكم العامّة قد يكون الأسوأ. أمّا هيغل فعدّ الثورة الفرنسية خطوةً كبرى في تحقيق الحرية بمعناها السالب أو المجرّد، ورأى أنّ الدولة هي تجسيدُ الحرية، وامتحان الثورة في سبيل الحرية يكون في تجسّدها في الدولة. والدولة المستنيرة من نمط بروسيا عصره أمكنها تحقيق ذلك من دون ثورة.

كان شوبنهاور مثقّفًا متشائمًا أدّت أفكاره عن إرادة القوّة (بدلًا من العقل) كأساس للوجود إلى عدميّة نيتشه. ولا يحقّ لنا القول إنّ المثقّف هو ذلك الذي لا بدّ أن يقف إلى جانب الثورة أو ذلك الذي يتّخذ نقده صيغًا ثوريّةً، مع أنّ فئة المثقّفين عمومًا تميل إلى رفع قيمٍ مثل الحرية والعدالة الاجتماعيّة فوق قيمٍ مثل النظام والتقاليد وإرث الآباء والأجداد.

كما يمكن بسهولةٍ تفصيل تصنيفٍ لـِ "المثقف الإصلاحي" الذي يحاول أن يؤثّر في اتّجاه تقديم التغيير عبر تسوياتٍ مدروسة، ويساوم في سبيل تغيير النظام من داخله، وليس عبر كسره بالثورة فيما شاع عربيًّا تحت صيغة "تجسير العلاقة بين المثقّف والسلطة". وينجح هذا المثقّف الإصلاحي في حالة أنظمةٍ تستنتج ضرورة الإصلاح، والتكيّف مع حركة التاريخ من أجل البقاء من دون حجز التطوّر. لكن المثقّف الإصلاحي يصل إلى طريقٍ مسدود في نظام الاستبداد المطلق، فيضطرّ إلى أن يختار ما بين الموقف المحافظ والثوري... فتعود هذه الثنائية لتفرض ذاتها. وقد يختار بعضهم العدمية ويحوّلها إلى قيمةٍ هربًا من الخيارين الصعبين أعلاه.

أمّا ما أفتقده في حالة الثّورات العربيّة فهو الاثنان: المثقّف الثوري الذي ينظّر لحالة الثورة، وبما أنّه ينظّر لها فإنّه إذا ما وقعت ينضمّ إليها (معنويًّا على الأقلّ إذا لم تتوافر لديه القدرة على الانخراط فيها بشكلٍ مباشر). وهو يفعل ذلك من منطلقاتٍ ثلاثة: الأوّل تحليلي نظري إذا استنتج أنّ تحليل واقع النظام السياسي لا يسمح بالتغيير التدريجي الإصلاحي من دون ثورة. فالمثقّف النقدي ليس هاوي ثورات، وهو يدرك المخاطر الكامنة فيها، وهدف نقده ليس الثورة، بل التغيير نحو نظامٍ أفضل، بمعنى أكثر عدالة؛ والثاني، لأنّ الثورة على نظام الاستبداد هي فضيلةٌ ضدَّ الظلم؛ والثالث، كي يكون قادرًا على التأثير في الثورة ذاتها. وحين ينضمّ المثقف إلى الثورة يتّخذ منها مسافةً نقدية. ويصحّ هذا بالطبع على المثقّف الذي لا تشكّل الثورة في ذاتها قيمةً بالنسبة إليه. وأنا لا أشكّ في حماسة المثقف الذي يعدّ الثورة ذاتها قيمة، ولكنّي أشكّ في مستوى ثقافته، وحتّى في مواقفه الأخلاقية. فالموقف الذي يقدّس الثورة بما هي فعلُ هدمٍ، قد يؤدّي إلى الفوضى وإلى ارتكاب الجرائم.

المثقّف الثوري يحافظ على مسافةٍ نقديّة، ليس من النّظام فحسب، بل من الثورة أيضًا. فهو يملك الجرأة الكافية، ليس لمواجهة النّظام فحسب، وإنّما لنقد الجمهور أيضًا، مع أنّ ممارسة النقد الثاني في ظرفٍ ثوري مهمّةٌ أصعب معنويًّا من نقد النظام الحاكم. وقد يتحوّل المثقّف الثوري إلى "خبير" في خدمة الثورة، أو إلى ناشطٍ بين المثقفين، أو "إعلامي" في خدمتها. وصحيح أنّ هذا العمل المدفوع بدوافعَ أخلاقية يتميّز من العمل التخصّصي الذي يقوم به في الحياة اليومية، ولكنّه، مع ذلك، يتضمّن جانبًا تخصّصيًّا أداتيًّا. ولا بدّ أن يرتفع المثقّف حتّى عن دوره (وليس أن يترفّع عن ممارسته) كي يكون قادرًا في اللحظة الملائمة على أن يقوم بدوره كمثقّف. المثقّف في خدمة الثورة يقوم بعملٍ نبيل، فهو "خبير" يوظّف خبرته في خدمة ما يؤمن به. ولكن للقيام بدور المثقّف يجب أن يكون المثقّف نفسه قادرًا على أن يرتفع بنفسه عن هذا الدور النبيل، وأقصد أن يكون قادرًا على اتّخاذ مسافة من الثورة لتقويمها نقديًّا من منظورٍ عامّ، ومن منظورٍ عمومي في الوقت ذاته. وبكلماتٍ أخرى ألّا ينسى ما يؤمن به من قيمٍ في خضمّ العمل والنقاش في شأن الأدوات الملائمة لتحقيق ما يؤمن به. فلا يجوز مثلًا أن تقتصر المهمّة على قول "ما يخدم الثورة" والامتناع عن قول "ما لا يخدمها"، إذا غابت أهدافها، أو بدأ المثقّف يرى من زاوية نظره القيمية أنّ الثورة تبتعد عن الأهداف والمنطلقات التي دفعته إلى تأييدها.

كما أفتقدُ المثقّف الثوريّ، أفتقدُ في خضمّ السجالات في شأن الثورات، ذلك المثقّف المحافظَ الذي يشرح لنا ضرورة الحفاظ على النّظام وإمكانات التغيير القائمة فيه، والحكمة القائمة في الدّولة والتقاليد التي تستند إليها.

ويبدو لي أنَّ الغياب في هذه الحالة ليس مصادفةً، إذ لا توجد دولةٌ بهذا المعنى الذي يجسّد التقاليد الوطنية لشعبٍ من النوع الذي جعل بيرك ينتقد المثقفين الفرنسيين على تجاهلها، وعلى الجهل بالإمكانات الكامنة في النظام الذي يقوم عليها، ولا من نوع "الاستبداد المستنير" الذي رأى فيه هيغل أوّل تجلّيات العقل المطلق قبل الدين والفلسفة مباشرة، ولا بالمعنى الذي يمكّن ليبراليًّا محافظًا من الحياة في كنف هذا الاستبداد والدفاع عنه، فضلًا عن أن يشكّل دفيئة لنشوء هذا الكائن الذي نسمّيه الليبرالي المحافظ.
ليست الدولة العربيّة دولةً بهذا المعنى، فهي لا تستند إلى تقاليدَ في إدارة الكيان السياسي للمجتمعات، ولا إلى تراثٍ ثقافيٍّ وتقاليدَ عريقة تتجسّد فيها. ربّما كان من الممكن أن تنشأ مثل هذه الدول على أساس الجمع بين الأمّة المواطنية وتقاليد الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ولكنَّ الدولة سقطت في براثن الأنظمة، وأصبحت تتبع النظام بدلًا من أن يتبعها النظامُ، ملكيًّا كان أو جمهوريًّا. هذا عدا مسألة شرعية الدولة، والصراع بين الأمّة والدولة الذي استقطب كثيرًا من منظّري الأمّة (العربية، أو الإسلامية) في مقابل قليلٍ من منظّري الدولة. ومن هنا لم ينشأ منظّرو دولةٍ محافظون، بل منظّرو أمّة في مقابل منظّري أنظمة. والأنظمة هزيلةٌ لا يلبث منظّروها أن يكتشفوا أنّهم موظّفون في خدمة جهازٍ أمني، أو في خدمة سياسي أو حزبٍ حاكم، أو حتّى عند أحد أقارب السياسيين أو قادة الأجهزة الأمنيّة[10].

أمّا المثقّف الثوري، فقد وُجد بكثرةٍ عربيًّا في مرحلة انتشار الأيديولوجيات، ولا سيّما أيديولوجيات اليسار التي عظّمت من لفظَي ثورة وثوري، والأيديولوجيات القوميّة بأنواعها، وحركات العسكر الانقلابية التي كانت تُسمّى ثورات و "تنشئ مجالس قيادة الثورة". وانسجم التنظير الثوري مع فكر اليسار ومزاج حركات التحرّر الوطني في العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ترجم العرب أكثر ممّا أنتجوا "فكرًا ثوريًّا" يساريًّا وعالمثالثيًّا في تلك المرحلة. لكن الساحة لم تخْلُ من منظّرين عربٍ ثوريين، كما أنّ السجون العربية ازدحمت بالمثقّفين النقديين المتّهمين بالتنظير للثورة وقلب نظام الحكم، سواء كان التنظير نقديًّا يساريًّا أو قوميًّا، وسواء كانت مواقفهم ثورية أو إصلاحية فقط.

قامت الدولة بتحويل عددٍ كبير من الأكاديميين إلى خبراء، فاستوعبتهم في أجهزتها من دون الإمكانات النقدية التي كانت كامنة في ثقافتهم ومواقفهم. لكنّها في حالات قوّتها وتراجع الحركة الشعبية كانت قادرة أيضًا على استيعاب مثقفين نقديين كيّفوا أنفسهم للعمل في أجهزتها. أمّا من استعصى على الدولة احتواؤهم، فقد كان لمنظّمات الأمم المتحدة، ومؤسساتها، وكذلك ما سُمّي في العقود الأربعة الأخيرة بـِ "المنظّمات غير الحكومية" شأنٌ في تحويلهم إلى خبراء. وأتاح لهم هذا الاحتواء الاحتفاظ بوَهم المثقف العمومي المستقلّ عن الدولة، غير أنّهم تحوّلوا في الواقع إلى خبراء، ولكن في منظّمات دولية.

ما يهمّني هنا هو أنّ التنظير الثوري، بغضّ النّظر عن رأيي فيه، استمّر طويلًا من دون ثورات، وفقَدَ مكانته في الرأي العامّ وفي الشارع لأسبابٍ عديدة حتّى بات لفظ ثورة لفظًا مثيرًا للسخرية؛ إذ إنّ فشل الشيوعيّة في أوروبا، واستهلاك هذه الكلمة في الانقلابات العسكريّة وبعض حركات التحرّر التي تحوّلت إلى ديكتاتوريات، لم يُفقدا كلمة ثورة بريقها فحسب، بل أفقداها مضمونها أيضًا، وتحوّلت إلى مفردة ميّتة في خزانة اللغة الحزبية.

إنّ الثورة الوحيدة التي نشبت في هذه الأثناء في الفضاء الإسلامي هي الثورة الإيرانية التي ألهبت خيال الإسلاميين. وحوّل فشل المشروع القومي واليساري بعد عام 1967 عددًا من المثقفين العلمانيين إلى الإسلام، ما أنتج المثقّف الإسلامي الثوري الجديد، وساهمت الثورة الإيرانية في تعميق هذا التحوّل. حتّى تلك الفترة اقتصرت كلمة مثقّف على العلمانيين، ولكن ليس بعد أن نشأت ظواهر واتّجاهات مثل محمد عمارة، وطارق البشري، وعبد الوهاب المسيري، وحسن حنفي، وغيرهم من المثقفين الإسلاميين الذين لا يمكن تصنيفهم إسلاميّين حركيّين فقط، فهم مثقّفون بالمعنى الحديث (أو العلماني إذا شئتم).

حين نشبت الثورات العربيّة لم يتعرّف المثقّف الثوري إلى نفسه فيها، فهي لم تخرج بقرارٍ من عصبةٍ حزبيّة يشارك فيها مثقّفون حزبيون، ولا كان كرّاسًا ثوريًّا مثل البيان الشيوعي دليلُها. وفي رأيي، أنَّ خيبة أمل المثقّف هنا متعجّلة ومبالغٌ فيها. فلم ينعدم تأثير المثقفين في الثورة العربية، إذ سبقتها صيرورة ثقافيّةً طويلة ساهم فيها المثقّفون الديمقراطيون، وساهمت في تبلور هذه الثّورات ونشوء خطابها المميّز. وإنّ فئات قارئة ومطّلعة كانت في صلب هذه الثّورات، ولا سيَّما في أوساط جيل الشباب المثقّف الذي تأثّر بتجاربَ عمليّة وبقراءة مثقّفين نقديين محلّيين وعربٍ والاستماع إليهم، خصوصًا مع ظهور معارض الكتب، والكتب المنشورة على الإنترنت، وكسر احتكار المعارف والتحكّم فيها، وخرق جميع أشكال الرقابة السلطوية التقليدية جرّاء ثورة الاتصالات ووسائل الإعلام الإخبارية الفضائية. وليس صحيحًا أنّ الثّورات العربيّة قامت من دون مثقّفين. ولكن مشكلة المثقّف الثّوري أنّ لديه صورةً مسبقةً عن كيف يجب أن تبدو الثّورة.

الثورة، وما أدراك ما الثورة! هي فعلٌ في التاريخ؛ لأنّها واقعٌ راهنٌ ماديّ محسوس، بات يجري أمام أعيننا ساعة حصوله، بعد أن تجانست أزمانُنا، وتزامنت تجاربُنا بفضل الإعلام وغيره. وهي في الوقت ذاتِه فعلٌ يقع خارج التاريخ؛ لأنّها تكسر تسلسلاته السببية، وتقطع صيرورته التي تذوب فيها الذّات في الموضوع. إنّها من اللّحظات النّادرة التي تتصرّف فيها مجموعاتٌ من المواطنين مدفوعةً بحرية الإرادة، فتحوِّل النّفي إلى فعلِ تحدٍّ للنِّظام القائم، حتّى لو كان الثّمن هو الموت. هي اللحظة التاريخيّة والفعلُ الجماعيّ المحيِّران لبعض المثقّفين والمحلّلين؛ إذ يجعلانهم يحمِّلون الثّورة ذنبَ عدم توقّعهم لها، أو ينفون عنها هذه الصّفة حتّى لا تكون ثورةً لم يتنبّأوا بوقوعها، وتصبح فعلًا عشوائيًّا اعتباطيًّا لا يمكن توقُّعُه بحكم تعريفه... والحقيقة أنّ من غير الممكن توقّع الثورات الشعبية العفوية بحكم تعريفها. لكنّ عددًا من المثقفين العرب شخّصوا حالة الانسداد، كما شخّصوا سؤال المرحلة المقبلة على أنّه سؤال طبيعة الأنظمة، وأن لا بدّ من طرح مسألة نظام الحكم، ويفضّل بالإصلاح، وإن استحال الإصلاح فبالثورة. وهذا في حدّ ذاته كثير. والنزعة لتقزيم دور المثقفين العرب قبل الثورات، هي نزعةٌ مغرضة وذات أهداف سياسية شعبوية تخدم حركات سياسية فاجأتها الثورات، لكنّها سارعت إلى الانضمام إليها وحصْد نتائجها، مقزّمةً دور المثقفين الذين انتقدوا الأوضاع السابقة، ويمكنهم أن ينتقدوا هذه الحركات أيضًا.
أمّا على مستوى الحكمِ القيميّ، فالثورة هي فعلٌ رافضٌ للظّلم؛ لا يجوز الحيادُ في شأنه، والانحيازُ إليه هو من باب الفضيلة. من هنا، فإنّ جميع من انتظر هذه اللّحظة، هو ذلك المنحازُ إليه. إنّ موقف المثقّف من الثّورة مختلف؛ فهناك المثقّف النّقديّ الذي يتردّد في الانحياز إلى الثّورة، وهو غاضبٌ يشعر بالمرارة، ربّما لأنّ الشّعب لم يستشِره، أو لأنّ حركة الشّباب المستعدِّ حتّى لملاقاة الموت قد أفقدَتْه تميُّزَه النقديّ الذي كان يُعَدُّ بطولةً في إطار النِّظام القائم. إنّه المثقّف الذي يغارُ من الجمهور الذي توجّه إلى الثّورة مباشرةً من دون المرور بمراحل النقد المعهودة. وهذا وضعٌ جديد لا يخلو من المخاطر. وهي المخاطر التي تجعل بعض المثقفين يخافون من الجمهور. وينظّر بعض الثوريين للشعب كأنه كائن ميتافيزيقي، ولكن حين يخرج الشعب الفعلي العيني إلى الشارع، فإنّهم يخافونه.

أمّا المثقّف الذي يعادي الثّورة، فلا يفعل ذلك تأييدًا للظّلم (ومن الذي يعترف بتأييده للظّلم؟)، بل لأنّها مؤامرة. وشأنها شأن أيّ مؤامرة، لا تتّضحُ خيوطها الخفيّة إلّا لاحقًا، وليس في إمكانه الآن إلّا تقديرها لنا بالتّخمين والمضاربة، ناشرًا في طريقه اللّاعقلانيّةَ والجهلَ والإسفافَ حيثما حلّت أقوالُه. وهو بذلك يخون وظيفته؛ فحتّى المثقّف المحافظ، إنّما يدافع كما بيّنّا عن قيمٍ محافظة مثل النِّظام والتّقاليد، ولا يكتفي بنشر الشّائعات. أمّا مثقّفو الأنظمة في زمن الثورات، وفي أثناء وجود الشعب في الشارع، فليسوا حتّى مثقّفين محافظين، بل هم يعبِّرون عن ثقافة الأجهزة الأمنيّة على رثاثتها. ودلالة المثقف التي نستخدمها في هذا النصّ لا تنطبق عليهم، أو لا تعود تنطبق عليهم فور اضطلاعهم بهذا الدور.

يبقى امتحانُ المثقّف النَّقديّ كامنًا في عدم الانزلاق إلى رفض التعامل مع الثّورة كثورة لأنّها فاجأَتْه، أو لأنّها لم تُفصَّلْ على مقاسه أو على مقاس توقّعاته من جهةٍ، وفي عدم التورّط في إصدار أحكامٍ رومانسيّةٍ على الثّوار من جهةٍ أخرى؛ حتّى لكأنّ المشهد يتألّف من أخيارٍ في صراعٍ مع الأشرار. ليس المظلومون أخيارًا بالضرورة، ولا يتألّف نظامُ حكمٍ ظالمٌ من أشرارٍ بالضرورة.

الثّورة هي تلك اللّحظةُ التّاريخيّة التي تتحدّى فيها إرادةُ الشّعب الحرّةُ نظامَ الهيمنةِ والسّلطة وأدواتِ السّيطرة والتسلط الذي تكرِّسه من خارج دستورها وقواعد لعبتها. هي تلك اللّحظةُ التي لا يعود فيها الشّعبُ مَجازًا على ألسنة المثقّفين ورمزًا في أذهان نقّاد الأنظمة، بل يصبح واقعًا فعليًّا عينيًّا نسبيًّا، له لونٌ وطعمٌ ورائحةٌ وعرَقٌ ودمٌ، يُخرِج في الثّورة أفضلَ ما فيه، وقد يُخرِج في الثّورة أيضًا أسوأ ما فيه. هذا إذا تحوّلتْ الثّورة إلى حالةٍ من النّفي، أي حالة من غياب الدّولة. ويكمن التحدّي في رؤية عدالة فعل الثورة، وفي فهم الوظيفة التي تؤدّيها في التغيير السياسي والاجتماعي، والمخاطر الكامنة في فعل نفي الدولة كحالة فوضى إذا لم تقده قوّةٌ اجتماعية منظّمة، وإذا لم يكن المجتمع السياسي (والمجتمع المدني أيضًا) قويًّا بما فيه الكفاية للتوافق على البديل من النظام القائم.

لا يكون الحكمُ القيميُّ على الثّورة واقعًا محسوسًا ملموسًا يجب فهمُه والتّعاملُ معه، بل يكون بالانحياز إليها على اعتبار أنّها فعلُ حريةٍ ضدَّ الشرّ الكامن في الظّلم، أو بالانحياز ضدّها في موقفٍ محافظ يعدُّ الحفاظ على النِّظام قيمةً أسمى من الحرية. ونحن نرى الانحيازَ إلى حركة المظلومين فضيلةً. ولكنّ شعرةً فقط تفصل اعتبار انتفاضة المظلومين ضدّ نظام الظّلم خيرًا ضدّ شرٍّ عن الحكم على المظلومين بأنّهم أَخْيارٌ ينتفضون ضدّ الأشرار. ليست الثّورة صراعًا بين الأشرار والأخيار، ومن يصنِّف طرفيها بهذا الشّكل يرتكب عدّة أخطاء قد تتحوَّلُ إلى خطايا. فهو يحمِّل المظلومين أكثر من طاقتهم، ولا يصبحُ قادرًا على فهم التّجاوزات والأعمال المشينة، ولا حتّى الجرائم التي تُرتَكب خلال الثّورات، وهذا خطأٌ. كما أنّه لا يصبح متجرِّئًا على نقدها وإدانتها حين يشخّصها، وهذه خطيئةٌ للمثقف العمومي. وعلاوةً على ذلك، فإنّه يُعمِّمُ هذا الحكمَ شبه التكفيري على النظام مع الجهل بطبيعة الأنظمة وبنيتِها وكيفية تغييرها والحفاظ على استمرارية الدولة، ويسير في اتِّجاهٍ خطير هو تغيير الأفراد العاملين فيها، وكأنّ ذلك تصفيةٌ للأشرار من دون تغيير طبيعة النِّظام بالضّرورة، وهذه وحدها خطيئة.

هنا أيضًا تنشأ عدّةُ إشكاليّات؛ فالثّورة على الظّلم تعني تفكيكَ نظامِ الظّلم، وليس التخلُّصَ من أفرادٍ فحسب، ولا التخلّص من جميع أفراد جهاز الدولة بالضّرورة. وهذا مرتبطٌ بتضييق تعريفنا للنِّظام وتوسيعه؛ فهنالك فرقٌ بين تأدية وظيفةٍ عموميّة في إطار نظامِ ظلمٍ، وبين ارتكاب الجرائم بما هي وظيفةٌ عموميّة. كما أنّ هناك فرقًا بين تبرير القرار بعد صنعِه، وعمليّةِ صنعِ القرار في هذا النِّظام. أمّا صنّاعُ القرار - وإن كانوا في بعض الحالات أسرى بنيةِ إطارِ نظامٍ محدَّدٍ بغضّ النّظر عن نيّاتهم - فإنّ الثّورات لا تسامحهم على ذلك، وهذه مأساتهم الشّخصيّة التي لسنا اليوم في صدد الخوض فيها. وعلى المثقّف أن يصنع هذه التمييزات، وأن يبيّن أنّ الوجود في السجن لمدّةٍ طويلة يؤهّل شخصًا للتكريم، ولا يؤهّله بالضرورة لقيادة دولة. وأنّ كون شخصٍ قام بوظيفة عمومية في خدمة بلده حتى في زمن الاستبداد يعني أنّه ليس مناضلًا ولا معارضًا، وقد يعني أنّه انتهازي، ولكن هذا لا يجعل منه مجرمًا أو شرّيرًا، إلا إذا كان مجرمًا فعلًا.

ربّما ننزلق في لحظات النّشوةِ والزّهو بعد خروج الشّعب متحدّيًا مطالبًا بحقوقه بعد طول صمتٍ واستكانةٍ، وقد نغرق في رومانسيّةٍ تجعل الثّوار أولياءَ وقدِّيسين، وهم ليسوا كذلك؛ فهم يخرجون إلى الثّورة لحظة الإرادةِ الحرّة تلك، وهم نتاجُ الثّقافةِ والاجتماعِ والاقتصاد في ظلِّ نظامِ الحكمِ القائم. إنّهم نتاج قيَمِهِ السّائدة. وأنظمةُ الاستبداد الفاسدةُ التي تحكم فتراتٍ طويلةً تُفسِد المجتمعات. والثوّارُ هم نتاجُ تلك المجتمعات، وهم أيضًا نتاجُ تحدِّي النِّظام. ولكنّ التحدِّي بالنّفي لا يعني بالضّرورة نشوءَ أخلاقٍ وقيمٍ جديدة. ويكمن دور المثقّف العمومي في نقد الثقافة والقيم السائدة والناتجة من هيمنة ثقافة الاستبداد، وفي التثقيف على قيم الثورة كتحرّرٍ من الاستبداد.

تكمن في تقديس "الجماهير" والثوّار شعبوية من نوعٍ خطير. هذا التقديس لا يكتفي بنفي الجرائم المشينة عن الثوّار، بتبريرها، أو بتحميلها الآخرين، بل يؤسّس لعدم التسامح مع الرأي الآخر إذا كان نقديًّا تجاه الثورة، ويؤسّس لنشوء فئةٍ تدّعي تمثيل الجماهير عبر الخطاب الشعبوي، وتؤسّس كي تكون هذه الفئة ناطقة باسم الثورة، ثمّ قد تدّعي، وغالبًا ما تدّعي، الوصاية عليها. والأخطر من هذا كلِّه قد تؤدّي الشعبوية في نظامٍ ضعيف إلى الانزلاق نحو الفوضى، وبالتالي تأسيس المزاج الخائف من انعدام الأمن الذي قد يحنّ إلى الدكتاتورية.

لا تنتهي مهمّة المثقف الثوري مع تفجّر الثورة، بل تصبح أكثر تعقيدًا، وأكثر أهمية في الوقت ذاته. ولكن الوعظ من خارج الثورة لا يكفي. فمن دون الانحياز إلى الثورة، وفي ظلّ إطلاق الرصاص على الثائرين على الاستبداد، لا يتفهّم أحدٌ النقد كتمرين ذهني مثلًا، بل يتمّ التعامل معه كهجوم من معسكر النظام. إنّ الطريق الوحيد لنقد الثورة والاضطلاع بدور المثقّف العمومي تجاهها، هو اتّخاذ موقفٍ حازم إلى جانبها.
 
عن الدور

 
إذا أدرك المثقّف العمومي بعقله وثقافته تلك الإمكانات التاريخية الكامنة في الثورة العفوية على الاستبداد، وإذا رأى أنّها تمثّل حالةً من الانتفاض على الظلم، فقد ينحاز إليها على الرغم من مخاطر كونها عفوية. ويبدأ موقفه كمثقّف في بلورة الأمل الكامن في الثورة، أي بمحاولة صوغ قيمها التحررية، وبنقد الظواهر التي تستحقّ النقد، ونقد استعصاء التنظيم، وعراقيل التحوّل إلى الدولة. وهذه كلّها أدوارٌ عامّة يمكن أن تتحوّل إلى وعظ، لا أكثر. ومن هنا لا بدّ من تعيينها في سياقها، أي فهم الصعوبات التي تواجهها القوى التي يتمّ انتقادها، والتي ترفض الوعظ الأخلاقي إذا لم ترافقه اقتراحاتٌ محدّدة في شأن البدائل. وهذا بالذات ما يحاول أن يتجنّبه المثقّفون الذين يكتفون بالنقد، ويرون أنّ تقديم البدائل ليس من وظيفتهم، وهي عبارةٌ تتكرّر ولا دليلَ على وجاهتها، ويمكن أيّ مشارك في الثورة أن يردّ عليها بأنّه هو أيضًا لا يرى أنّ وظيفته الاستماع إلى وعظٍ أخلاقي، أو إلى نقدٍ يجهل الظروف.

تكمن المهمّة الحقيقية بعد الثورة، في صوغ البدائل من الوضع القائم، وهذه بالطبع ليست وظيفة مثقفٍ واحد؛ وفي التنبيه على الأسئلة الحاسمة التي لا يمكن من دونها تجاوز حالة الاستبداد؛ وهي الأسئلة عن العدالة الاجتماعية وتحدّيات الفقر والتنمية، والأسئلة عن قواعد المؤسّسات الديمقراطية ومبادئها بما فيها الحقوق السياسية والحريات؛ وتلك التي تتناول قضايا السيادة الوطنية والتواصل العربيّ.

هذه هي الأسئلة المهمّة بعد الثورات الشعبية غير المنظّمة والتي لم تطرح برامج. وهذه مهمّة مختلفة تمامًا عن الانحيازات الحزبية في هذه المرحلة. ولا عيبَ في تحزّب المثقف، بل العيب في لامبالاته. لكن المرحلة الحالية تتطلّب من المثقّف الديمقراطي موقفًا منحازًا إلى الديمقراطية والمواطنة بغرض ترسيخ مبادئها قبل الانحياز إلى حزبٍ من الأحزاب (وهو موقفٌ يمكن أن يتبنّاه المثقّف العمومي في داخل الأحزاب ذاتها) ولا سيّما حين يحتدم التنافس الحزبي قبل الاتفاق على مبادئ الديمقراطية والتزامها، وحين يحتدم هذا التنافس إلى درجة تغييب الوعي بأنّ مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية هي مهمّة وطنية تجتمع عليها قوًى سياسية عديدة وليست مهمّة طرفٍ وحده، أو حزبٍ بعينه.

سبق أن بينّا أنّ الدولة العربية لم تتح مجالًا للمثقف المحافظ، فهي لم تقم على تقاليد الدولة العريقة، وعلى تقاليد الشعب والدين كمصادر للشرعية والأخلاق والحكمة السياسية. فقد حاربت الدولة هذه القوى التقليدية لأسبابٍ مختلفة. وكانت النتيجة، من دون طول تحليل، أنّ الثورات وجدت قوًى أهلية وتقليدية ودينية فيها وإلى جانبها ضدّ الأنظمة. وكان ذلك من عناصر قوّة هذه الثورات. ولكن هذه القوى قد تحاول أن تفرض فكرًا محافظًا وشعبويًّا في الوقت ذاته. وهذا في حدّ ذاته مركب مناقض لأيّ مشروعٍ نهضوي تحرري كبديل من الاستبداد. لقد واجهت كثيرًا من الثورات ثورةٌ مضادّة من القوى القديمة التي استعادت نفوذها (حتّى بالتدخّل الأجنبي أحيانًا)، ولكن الثورة العربيّة، بسبب عفويتها وظروفها الخاصّة، قد تواجه الثورة المضادّة من القوى القديمة، والثورة المضادّة لمبادئها ومنطلقاتها من داخلها. وهنا ترتسم وظائفُ المثقّف العمومي وأدوارُه بعد الثورات بشكلٍ أوضح.

-----------------------------------------

  • * هذه الدراسة منشورة في العدد الرابع من دورية "تبيّن" (ربيع 2013، الصفحات 127-142)، وهي مجلة فصليّة محكّمة متخصّصة في الفلسفة والدراسات الفكريّة والثقافيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.
  • [1] هذا زمان ليس فيه سوى النذالة/ لم يرق فيه صاعد إلا وسلّمه الرذالة.
  • [2] مع أن لفظ ثقف موجود في قواميس اللغة ليس بمعنى أمسك فحسب أو قبض، بل في المجال الدلالي لمعناه المعاصر أيضًا، إلا أنه لم يؤدِّ إلى استخدام مفردة مثقَّف في العصور الإسلامية الماضية. "ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً حَذَقَه. وقوله «رجل ثقف» كضخم كما في الصحاح، وضبط في القاموس بالكسر كحبر. وثَقِفٌ وثَقُفٌ حاذِقٌ فَهِم. وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ. وقال أَبو زيادٍ رجل ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ (اللحياني). ورجل ثَقْفٌ لَقْفٌ وثَقِفٌ لَقِفٌ وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة (ابن السكيت). رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابِطًا لما يَحْوِيه قائما به، ويقال ثَقِفَ الشيءَ وهو سُرعةُ التعلم (ابن دريد). ثَقِفْتُ الشيءَ حَذَقْتُه وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْت به. قال اللّه تعالى: فإِمَّا تَثْقَفَنَّهم في الحرب. وثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقًا خفيفًا مثل ضَخُم فهو ضَخْمٌ، ومنه المُثاقَفةُ. وثَقِفَ أَيضًا ثَقَفًا مثل تَعِبَ تَعَبًا أَي صار حاذِقًا فَطِنًا فهو ثَقِفٌ. وثَقُفٌ مثل حَذِرٍ وحَذُرٍ ونَدِسٍ ونَدُسٍ، ففي حديث الهِجْرةِ وهو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ أَي ذو فِطْنةٍ وذَكاء".
     لا نجد هنا مفردة مثقّف، في وصف شخص، بل ثَقِف، ويفسّرها ابن منظور كما يلي: "والمراد أَنه ثابت المعرفة بما يُحتاجُ إليه... وثقف الخَلُّ ثَقافةً وثَقِفَ فهو ثَقِيفٌ وثِقِّياقرأ المزيدفٌ بالتشديد، والأخيرة على النسب حَذَقَ وحَمُضَ جِدًّا مثل بَصَلٍ حِرِّيف...". وهنالك معنى آخر للفعل بمعنى أمسك بـِ، أو قبض على:" فإمّا تَثْقَفُوني فاقْتُلُوني فإن أَثْقَف فَسَوْفَ تَرَوْنَ بالي. وثَقِفْنا فلانًا في موضع كذا أَي أَخَذْناه ومصدره الثِّقْفُ. وفي التنزيل العزيز واقْتُلوهم حيثُ ثَقِفْتُموهم، والثَّقاف والثِّقافةُ العمل بالسيف. قيل وكأنَّ لَمْعَ بُرُوقِها في الجَوِّ أَسْيافُ المُثاقِفْ. وفي الحديث إذا مَلَكَ اثْنا عَشَرَ من بني عمرو بن كعب (قوله «كان الثقف» ضبط في الأصل بفتح القاف وفي النهاية بكسرها) والثِّقافُ إلى أَن تقوم الساعة يعني الخِصامَ والجِلادَ".
    هذه المعاني الأخيرة لا تهمّنا. المهمّ أنّ فعل ثقف يتضمّن منذ ذلك الحين (في لسان العرب، وفي تاج العروس أيضًا) معنى العلم والفطنة والذكاء. ونجد الصفة للإنسان ثقف بمعنى الحذق. ولكننا لا نجد "المثقف". وعلينا أن ننظر إلى معجم محيط المحيط لبطرس البستاني في العصر الحديث كي نجد معنى الكلمة المألوف في عصرنا: مُثَقَّف: من ثقّف. رجل مثقف: متعلم، من له معرفة بالمعارف، أي ذو ثقافة. "النخبة المثقفة" نخبة من أهل الفكر والثقافة. ونحن نجد هنا لفظ مثقف مرتبطًا بالمعارف، كما نجد المؤلف يضيف "النخبة المثقفة"، وكلّها مصطلحات حديثة. كما نجد في محيط المحيط مثقِّف بكسر القاف وتشديدها. والمثال على ذلك "مثقِّف الأجيال: مهذِّبها، معلِّمها، مربّيها".
  • [3] تعود المقتطفات التالية كلها إلى تعميمات من العقود الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شهدت حوارًا واسعًا في شأن دور المثقفين وانجذابهم إلى اليسار والماركسية والنظرية النقدية من مدرسة فرانكفورت، وإلى حركات نقد الاستعمار والعنصرية، ولا سيما بعد أهوال الحرب الثانية، وبداية الحرب الباردة، وانطلاق حركات التحرر الوطني.
    كتب جوزيف شومبيتر "إن إحدى اللمسات التي تميز المثقفين من غيرهم ... هي السلوك النقدي". انظر:
    Joseph A. Schumpeter, Capitalism, Socialism, and Democracy, 3rd ed. (New York: Harper, 1950), p. 147.
    وفي كتابه الناقد لاستحواذ الماركسية على المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية كتب ريمون آرون: "إن النزوع إلى انتقاد النظام القائم هو المرض المهني للمثقفين". انظر:
    Raymond Aron, The Opium of the IntellectualsTranslated by Terence Kilmartin, Norton Library; N106 (New York: W. W. Norton, 1962), p. 210.
    وكتب ريتشارد هوفشتاتر في تعريفه المصطلح: "الفكرة الحديثة للمثقف كمُنشئٍ لطبقة، ولقوة اجتماعية منفصلة تتساوى مع الاحتجاج السياسي والأخلاقي". انظر:
     Richard Hofstadter, Anti-Intellectualism in American Life (New York: Knopf, 1963), p. 38.
  • [4] Antonio Gramsci, "The Intellectuals," in: Selections from the Prison Notebooks of Antonio Gramsci, Edited and Translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith (New York: International Publishers, 1971), pp. 3-23.
  • [5] Edward Shils, "Intellectuals," in: David L. Sills, ed., International Encyclopedia of the Social Sciences, 17 vols. in 8, Reprint ed. (New York: Macmillan Co.; Free Press, 1972), vol. 7, p. 179.
  • [6] Jeremy Jennings and Anthony Kemp-Welch, eds., Intellectuals in Politics: From the Dreyfus Affair to the Rushdie Affair (London; New York: Routledge, 1997), pp. 1-2, and Edward W. Said, Representations of the Intellectual: The 1993 Reith Lectures (New York: Pantheon Books, 1994), p. 11.
  • [7] أدركت المؤسسات الحاكمة ومنظّروها مبكرا ضرورة استيعاب المثقفين والعناية بهم، وذلك ليس لأنّ أيّ نظام لا يمكنه تحقيق الهيمنة الثقافية على المجتمع من دون التحالف مع المثقفين، كما كان يرى مفكّرو اليسار المنشقّون، بل لأنّ المؤسسة الليبرالية ترى أنه من غير الممكن قمع حرية المثقفين في الرأي والتعبير من دون الوصول إلى وضعٍ يقيّد حرية الرأسمالية ذاتها. ومن هنا أكّد منظرون ليبراليون مثل جوزيف شومبيتر بصورةٍ مبكرة ضرورة حماية حرية رأي المثقف مهما كان معارضًا. انظر:
     Schumpeter, p. 150.
  • [8] Michel Foucault, "The Concern for Truth," in: Michel Foucault, Politics, Philosophy, Culture: Interviews and Other Writings, 1977-1984, Translated by Alan Sheridan and Others; Edited with an Introduction by Lawrence D. Kritzman (New York: Routledge, 1988), p. 265.
  • [9]  جعلت "بنغوين" عنوان مجموعة رسائل بيرك عن الثورة الفرنسية شرور الثورة مع عنوان فرعي هو: ما هي الحرية من دون حكمة أو فضيلة؟ إنها أعظم أنواع الشرور. انظر:
    Edmund Burke, The Evils of Revolution, Penguin Great Ideas; 45 (London: Penguin, 2008).
    وهي مختارات من كتاب Reflections on the Revolution in France  من العام 1790.
  • [10] أحذّر هنا طبعًا من احتساب جمهورٍ غفيرٍ من الكتّاب غير المثقّفين المدافعين عن الأنظمة والأجهزة ومثيري الشائعات للنيل من خصومها بأنواعهم. فهم على كثرتهم المدهشة ظاهرة أنثروبولوجية تستحقّ المناقشة والبحث، ولكنهم لا يدخلون في أيّ تعريفٍ للمثقّف عندي، بل هم أشبه بـِ "الإعلامي البلطجي" أو الأزعر أو "الشبّيح"، أو غيرها من إبداعات الأنظمة في مواجهتها لخصومها مؤخّرًا. إنّهم "الشبّيحة الإعلاميون" بلغة الثورة والسياسة السورية القاسية التي لا ترحم. وحبّذا لو بقي لفظ الشبّيح على أصله اللبناني في وصف الشخص الاستعراضي المتباهي برجولته الشرق - متوسطيّة، الفهلوي الذي لا يجد حرجًا في إبراز مفاتنه الجسديّة والشطارة الفهلويّة، فقد وُجِد دائمًا مثل هؤلاء الإعلاميين والإعلاميّات أيضًا. ولكن ما أقصده هو تحوّل المصطلح إلى وصف الأوباش من أعضاء الميليشيات شبه المنظّمة الذين يمارسون أعمال القتل والاغتصاب والتعذيب، إمّا للردع والإرهاب غالبًا، أو للساديّة والتمتع بالعنف أحيانًا. وقد نشأت فئاتٌ واسعةٌ نسبيًّا من الناطقين في الإعلام المكتوب والمرئيّ والمسموع يتحلّون بهذه الصفات في مجالهم، وذلك بقتل الشخصيّة بدلًا من قتل الشخص، وإثارة الشائعات والافتراءات التي تمسّ بالسمعة بدلًا من التعذيب والاغتصاب. هؤلاء ليسوا مثقّفين، ولا ثوريين، ولا محافظين، بل أوباشٍ، لا أكثر.