تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

لأن العالم لا يتعدّى حدوده

2017-11-18

محمد أبو الغيط

على الرغم من أنه يبدو ألا رابط بين الشأنين السوري والزيمبابوي، سوى تزامن وجودهما بعناوين الأخبار هذا الأسبوع، إلا أن كلاً منهما يعبر عن أحد وجوه عالمنا اليوم.

في مدينة الأتارب في ريف حلب كان رواد سوق محلي يمارسون حياتهم باطمئنان، قبل أن ينزل عليهم الموت الطائر، ليترك مئات القتلى والجرحى والأرامل والأيتام، ونهراً من الدماء المختلطة بثمار الفاكهة وأسئلة الصدمة.

نفى المتحدث باسم البنتاغون علم أميركا بأي معلوماتٍ عمّن نفذ الغارة، لكن مراسل وكالة أنباء الأناضول سأله مباشرة عن تسجيلات الرادارات الأميركية، والتي سبق نشرها في إبريل/ نيسان الماضي بعد الهجوم الكيميائي على خان شيخون، وأظهرت مسار طائرات النظام السوري من نقطة انطلاقها في قاعدة الشعيرات، فكان الرد الأميركي المُفجع: "ربما شاركنا من قبل تسجيلات الرادار المتعلقة بتحركات قوات أخرى، لكننا في هذه الحادثة لن نشارك تلك المعلومات".

سبب هذه السلبية الأميركية، وأيضاً صمت كل الأطراف الدولية، بما في ذلك تركيا، عن توجيه أصابع الاتهام، هو أن الأرجح أن الغارة روسية، وهو ما يستدعي تجنب حتى الإدانة اللفظية، كي لا تتم عرقلة خطة "مناطق خفض التوتر" التي حققت تراجعاً إحصائياً واضحاً بالاقتتال، بما يجعل الغارة مجرد تفصيل هامشي!

بعد يومين فقط من ذلك الموقف، لم يتمكن مجلس الأمن من تمديد عمل لجنة التحقيق الدولية باستخدام الأسلحة الكيمائية في سورية، بسبب استخدام روسيا حق النقض (الفيتو)، وهذا يأتي في سياق موقف روسي متبجح، رفض بالسابق الاعتراف بنتائج عمل اللجنة المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، والتي أكدت مسؤولية النظام السوري عن غارة خان شيخون الدموية.

احتجّ مندوبو الدول الغربية بشدة، قال مندوب فرنسا إنه "مذهول من الفيتو الروسي". واتهم مندوب بريطانيا روسيا بالفشل في تعزيز السلام. المندوبة الأميركية قالت "الرسالة واضحة، إن روسيا تقبل استخدام الأسلحة الكيميائية" ثم ماذا؟ لا شيء.

لا أحد سيحارب روسيا، لإجبارها على شيء، أو حتى سيضحّي بمصالح مليارية معها. بنية مجلس الأمن التي تمنح حق النقض للدول الخمس هي، منذ اللحظة الأولى، اعتراف صريح بأن كل أحلام العدالة النبيلة لا يمكنها تجاوز موازين القوى. هذه حدود العالم.

ولن يختلف المشهد كثيراً لو تبدلت المواقع. كم مواطناً عربياً مستعد لتضحية غالية من أجل قضيةٍ بعيدةٍ، مثل الحرب الأهلية في سريلانكا، أو النزاع الأوغندي؟

نموذج عالمي آخر هو قصة دكتاتور زيمبابوي المخبول. تقول إحدى نظريات المؤامرة إن الغرب يدعم حلفاءه الطغاة، بينما يُسقط أعداءه فوراً. لكن روبرت موغابي كان طوال حياته مناضلاً ضد الاستعمار الغربي، قاد جيش تحرير زيمبابوي ضد الاحتلال البريطاني، ومنذ وصوله إلى الحكم بدأ تحالفاً مع الصين، والتي تستورد حالياً 40% من صادرات البلاد.

لم يتوقف، طوال حكمه، عن كيل السباب الغربيين، حتى إنه سخر من تقنين زواج المثليين بطلبه الزواج من أوباما. في مطلع الألفية، قرر موغابي نزع ملكية المزارع التي يملكها البيض وتوزيعها على الأفارقة، وبسبب ذلك بطبيعة الحال انسحبت كل الاستثمارات الغربية من بلاده. ثم ماذا؟ لا شيء.

ظل الرجل يحكم، ويعتقل ويعذب ويُخفي ويقتل معارضيه، حتى جاوز عمره 93 عاماً، وظلت زوجته تتسوق علناً في أغلى المحال الأوروبية. العملة انهارت إلى حد مذهل إلى أن تم الغاء التعامل بها في 2009، وتجاوزت نسبة الفقر 75%. ثم ماذا؟ لا شيء. حتى الانقلاب لم يحدث بسبب فشله الداخلي، أو سياسته الخارجية، بل فقط نفذه رجاله أنفسهم في الجيش، غضباً من نفوذ زوجته الساعية إلى وراثة منصبه.

من السهل اتخاذ المواقف الخطابية، وإعلان "الكفر بالمنظومة الدولية"، كما أنه على الجانب الآخر من السهل الاستمرار في الإيمان بها، وبأوهام أن أي نظام سيسقط لو فشل داخلياً، أو تم "إحراجه دولياً". الصعب هو الخطوة التالية، هو الفعل السياسي المبني على فهم الآليات المُركّبة، والتجارب السابقة، من دون تعلق كامل أو إهمال كامل. هذا هو عالمنا، وهذه هي حدوده، فماذا نحن فاعلون؟

صحيفة العربي الجديد