تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حاضرٌ رغم المنفى

2018-08-13

نضال محمد وتد

 

لم أستغرب أن يعود حيمي شاليف في صحيفة "هآرتس" ربع قرن كامل إلى الوراء، في محاولته للتحريض المُبطّن على المظاهرة العربية في قلب تل أبيب، مساء أمس السبت ضد قانون القومية اليهودي، بوصفها تحقُّقًا لحلم عزمي بشارة. فقد استحضر تصريحات لعزمي بشارة، في سياق طرح دولة المواطنين، أدلى بها للأديب دافيد غروسمان في كتابه "الحاضرون الغائبون". كما لم أستغرب إطلاقا أن يضمن فقرته الاستهلالية عبارات السمّ المدسوس في الدّسَم في وصفه للمفكر العربي بعبارة: "عضو الكنيست سابقا الجاسوس المنفي حاليا"، فمن المعروف أن جهاز الأمن الإسرائيلي اتّهم بشارة بـ"تقديم العون للعدو في زمن الحرب" وهي التهمة التي نفاها المفكر العربي المعروف، مؤكدا على موقفه الداعم لمقاومة الاحتلال. وانتقِل مباشرة بعد الاقتباس إلى ربط  "حلم ورؤيا عزمي بشارة"  بما سمّاه غرور بشارة، أو تكبره، إذ كان أمثال شاليف يعانون من تكبُّر بشارة عليهم. وبحسب شاليف يقول بشارة لغروسمان كما ورد في الكتاب: "لن أخجل أبدا من تسيير 50 ألف عربي في تظاهرة في تل أبيب، مثلما لم يخجل مارتن لوثر كينغ بتسيير 50 ألف أميركي أسود في مسيرة في واشنطن". 
وطبعا رفض شاليف في مقالته هذه المقارنة. وغالبا ما لا يستخدمها بشارة، بل يستخدم مصطلح السكان الأصليين، ولكنه فعل ذلك في سياق المقارنة بين الأعمال الاحتجاجية ذات الطابع المتحدي.  

قلت إنني لم أستغرب، لأن أكثر ما قضّ ولا يزال يقضّ مضجع اليسار الإسرائيلي الليبرالي، الذي تحسب صحيفة "هآرتس"، التي يكتب شاليف فيها، عليه، هو تحقُّق حلم بشارة بتبني الجماهير العربية وغالبية القوى السياسية في الداخل طرح دولة جميع مواطنيها كما هي حرفيا، دون زيادات، ودون مساومات أيضا، مثلا بقبول عبارة مثل "دولة الشعب اليهوي وجميع مواطنيها" التي يبدي بعض العرب ميلا لقبولها، وسبق أن سمعت إسرائيل وحصلت على تطمينات مشابهة تصبّ في هذا الاتجاه من جهات في السلطة الفلسطينية، دعت إسرائيل إلى "أن تُعرِّف نفسها كما تشاء"، ومن حركات وجهات في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل بالقبول بالمعادلة المشوهة.

سبب عدم الاستغراب هو أن مايقوله شاليف في مُستهلّ تقريره، هو عمليا اعتراف صريح ومباشر بقاسم مشترك بين مختلف أطياف اليسار الإسرائيلي؛ بأن الرجل في منفاه القسري، وبكرامته وإبائه الإنساني والوطني الذي يسميه شاليف "بالغرور والتكبُّر"، لا يزال بفكره ومشروعه يشكل مصدر قلق كبير لإسرائيل، من يسارها الليبرالي المعتدل وحتى يمينها القومي وصولًا إلى رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي كرر مؤخرا تصريحات، كان آخرها بالأمس، مفادها أن قانون القومية اليهودي هو الرد على مشروع دولة المواطنين، وهو المشروع الذي طرحه بشارة عام 1995.

وبالانتقال من هذا الهَوَس الإسرائيلي الصهيوني، بالرجل، حتى وهو في منفاه، فإنه لا يمكن ملاحظة محاولة جهات "يسارية" إسرائيلية شاركت في المظاهرة، فرض وصايتها على العرب في إسرائيل وعلى سلوكهم السياسي والجمعي، وهو، أي السلوك الجمعي، ما يرفضه هؤلاء وما يخشون حصوله، لأنه يكرس المقولة النقيض للصهيونية ولوثيقة استقلال إسرائيل بأن من بقوا هنا، ليسوا مجرد أقليات ولا مجتمعات منفصلة بل هم جزءٌ حي من شعب حي له ليس فقط تراثه الثقافي، وإنما وبالأساس هويته القومية والوطنية التي يمثلها علم، حاول هؤلاء منع رفعه، لكن المتظاهرين في تل أبيب، وتحديدا كوادر التجمع الوطني الديمقراطي، بالأساس، من يحملون المشروع السياسي لدولة المواطنين، كرّسوا رفع العلم، لأنه لا يمكن الرد على قانون يلغي بعدك الوطني وهويتك القومية من خلال شعارات مدنية وشعارات لمساواة مدنية فقط دون الحق في المساواة القومية، كَوْن المساواة في حالة السكان الأصليين تنطبق على الحقوق الفردية، والحقوق الجماعية، وهو ما يحاول قانون القومية محوه عبر الإعلان علانية بأن لا مجال لمساواةٍ قوميةٍ بين الجماعتين، بل فقط مساواة فردية لأفراد لا هوية جامعة لهم، ومن يريد هوية قومية وانتماءً وطنيا ويحمل تطلعات قومية عليه الانتقال إلى ما وراء الحدود. وقد جسّدتْ مظاهرة تل أبيب الأمرين، فالدعوة للمظاهرة جاءت باسم العرب بوصفهم جماعة قومية منظمة، وقد انضم اليسار الإسرائيلي للمظاهرة، وليس العكس.

وربط المظاهرة بحلم مفكر عربي من أبناء البلاد تعتبره إسرائيل عدوا، هي محاولة مكشوفة لتخويف الرأي العام.
الإشارة إلى عزمي بشارة بالتوصيفات المذكورة أعلاه، هدفت أساسا إلى تقويض وهدم أي أثر أو تأثير لفعل المظاهرة وفعل رفعٍ لعلم والتحريض ضد مظاهرها الوطنية والقومية تحريضا مُبطّنًا يُميّز أساسًا أسلوب المواربة الذي يجيده اليسار الإسرائيلي في التستر على مواقفه الأساسية الصهيونية التي تُكرّس ما يقوله قانون القومية على أرض الواقع دون حاجة لإعلانه على الملأ، وتسعى مقابل ذلك إلى فرض الوصاية وتوزيع النصائح على الفلسطينيين في الداخل كي لا يكسروا الإسار التي يفرضها هذا اليسار عليهم مقابل التعاون معهم، وهو ما تجلى برأينا في كلمة ناشر "هآرتس"، عاموس شوكن في التظاهرة، وهو صاحبُ موقفٍ ليبرالي متقدم في معارضة القانون، دون شك، ولكنه اختار في كلمته ترديد مقولات ونصوص في وثيقة استقلال إسرائيل، ليعتبرها النص المؤسس لقواعد المواطنة، التي لا تخرج عن قبول ضمني بإسرائيل دولة يهودية وديمقراطية تضمن حقوق متساوية لسكانها، لكن ليس قبل سلخهم وحرمانهم من هويتهم القومية.

هذا كله كما قانون القومية، يُعيد كل شيء إلى المربع الأول، إلى نقطة البداية في الصراع، من لا يعترف لسكان البلاد الأصليين بحقهم القومي وبهويتهم الوطنية ويُصرّ على تحويلهم إلى مجرد مواطنين أفراد ينتمون لجماعات وطوائف دينية، سيبقى فزِعًا من صاحب الفكرة ومن الفكرة التي تضع البديل الواقعي والممكن لهيمنته وسيطرته العنصرية والاستعلائية، وفي هذا السياق أيضا يقرأ قانون القومية الإسرائيلي.  

 

المصدر: موقع عرب 48