تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قراءة مقتضبة في كتاب: مقالة في الحرية لعزمي بشارة

2017-06-13

الكتاب: مقالة في الحرية
الكاتب: عزمي بشارة
مكان النشر: بيروت ، لبنان
تاريخ النشر و الطبعة: الطبعة الأولى،تموز_يوليو 2016
الناشر: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات
عدد الصفحات: 208

بقلمكمال طيرشي

يروم الكتاب الصادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات و الذي يحمل عنوان :"مقالة في الحربة" للدكتور عزمي بشارة طرح قضية هي من أهم القضايا التي استرعت فضول و اهتمام البشرية منذ الأزل، و لا تزال تؤرق عقولهم بما تفتحه من إشكالات و مطارحات ذات بعد أكسيولوجي ، قيمي يتدارس في رحاب الأخلاق ، بحكم أن مسألة الحرية هي أولا و قبل كل شيء مسألة إتيقية قبل أن تكون مسألة وجودانية (أنطولوجية) بالأساس ،والمثير في الكتاب الأخير للدكتور عزمي أنه يعالج الحرية من زاوية تلازمها المشروط بالمسؤولية الأخلاقية كلبنة أولانية لأية محاولة تتقصى دلالات الحرية كنمط قيمي يحيل إلى حريات .كما أن الحديث عن الحرية في مدلولها التجريدي المحض فلا يدان لنا البتة أن نعتبره ذا حمولة قيمية .

المتأمل في عنوان الكتاب و كذا في طريقة معالجته و نقاشاته الفلسفية سيحيله ذهنه مباشرة إلى النمط الذي كان يكتب به فلاسفة من أمثال رونيه ديكارت (مقال في الطريقة )، باروخ سبينوزا (رسالة في اللاهوت و السياسة) ،أو حتى فولتير في كتابه ( رسالة في التسامح).

حاول الكثير من الباحثين و الفلاسفة عبر التاريخ البشري العتيق التنظير لموضوع الحرية و لنا في الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط خير برهان على صدقية ذلك ، لكن جل معالجات و دراسات هؤلاء الفلاسفة اندرجت في سياق ابستمولوجي تنظيري ليس إلا ، أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازا ب((التنظير الفلسفي لقضية الحرية))، و هي معالجة كلاسيكية لم تعد تؤت أكلها اليوم ولا فائدة قيمية ترتجى من وراءها ، بحكم أن الحرية التي نحن بحاجتها اليوم هي الحرية في صورتها العملية (كممارسة و كبراكسيس) و ليس كتنظير و تفلسف ، و هذا هو بالضبط الجديد الذي جاءنا به صاحب الكتاب في مقالة عن الحرية ، فالحرية العملية –ان صح هذا التعبير- جاءت على انقاض دحض مهاترات مفاهيم الحرية النظرية المجردة ، و يعتبر صاحب الكتاب أن قضية الحرية اليوم تميطها الكثير من الخطورة و التوجس و الريبية ، خصوصا إذا تدثرت بعلاقة الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه ، هذا من جهة و كذا من خلال التطرق إلى موضوع الاختيار بين الممكنات المطروقة أمامه وهذا من جهة أخرى ،حيث يفترض في هذا الأخير وعيا خاصا و عميقا ، وفي سياق التاريخ الذي يندرج فيه و كذلك مدى سماح المجتمع لهذا الفرد من احقاق طموحاته في الاختيار ، و الخطورة التي ستنجر عن اختياراته ، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الوجودي سورين كيركجارد حينما اعتبر بأنه مع الاختيار تتولد الخطورة أو المجازفة و مع المجازفة تبدأ المحنة أو المعاناة .

الفصل الأول من الكتاب جاء حاملا لعنوان : دلالات اللفظ ليست غريبة عن العربية ، و يستهله الدكتور عزمي بالحديث عن تأثر المثقفون العرب في بداية الحداثة العربية بالفكرة الأوروبية عن الحرية ، بدءا بحرية الأمة من الاستبداد و انتهاءا بتحرر الافراد من الإكراه في مسائل متعلقة بالرأي و حرية التعبير (ص13) ، كما يتقصى صاحب الكتاب لفظ الحرية وفقا لدلالاته الواردة في اللسان العربي ،و يعمد لاخراج اللفظة من تقوقعها و تزمتها النظري الخالص المتعالق بالتنظير الفلسفي إلى دراسة ما يتعلق بالحريات و إمكانات احقاقها و مكامن الحدود التي تتربص بها في مقابل السعي نحو تحققها في مجتمعاتنا العربية المعاصرة ، ثم يعمد إلى تصنيف الحريات في عهدنا الراهن ومقسما إياها إلى حريات شخصية و مدنية و سياسية ؛(ص17)، و المثير في هذا الفصل بالذات هو تلك الالتفاتة المميزة من الكاتب للبعد الفرداني في الحرية ، حيث يكون للفرد القدرة و الشجاعة الكاملة لمغادرة القطيع الخائف من الفرادة أو التفرد ، و حينها يقتدر الانسان بحق اكتشاف حريته الذاتية الجوانية ، لكنه في المقابل من ذلك لا يقصي نفسه من الجماعة ، ليظهر تجلي جديد وواقعي لمفهوم التحرر المحمول بمعاني جديدة تحتاج هي الأخرى إلى أدوات جديدة (ص ص 23-24) .

أما الفصل الثاني فجاء حاملا لعنوان : ليس الطير حرا و لا يولد الناس أحرارا ، و يحضر ههنا مخيال الدكتور عزمي بشارة ألوان الأدب بزخرفها ، حيث يضرب لنا مثلا بصورة الطير في تحليقه ، ليعبر لنا بصدق عن توق و سعي الانسان إلى الانطلاق حرا كالعصفور مقاوما بضراوة شديدة كل ما له علاقة بقوة الجاذبية (ص27)، لهذا نجده يقر و بقطعية بأن موضوع مقاله لا يدان لنا البتة بالعثور عليه في عالم الطبيعة ، برغم أن حلم الانسان (بحرية الطيور)، الأخيرة ليست حرة على خلاف البشر (ص 27)، أما الكائنات البشرية العاقلة فتبحث دوما عن الحرية في شتى الدروب المتاحة و الممكنة ، كما أن الحرية مردوفة دوما بقوتي العقل و الإرادة ، ومن دونهما لا سبيل البتة في الحديث عن موضوع الحرية ، هذا بالإضافة إلى أن الحرية لا تتعالق إلا بالكائن البشري العاقل ، فلا يمكن الحديث عن الحرية بالنسبة إلى الكائنات الأدنى من البشر أو التي الأعلى، و في هذا إشارة من الكاتب إلى الكائنات الملائكية التي لا علاقة لها البتة بموضوع الحرية ، لان هذه القضية ليست مسألة مهمة بالنسبة لها ، فالكائنات العليا خلقت لمهمة غير المهمة التي خلقت لأجلها الكائنات العاقلة (البشر)، أو الكائنات الأدنى (الحيوانات).

أما الفصل الثالث فجاء حاملا لعنوان : ملاحظات فلسفية لازمة ، إذ في هذا الفصل بالذات يقر صاحب الكتاب بأنه يعتبر نفسه منضما إلى زمرة من يرسون مصطلح الحرية على الوعي و الإرادة (ص 43)، إلا أننا نجده في الفصل يخوض غمار طروحات الفلاسفة على اختلاف تصوراتهم و تفسيراتهم للحرية بدءا بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ، مرورا بسورين كيركجارد و مارتن هيدغر ، يستهلها بالحديث عن الحرية عند كانط باعتبارها متلازمة بصورة كبيرة مع الأخلاق ، فأول الشرائط التي من خلالها يصير المثل الإتيقي حقيقة واقعانية هو شرط الحرية ، فهذه الأخيرة تعبر عند كانط عن الاستقلال الذاتي و هي عينها الحالة التي ينعت بها الفاعل الأخلاقي حينما يضع لذاته قاعدة فعله ، فالحرية عنده خاصية متعلقة حثيثا بالكيانات العاقلة ، بحكم أن هذه الكائنات لا تعمل إلا مع الحرية (ص 47) ، أما مارتن هيدغر فقد عارض التصور الكانطي  لمدلول الحرية باعتبارها حرية إرادة مستقلة عقلانية ، فهو يفهم الأنا كما يقول عزمي بشارة باعتبارها مؤسسة أنطولوجيا على ممارسات الإنسان الذي يجد نفسه "هنا" مقذوفا في هذا العالم ، و هو يتجاوز مقذوفيته بداية بعلاقة الاهتمام بما حوله (ص49).

كما أن لمارتن هيدغر تفسير آخر وجوداني لمفهوم الحرية يتأسس على ما سيبق حرية الاختيار أو استقلالية الذات العارفة عن العالم الذي تمارس تفاعلها معه ، و يعتبره عزمي حقلا للحرية يتأسس على عدم اليقين المعرفي(ص49).

أما الفصل الرابع : فجاء حاملا لعنوان : الحرية أهي سالبة أم موجبة ؟

يعتقد المؤلف عزمي بشارة أن الحرية السالبة لا تتجلى بذاتها عبر التاريخ ، سواءا بوصفها حرية اختيار تجريدية صرفة ، أم بوصفها دحرا لأي قيد يكبل هذه الحرية و لا تنبجس الحرية الموجبة لوحدها دون أن تتعالق معها صيرورة تحررية ، و يعتبر عزمي أن هذه التمييزات بين حرية سالبة و أرخى موجبة هي من عمل العقل حيث يعمد إلى طرح تصنيفات عقلية لعناصر غير منفصلة في الظواهر الاجتماعية ، مشيرا إلى أن الحرية السلبية تنفي القيود ، كما يعتقد صاحب الكتاب أن ذلك الفصل الاعتباطي بين التحرر و الحريات ماهو إلا عملية مصطنعة ، فالتحرر هو انطلاقة تحمل في طياتها الاستعداد للتضحية و منها ينبجس كل ماهو ذا قيمة تنتج لنا فنونا و آدابا .و الحريات في عصرنا الحالي هي إنجازات يفترض أن يتمتع بها المواطنون شرط أن يتحلوا بالوعي و المسؤولية اللازمة لاحترام حريات الآخرين و مصلحتهم العامة (ص81).

أما الفصل الخامس فجاء بعنوان : عن الانشغال الفلسفي بالحرية ، و في هذا الفصل بالذات يطرح الدكتور عزمي بشارة تساؤلات كثيرة تعبر عن قلق فلسفي عميق ، وتطرقه إلى العلاقة الحميمة بين محددات الإرادة و حرية الإرادة ، و الخيارات الممكنة التي تكمن الانسان من ممارسة هذه الحرية الممنوحة له ، و كذا العمل على محاسبته أخلاقيا باعتباره كائنا مسؤولا عن أفعاله (ص 85)، لكن الدكتور عزمي يعتبر أن هذه الإشكالية قد تناولها بالحث فلاسفة و مفكرين كثر و نالت حظها من الدراسة و البحث و التمحيص ، حيث أن الباحث النبه لا يعثر البتة على فارق كبير بين مناقشته لهذه المسألة فلسفيا في مقابل مناقشتها كلاميا و لاهوتيا ، اللهم إلا في مسألتين الأولى متعلقة بنوع القوى التي تتحكم بالارادة و تنفي حرية الاختيار ، و الثانية إذا ما كان ممكنا معرفة القوى و إدراكها أم لا ؟ ، هذا النقاش الذي تتبع صيرورة تطوره تاريخيا عزمي بشارة مستحضرا لنموذج النقاش الذي دار بين عراب التنوير الألماني إيرازموس و المصلح البروتستانتي مارتن لوثر في شان حرية الإرادة و قدرة الانسان على أن يصنع خلاصه الخاص ، كما تتبع عزمي النقاش كذلك مع الفيلسوف اليوناني أرسطو من خلال كتاباته الأخلاقية و على رأسها كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس ، مرورا بالبراديغم الهيغلي المنظر فلسفيا لمفهوم الحرية و استحضار جدلية العبد و السيد مرورا بالماركسية و تصوراتها لمفهوم الحرية وقوفا عند الفلسفة الوجودية التي تعمقت في مدلول الحرية ميتافيزيقيا خصوصا مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر الذي اعتبر أن الانسان هو الحرية .

أما الفصل السادس فجاء حاملا لعنوان : بعض الأسئة العملية الكبرى ، في هذا الفصل بالذات يطرح الدكتور عزمي بشارة تساؤلات كثيرة و مثيرة و نشيد بالذكر ههنا السؤال المركزي الذي يمكن أن نلخص به مضمون الكتاب كاملا و الذي يثيره حول ماهي سمة الوعي اللازم لممارسة الحريات السياسية ؟، أيشترط الوعي كلزومية لهذه الممارسة ؟، أم أن أية ممارسة للحرية هي شرط يعمل على تطور هذا الوعي ؟ ، و يعتقد ههنا عزمي أن الوصول إلى أسمى درجات ممكنة من الوعي لا يمكن أبدا أن تتم من دون أن نمارس حرية الرأي و التعبير و شتى الحريات المدنية ، إذ يلزم وجود الحريات الفردية كشرط لقيام الديمقراطية الليبرالية ، كما يتساءل الدكتور عزمي و بنوع من القلق المدثر بالصمت: إذا وقعنا بين فكي كماشة و اضطررنا إلى الاختيار بين ممكنين : الاستقرار و حفظ الحياة و الامن و السلام في مقابل الخيار الثاني الذي هو الحرية ، فأيهما سنختار؟

إنه السؤال الذي طالما تداولته ألسنة الشعوب العربية المغلوبة على أمرها ، لكن الدكتور عزمي يعترض على هذا السؤال معتبرا إياه سؤال وهمي فمن يعارض منح الناس الحريات المدنية و السياسية لا يدعي تأييد الظلم بل يقابل الحرية بقيمة أخرى مثل الوطنية و الاستقرار و الحفاظ على الأمن ( ص 113).

أما الفصل السابع و الأخير من الكتاب فجاء حاملا لعنوان : مداخلة بشأن العدالة ...سؤال في السياق العربي المعاصر ، و يحاول ههنا الكاتب عزمي بشارة التعريج على مصطلح العدالة قبل أن يعمد إلى بلورته في السياق النظري بحكم أن المصطلح كما يقول صاحب الكتاب : يقع في حقول دلالية متقاطعة مثل التساوي و المعاملة بالمثل و الملاءمة و الاستقامة ، و غيرها من الدلالات التي يتضمنها اللفظ العربي ( ص 143) ، كما أن تاريخية اعتماد هذا المصطلح بدأت مع نشوء مفهوم الشريعة التي يشكل القانون صلبها، كما أكد الكاتب في آخر مقاله أن أي متتبع لتاريخية تمرحل نضال الشعوب عبر التاريخ ، فإنه سيجد حتما أن الحرية كانت هي الشرط اللازم لقيام العدالة ، و التي تتباين فهوم الناس حولها بتغاير عقلياتهم و ممارساتهم العملية لها.

فيلوبريس