تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عزمي بشارة "في نفي المنفى":الفكريُّ في النضال الوطني الفلسطيني

2017-12-24

مهند مصطفى

"لست سياسيا بالمعنى السائد لمصطلح رجل السياسة، بل مناضل، بمعنى أني قمت بعمل سياسي ضد الظلم ومن أجل العدل" (ص: 29). في هذه الجملة يُلخّص المفكّر العربيّ عزمي بشارة، في تصوري، تجربته السياسية في صفوف الفلسطينيين في مناطق 48. فهو لم يمتهن السياسة، بمعنى أنه لم يكن موظفا في العمل السياسي تنتهي مدة خدمته مع انتهاء منصبه الرسمي، وهو ما يُميز من يمتهن السياسة ويجعل منها وظيفة.

كُتبت الكثير من الدراسات الجامعية والأبحاث العلمية والكتب عن عزمي بشارة في السنوات الأخيرة، حول دوره في تطوير الفكر القومي العربي، وفي إرساء الفكر السياسي لدى الفلسطينيين في إسرائيل، وكتب أكثر عن دوره وتنظيراته حول الثورات العربية، ولا سيما مقاربته القومية للديمقراطية، ومقاربة القومية ديمقراطياً.

وبشارة كتب الكثير عن الفلسطينيين في الداخل، ودراساته لا تزال تمد الباحثين بمقولات تنظيرية لفهم التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية لهؤلاء الفلسطينيين. إلا أن كتاب الأستاذ صقر أبو فخر "في نفي المنفى.. حوار مع عزمي بشارة" ذو أهمية كبيرة في فهم تجربة بشارة السياسية، ودوره في المسيرة السياسية والفكرية للفلسطينيين في الداخل. فالحوارات التي أجراها أبو فخر مع بشارة تناولت في أجزاء منها تجربته الشخصية في الداخل، والفرق بين هذا الحوار مع بشارة والحوارات الأخرى التي أجريت معه، سواء في الصحف ووسائل الإعلام أو في المجلات العلمية أن الحوار الذي نحن بصدده يستنطق تجربة بشارة الشخصية، وهو شهادة لأحد أهم قيادات الداخل السياسية والفكرية حول دوره في مسيرة الفلسطينيين في الداخل. وفي حين أن الحوارات الأخرى كان تهدف إلى سبر أغوار رؤية بشارة عن الداخل، فإن الحوار الحالي هو حول بشارة بينما الحوارات الأخرى كانت عن رؤية بشارة للداخل. وهناك فرق كبير بين النمطين من الحوارات، بين فهم الواقع كما هو وقد أبدع وجدّد بشارة في ذلك، وبين فهم شخصية ساهمت في التأثير وصوغ هذا الواقع.

في هذا الحوار نلمس دور بشارة كمناضل في مجالين، السياسة والفكر. فالنضال قد يكون عبر الكتابة وعبر السياسة. وهذا ما يصنع الفارق بين الفكر والكتابة كوظيفة وبين السياسة كمهنة. فالفلسطيني كأكاديمي ومثقف ومفكر في السياق الاستعماري يجب أن يكون مناضلا، لأنه منحاز إلى قضية عادلة، وفيما عدا ذلك تتحول الكتابة إلى فعل وظيفي تسعى للتقدم الشخصي في الإطار الاستعماري دون تحديه، وتتحول السياسة إلى وظيفة تنتهي صلاحيتها بعد انتفاء منصبها.

يشير بشارة في الحوار معه إلى النقاش الذي دار بينه وبين الحزب الشيوعي الإسرائيلي عندما كان منتميا للحزب، وهو نقاش فكري صاخب يصفه بدقة متناهية يتعلق بالقضية الفلسطينية، والمسألة القومية والعلاقة مع الدولة، وكله أفضى إلى خروج بشارة من الحزب لاعتبارات فكرية سياسية. كما يوضح لاحقا النقاش مع مواقف الحزب الشيوعي التاريخية، ولا سيما بعد النكبة وخلال تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، والخطاب الفكري الذي يستأنف أيضا على الخطاب السياسي الذي كان للحزب الشيوعي في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل.

خطاب جديد

يؤكد بشارة في هذا الحوار ما كان قد كتبه سابقا أن بداية التفكير في إعادة بناء حركة وطنية في الداخل ظهرت بعد أوسلو، غير أنه لا يتنكر لمحاولات إحياء حركة وطنية منذ السبعينيات. لكن جرت تحولات سياسية واقتصادية متعلقة بالحركة الوطنية الفلسطينية والسياسات الإسرائيلية التي تبنت نمطا جديدا من الأسرلة ينتقل من عزل الفلسطينيين في الداخل عن محيطهم العربي، إلى محاولة احتوائهم عبر حقوق اجتماعية واقتصادية في المواطنة الإسرائيلية. ويسرد بشارة في هذا الحوار أنه خلال العقد ونيّف الذي سبق أوسلو تحولت الحركة الوطنية في الداخل إلى مبعثرة، وهنا حان الوقت لتنظيمها تحت وطأة التحولات الجديدة في السياسة الإسرائيلية والتوجهات الفلسطينية التي تعاملت مع الفلسطينيين كاحتياط لقوى "السلام الإسرائيلية"، ووصلت ذروة هذه التحولات في اتفاق أوسلو. وفي هذا الصدد يقول بشارة:

"راحت قوى مبعثرة من بقايا الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل تلتقي، وشرعنا في اجتماعاتٍ نفكّر فيها في كيفية العمل بعد إبرام اتفاق أوسلو. بدأنا نلاحظ عودة بعض الفلسطينيين إلى الأحزاب الصهيونية، وعدم الخجل من تنظيم انتخابات تمهيدية واسعة النطاق للأحزاب الصهيونية في المناطق العربية. وكان لي رأي آنذاك، اعتمدته لاحقًا الأغلبية الساحقة من قوى الحركة الوطنية التي بدأت تتشاور جديًّا، ويتلخص هذا الرأي في أنه يجب أن نبدأ بخطابٍ جديد تمامًا، حيث يأخذ في الحسبان الهوية العربية الفلسطينية وقضية فلسطين ومصالح المواطنين العرب، وارتباطهم الحياتي بالواقع اليومي للناس، ومعاش الناس، وحقوقهم السياسية ولو كانت مجتزأة. فنحن لا نستطيع أن ندير ظهورنا لهذه الأمور ونتوجه إلى العالم العربي فحسب، خصوصًا أن وجه أغلبية عرب الداخل يتجه نحو المواطنة الإسرائيلية" (ص: 117).

يوضح بشارة في هذا الحوار أن المواطنة تحمل في ذاتها تحديا للصهيونية إذا أخذت إلى مداها البعيد مع هوية وطنية فلسطينية، وهنا جاء اقتراح بشارة في اجتماعات تنظيم الحركة الوطنية وبداية تأسيس التجمع، وكانت استراتيجية بشارة كما يلخصها هو في هذا الحوار على النحو التالي: "لنأخذ إذًا قضية المواطنة التي تتضمن خصوصية عرب الداخل في الاعتبار، ونذهب بها حتى النهاية، كي ندخلها في تناقضٍ مع الطبيعة الصهيونية لإسرائيل، وفي الوقت نفسه، نبني الحركة الوطنية، ونؤكد الهوية العربية الفلسطينية لعرب الداخل وحقوقهم الجماعية كسكان أصليين. وغادرنا هنا تمامًا مسألة الأقلية وحقوق الأقلية" (ص: 118).

في هذه الحوارات يقدم بشارة رؤيته للعمل البرلماني، ومن حق الرجل التأكيد أن ما قاله في الحوار في ظل المنفى ليس مغايرا لما قاله وهو في الوطن، فموقفه من العمل البرلماني لم يتغير، ولم يدفعه المنفى وقسوة الملاحقة إلى تغيير رأيه حول أهمية العمل السياسي البرلماني كجزء من نضال الفلسطينيين في الداخل، وفي نفس الوقت يقدم بشارة في الحوار تجربته في العمل البرلماني وما يحمل من القرارات الصعبة على مستوى الذات.

يقول بشارة "بالنسبة إليّ كان الوجود في البرلمان صراعًا يوميًا مع الذات، وكان عبئًا حقيقيًا. أقول هذا كمثقف لا كوطنيّ فلسطيني فحسب" (ص: 123). المشكلة في نظر بشارة أن يتحول الدخول إلى الكنيست إلى إنجاز لذاته، فهو يفرق بين وجود العرب في الكنيست، وبين "أن نمثّل عرب الداخل بخط وطني ديمقراطي، وأن نحافظ قدر الإمكان على التوازن النفسي الداخلي، حيث لا نمثل أدوارًا لا تليق بنا" (ص:123). وفي مكان آخر يضع بشارة الفروقات بين التصورات المختلفة للعمل البرلماني، الذي لا يزال يعتقد أنه مهم من وجهة نظره، وللعمل السياسي الحزبي الفلسطيني، فيقول: "والفارق هو في المواقف والسلوك في الكنيست، أي إن ثمة فارقًا في المواقف والمسلك السياسي تجاه المؤسسة الحاكمة بين النواب العرب. ولا يستطيع أن يرى هذه الفوارق كل من يعتبرهم أبطال مناضلين لأنهم في الداخل، كما لا يراها من يعتبرهم خونةً لأنهم في الداخل أيضًا" (ص: 122).

لا شك في أن الدور المركزي الذي أدخله بشارة إلى الخطاب السياسي للفلسطينيين في الداخل، كما يظهر من حواراته مع أبو فخر، والتي لا يمكن أن يدعيه أحد بالسبق الفكري عليها ليس كتنظير سياسي فلسفي أو أكاديمي بل بتحويله إلى خطاب سياسي، هو إعطاء معنى جديد لمفهوم المواطنة من مفهومها الاندماجي حتى النهاية في البنية الاستعمارية دون تحدي هذه البنية، إلى ناحية مفهوم يتحدى هذه البنية ويزجها في تناقضات مع ذاتها (أي خطابها الدعائي) ومع مفهوم الديمقراطية الإسرائيلية المأخوذ من القرون الوسطى. في هذا السياق يشير بشارة إلى أن تحقيق المساواة لا يتم إلا من خلال نزع الصفة الكولونيالية عن إسرائيل (ص:131).

التراث الإسلاميّ وتأسيس

التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ

علاوة على ذلك، فإن أكثر ما يشدني شخصيا في فكر بشارة، وهو تجديد في نظري، هو التأطير النظري- السياسي لمقاربة القومية ديمقراطيا، من خلال طروحات نظرية لمفهوم الأمة، الهوية القومية، العلاقة مع التراث الإسلامي. وفي هذه النقطة الأخيرة تحديدا، أي التراث الإسلامي، كان بشارة من الباحثين الأوائل من التيار العلماني الذين اعتبروا التراث الإسلامي جزءًا من الشخصية الثقافية للفلسطينيين في إسرائيل، فلم يتعامل معه بعدائية بل بعين متبصرة وناقدة، في محاولة لنزع السحر عنه من جهة، وكسر احتكاره من جهة أخرى. هذا التراث الذي لا يزال محط جهل من علمانيين وفهم قاصر من إسلاميين. من يعتبر كل ذلك أنه ليس تجديدا في الخطاب السياسي للفلسطينيين في إسرائيل، بغض النظر عن تأييده له أو معارضته أو تحفظه، فإنه لا يعطي الرجل حقه ويهدف عن سبق إصرار إلى اختزال دوره.

يقدم بشارة في الحوارات شهادته الشخصية على تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، ويبدأ بحركة ميثاق المساواة، التي يتضح من الحوار أنها كانت حلقة لقاء وتفاكر لجمع من الناس يؤمنون بدولة المواطنين ونزع الصفة الصهيونية عن دولة إسرائيل، وتشكلت من عرب ويهود، إلا أن التجمع كان حزبًا سياسيًا فلسطينيًا انضم إليه أفراد من حركة ميثاق المساواة إلى جانب حركات أخرى مثل أبناء البلد والحركة التقدمية، وكان هدف التجمع الأساسي حسب ما أشار إليه بشارة الحفاظ على "الهوية الفلسطينية للعرب في إسرائيل [من الانهيار] بعد اتفاق أوسلو إذا لم تكن لدينا حركة وطنية للعرب الفلسطينيين في الداخل وكانت أولويتنا السياسية هي البدء فورًا في هذه المسألة" (ص: 126). ويوضح بشارة أن حركة ميثاق المساواة كانت بالأساس من عرب تركوا الحزب الشيوعي بسبب خلافهم معه على القضية القومية والديمقراطية. ولفهم هذه المسألة تحديدا، على المُراجع أن يفهم في مكان آخر من الحوارات موقف بشارة من العلاقة التي نشأت بين الأنظمة الشيوعية والديمقراطية والمسألة القومية.

على كل حال، ولدى العودة إلى تأسيس التجمع، يشير بشارة إلى أن التجمع قام على أساس الدمج بين هذه الحركات وحركات أخرى محلية وأعضاء مستقلين، وغير الإيمان بالفكرة كانت مهمة الدمج صعبة، فهي لا تفترض التحالف بين هذه المركبات بل دمجها في حزب سياسي ينطلق مما كان ويجدد فكريا وسياسيا بناء على التحولات السياسية والفكرية الجديدة. لذلك فإن من لم يقبل بفكرة الاندماج خرج من التجمع، فمثلا خرجت حركة أبناء البلد كتنظيم وبقي في التجمع أفراد كانوا في الحركة. واستطاع التجمع أن ينجح بصياغة هوية تجمعية حزبية وفكرية بالاعتماد على الجيل الجديد الذي لم ينتم سابقا لأحزاب، ولم يحمل ترسبات الفصائلية والتعصب الحزبي.

يشير بشارة إلى طرح التجمع المركزي بالنسبة لفكرة المواطنة، طرح يراه بشارة تجديدا نظريا وسياسيا في مسيرة الفلسطينيين في إسرائيل، يتعلق بالعلاقة بين الحقوق الفردية والجماعية، وكيف تستطيع كل منظومة من هذه الحقوق تحدي الطابع اليهودي- الصهيوني للدولة:

إن "أي دولةٍ حديثة يمكنها تقبّل فكرة أن للأفراد حقوقًا بصفتهم مواطنين لا باعتبارهم جماعة. وعلى الأفراد أن يختاروا إما أن تكون لهم حقوق جماعية أو حقوق فردية. أعتقد أن الحل الذي طرحناه فريد، وهو أن هناك حقوقًا فرديةً وحقوقًا جماعية في الوقت نفسه. لكن ما يميّز الفكر السياسي الليبرالي الذي يقبل فكرة الحقوق الجماعية أصلًا، أنه يشتقّ الحقوق الجماعية من الحقوق الفردية. الفلسطينيون موجودون قبل دولة إسرائيل، والحقوق الجماعية لمن بقي هي حقوق سكان أصليين شُرّدت أغلبيتهم. ولذلك فهذا الاشتقاق نظري وليس تاريخيًا، وهو محاولة لصياغة حقوقية في إطار قانوني. عمومًا وُجدت الحقوق الجماعية قبل الحقوق الفردية، وحقوق القبيلة والعشيرة ظهرت تاريخيًا قبل حقوق الأفراد. وعلى هذا المنوال، ترسّخت حقوق الشعوب والإثنيات، بينما تطورت حقوق الأفراد لاحقًا. وتنطلق الديمقراطية الليبرالية من حقوق المواطن الفردية، ومنها الحق في الانتماء إلى جماعة، وحقه أيضًا في هويةٍ قومية. وركّبنا هذا التركيب، وبات من الصعب تحدّيه. عندما أقول للإسرائيليين إنني أريد أن أكون مواطناً متساوي الحقوق، فإن هذا القول يعني أن تكون الدولة لجميع مواطنيها. وحقنا هذا ينبع من كوننا السكان الأصليين" (ص: 128).

ينتقل بشارة إلى مقاربته لفهم الفلسطينيين في الداخل، والإطار النظري التحليلي الجديد الذي قدمه عبر كتاباته لفهم واقعهم سوسيولوجياً، والتي تستأنف على المقولات الإسرائيلية الأكاديمية المهيمنة، فيشير إلى ثلاث خصوصيات تتعلق بالفلسطينيين في الداخل، فقدان المدينة، فقدان القرية والتحول إلى هامش لمشروع استيطاني نقيض (ص:135). كما يشير بشارة إلى الفرق بين الريف العربي في الداخل وبين الريف العربي عموما في مقاربة سوسيولوجية مهمة: "هذا الريف هو الأغرب في الوطن العربي كله. فالقرية العربية في الداخل تكبر وتكبر بلا حدود، وما عاد لديها أرض زراعية. وأبناؤها غالبًا عمال وموظفون تقع أماكن عملهم خارجها. في لبنان مثلا يحافظ الريف على مساحته تقريبًا، لأن هناك هجرة مستمرة منه. وفي الريفين السوري والمصري الأمر نفسه، ثم إنه ريف زراعي بحكم تعريفه. أما القرية الفلسطينية التي نتحدّث عنها فتكبر باستمرار لعدم وجود مدينة تهاجر إليها، وتصبح بالتدريج بلدةً مزدحمة، كأنها مدينة من دون بنية مدينية، وتركيبتها السكانية غير مدينية. إنها بلدات من دون زراعة، ومجمّعات سكنية لأناس متحدرين من فئات فلاحية، تحولوا عمالا وموظفين وطبقات وسطى....." (ص: 135).

تفكيك مفاهيم

مُؤسسة ودارجة

نجح بشارة في المساهمة في الخطاب السياسي للفلسطينيين في الداخل ربما أكثر من أي قيادي آخر، ونجح في تفكيك مفاهيم مُؤسسة ودارجة في الخطاب السياسي الفلسطيني في  إسرائيل، وفي سياق ظواهر اجتماعية وسياسية أخرى. ويبقى في مقدمها مفاهيم المساواة، المواطنة والحقوق الجماعية، الثقافة والهوية القومية، تنظيم الأقلية العربية، المسألة الطائفية، العائلية، الشراكة العربية اليهودية، اليسار، الإسلام السياسي، الطبقية والمجتمع الاستهلاكي.

وكان بشارة وطنيا فلسطينيا لكن انتماءه احتضن كل المدن والعواصم العربية. فقد حلق فكره فوق هذه العواصم والمدن، وتلقفته هي بدورها ليشكل منارة فكرية في المشروع القومي العربي.

لا يرى بشارة تناقضا أو تراتبية في وطنيته وقوميته وانتمائه للحضارة الإسلامية، لذلك فإن مشروعه بشأن الديمقراطية والمواطنة كان مشروعا قوميا عربيا. فالمشروع الديمقراطي وفي جوهره المواطنة، كان مشروعه السياسي ضمن نضاله في الداخل ضد الصهيونية ومن أجل حياة كريمة للإنسان، وليس الفلسطيني فحسب، وكان مشروعه السياسي للأمة العربية، وللشعوب العربية، ولا سيما بعد الثورات العربية، التي بشرت ببداية مرحلة ديمقراطية نظّر لها بشارة وساهم في تطويرها فكريا وسياسيا قبل الثورات وخلالها وبعدها.

واستمر بشارة خلال السنوات الأخيرة في الدفاع عن المشروع الديمقراطي معرفيا وسياسيا ولم ترهقه الثورات المضادة وتعثر الثورات الديمقراطية عن التنظير والمساهمة الفكرية والسياسية في طرح خيار المشروع الديمقراطي والمواطنة. فمن جهة مشروع مواطنة يواجه فكرة المواطنة الإسرائيلية التي تنتمي فكريا إلى القرون الوسطى كما يصفها بشارة، ومن جهة أخرى مشروع مواطنة يواجه الاستبداد والطائفية في العالم العربي.

كان بشارة ولا يزال متسلحا بمشروع ديمقراطي وبخطاب المواطنة، وساهم من خلالهما في تطوير الفكر القومي العربي، فبشارة هو منظر للفكر القومي العربي وحلقة فكرية مهمة في سيرورة تطوره من خلال مقاربته ديمقراطيا. ومشروع المواطنة لمن لا يعرف أو يتجاهل ليس مشروعا وطنيا فلسطينيا بالنسبة لبشارة، بل هو مشروع قومي عربي.

كما كان بشارة مجددا فكريا، ساهم في تبلور سوسيولوجيا فلسطينية جديدة، لا يمكن تجاوزها في دراسة مكانة وتطور الفلسطينيين في إسرائيل. وما يميز كتابات بشارة أنه كلما عدنا إليها تجدد لنا، فهي ليست مقالات أكاديمية الوظيفة (وهي تسمية لبشارة طبعا) ينتهي مفعولها الأكاديمي ولا سيما دورها المعرفي حين يتم نشرها، بل هي مقولات مناضل أكاديمي وسياسي يستمر في نضاله وهو في المنفى، ونضاله فكري منحاز لقضايا الأمة العادلة.

* د. مهند مصطفى- مدير عام "مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية"، حيفا

*"في نفي المنفى" / حوار صقر أبو فخر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 367 صفحة قطع كبير، 2017