تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

أنا وعزمي بشارة: سيرة ذات اتجاه واحد

2011-06-13

سلطان العامر

’’كل دولة بمواطنين دون مواطنة لا يعول عليها.
كل مواطنة تشمل انتماء لدولة ولا تشمل انتماء لمجتمع لا يعول عليها.
كل مواطنة دون مساهمة في إنتاج خير عام في الحيز العام ليست مواطنة ولا يعول عليها.
أي مواطن لا يدافع عن حيزه الخاص لا يعول عليه.
أي امتياز مولود، أي فضل مولود لمواطن على آخر ينسف المواطنة ولا يعول عليه.
كل مساواة لا يسبقها مساواة أمام القانون، وكل قانون لا يساوي بين الناس فيما لا فرق فيه لا يعول عليه.
كل مساواة تختزل إلى تشابه ولا تتضمن فرقا لا يعول عليها.
كل دولة ليس فيها فصل بين الحيز الخاص والعام، والمال الخاص والمال العام ليس فيها فساد، لأنه ليس فيها غير الفساد، ولا يعول عليها.
كل إصلاح دون مصلحين إصلاحيين لا يعول عليه.“ عزمي بشارة- عام ٢٠٠٦م

بين رأيين

في صيف ٢٠٠٦، كان من المقرر علي أن أتم تدريبي الصيفي في الرياض في شركة موتورولا. في ذلك الوقت، كنت أكتب في عدد من المنتديات العربية والسعودية المتخصصة بالنقاشات الفكرية والسياسية والدينية. لم أكن قبل ذلك الصيف آبه كثيرا بالسياسة، وعندما وقعت حرب تموز في لبنان، وبدأت الطائرات الإسرائيلية تضرب لبنان، أصدرت الحكومة السعودية بيانا ذكرت فيه أنها “تعلن بوضوح أنه لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية وبين المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومن وراءها دون رجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها ودون تشاور أو تنسيق مع الدول العربية فتوجد بذلك وضعاً بالغ الخطورة يعرض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول. إن المملكة ترى أن الوقت قد حان لأن تتحمل هذه العناصر وحدها المسئولية الكاملة عن هذه التصرفات غير المسئولة وأن يقع عليها وحدها عبئ إنهاء الأزمة التي أوجدتها”. كانت اللهجة الشديدة والواضحة في تحميل حزب الله مسؤولية الحرب غير معتادة على لغة الدبلوماسية السعودية، لكنها أثارت زوبعة من النقاشات في المنتديات الإلكترونية وقتها.

في خضم هذه النقاشات، ذكرت رأيي بشكل مختصر وواضح، قلت التالي: “تصريح ممتاز.. الناصرية انتهت، والعرب ليسوا وحدة واحدة. المصلحة أولا.. المصلحة أخيرا. نسيت أن أضيف، أن العاطفة… لا ترفع الأمم… وحده منطق المصلحة العليا”. وعندما لاحظت تأييد البعض للبيان من منطلق عداء طائفي لحزب الله، أوضحت موقفي بشكل أكثر تفصيلا فقلت ” هناك من يؤيد هذا التصريح، انطلاقا من عداء مذهبي مع حزب الله. هؤلاء كحزب الله، قد اعمتهم الأيديولوجيا. أنا لا أحب الخوض في التحليلات السياسية. لكن بعيدا عن كل مسبقات ناصرية لا أساس لها، ما يجري الآن سيعود بالخير على اللبنانيين. ستتكفل اسرائيل هذه المرة بالقضاء على حزب الله. إذا نظرنا للمسألة من عين المصالح السعودية، فإنه من صالح المملكة أن يدك حزب الله، خصوصا بعد استيلاء أنصار إيران على العراق. وإذا نظرنا لها بعين المصالح اللبنانية، فما يجري اليوم هو ضريبة لغد مشرق، تكون فيه الأرض اللبنانية تحت سيادة الحكومة اللبنانية، لا مليشيات موزعة هنا وهناك. العروبة ، والإسلام .. روابط وجدانية .. لا مكان لها في غرفة صناعة القرار”.

ومن خلال هذا الرأي يمكن ملاحظة الرؤية التي كنت أرى بها الأمور في ذلك الوقت: أنا سعودي قبل أي شيء آخر، ومصالح السعودية مقدمة على كل شيء، على الروابط القومية والدينية وغيرها.

بعد عامين اثنين، بعد أن تخرجت وعدت إلى بريدة للعمل في شركة الكهرباء، حدثت اشتباكات داخل بيروت. كتبت حينها قائلات:

“ما يحدث في لبنان هو شرارة حرب أهلية. نحن، كيف ننظر إليه؟ يتوقف جواب هذا السؤال على تحديد ما المقصود بـ “نحن”.

فإن كنا نعني بنحن، هذه الأمساخ التي تتنعم ببيع نفطها ومواردها للآخر الذي رسم حدودنا وأنشا مؤسساتنا والقابض على أنفاسنا. أمساخ لا ترى مما يحدث في لبنان سوى فوات “عربدتها في الإجازة الصيفية” ولا يرى في لبنان سوى تلك الأساطير عن الحرية والحب وغيرها. إن كنا هؤلاء، الحداثيين في مظاهرنا الاستهلاكية، التقليديين حدّ الجاهلية في دواخلنا، فطبعا فنحن سنقف إلى جانب الدولة ذات المؤسسة الطائفية.

أما إن كانت هذه الـ “نحن”، نحن المستضعفين في الأرض، الذين مقتوا هذه الجروح المفتوحة، الذين ما زالت في قلوبهم بقيّة من كرامة يرون من خلالها الواقع من فوق أرتال البضائع المستهلكة، فإن كانت هذه هي الـ “نحن”، فسنقف لجانب حزب الله. لأنه يسعى لتغيير الخارطة، خارطة سايكس بيكو، التي لم يستطع العرب، رغم كل ثوراتهم وكل انقلاباتهم، لم يستطيعوا التأثير على حدودها.”

كيف أمكن حدوث مثل هذا الانقلاب الجذري من الانحياز للدولة القطرية ضد الأمة العربية، إلى الانحياز للأمة العربية ضد الدولة القطرية؟ أو بلغة ما قبل البوعزيزي: من محور الاعتدال إلي محور الممانعة؟ من بين جملة من الأسباب المتنوعة يأتي على السطح عزمي بشارة.

نادي الكتاب

في ذلك الصيف نفسه الذي وقعت فيه حرب تموز، وفي احدى استراحات الغداء في مطعم هارديز في حي السلي في الرياض، وقعت في يدي جريدة الحياة، وقرأت مقالة غريبة بعنوان “لبنان بين الشرق الأوسط الكبير والجديد“. لم أكن أعرف اسم كاتبه- عزمي بشارة- وعلى الرغم من طريقة التحليل الغريبة التي قرأتها، إلا أن حساسيتي المبالغ بها تلك الأيام من كتاب الشام ومصر وقفت حاجزا بيني وبين فهم ما يقول. يمر عام، وتبدأ محاصرة غزة بسبب انتصار حماس في الانتخابات، حيث كان موقفي متسقا مع انحيازي للدولة السابق. وفي نقاش مع أحد أصحابي الإسلاميين في السكن الجامعي قدم لي مقالة في جريدة الحياة بعنوان “امتحان حماس بعد السيطرة على غزة“، لأتفاجأ أنها لنفس ذلك الكاتب الذي عرفت أنه مسيحي ويدافع بشراسة عن المقاومة بهذا الشكل، ولكني هاجمته باعتباره محض قومجي عروبي ذو لغة خشبية تنتمي للخمسينات الميلادية. انتهى الصيف وتخرجت مهندسا، وفي رمضان عدت إلى المنزل في بريدة. وما إن انتهى العيد حتى رجعت إلى المنطقة الشرقية بحثا عن عمل. وفي شهر نوفمبر، الشهر الذي بدأت فيه العمل في مكتب هندسي في الخبر وكتابة المقالات في جريدة عكاظ، وفي نفس الوقت الذي كان ينعقد فيه مؤتمر أنابوليس للسلام، كنت في السيارة أستمع إلى إذاعة الجزيرة التي تصلنا متقطعة من قطر، حيث كان عزمي بشارة مستضافا للتعليق على اشتراط “يهودية الدولة” الذي وضعه الاسرائيلين للبدء بالمفاوضات، حيث قدم تحليلا كالعادة غريبا بالنسبة لي.

مرت خمسة أشهر، حيث كنت في الرياض مع الصديق طارق المبارك نحضر ندوة لعبدالوهاب المسيري في مركز الملك فيصل للدراسات الاسلامية. تحدث المسيري عن الدور الذي لعبته دائرة الأصدقاء التي كانت محيطة به في تنمية أفكاره ومناقشتها ونقدها، فقررنا أنا وطارق تأسيس نادي كتاب على مستوى المملكة يضم مجموعة من المهتمين لتكوين حلقات نقاشية متنوعة في مختلف المناطق. بدأنا بحشد الأسماء في الرياض والقصيم والشرقية والحجاز. تناقشنا كثيرا أنا وطارق على الكتاب الأول، اقترح هو “المسألة العربية” وكنت رافضا لها، لكنه أصر لأنه كتاب يناقش عوائق التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، وبعد لأي وافقته. كانت في السعودية ٤٠ نسخة من الكتاب موزعة ما بين مكتبة الكتاب في الرياض مكتبة المتنبي، فاشتريتها كلها، فكنت يومها الوحيد في السعودية الذي يتوفر على جميع نسخ هذا الكتاب. وبينما كنا نجمع الأسماء وندعوهم ونرسل لهم الكتاب، تمت دعوتنا من قبل ذاكر الحبيل إلى ثلوثية جعفر الشايب حيث سيقوم عبدالعزيز قاسم بتقديم “قراءة في مسيرة التقارب بين المذاهب” – عندما كان مزاج الدولة يشجع التقارب والحوار قبل أن ينقلب لتشجيع الطائفية- وأثناء تقديمي لفكرة نادي الكتاب، قال ذاكر الحبيل عندما عرف أننا سنقرأ لعزمي بشارة: “هذا المفكر سيكون له تأثيرا على الجيل القادم، أكثر بكثير مما كانه تأثير محمد عابد الجابري على الجيل الحالي”. حددنا موعدا بعد شهر، وبدأت قراءة الكتاب.

في المسألة العربية

كان شهر فبراير ٢٠٠٨ حيث كان مخصصا بالكامل لقراءة هذا الكتاب: “في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي“. يبدأ الكتاب بالتفريق بين “تأسيس الديمقراطية” و”إعادة انتاجها”. عندما تحدث انتخابات في الولايات المتحدة قد تأتي بالحكم بشخص غير ديمقراطي مثل جورج بوش، لكن هذا لا يضر العملية الديمقراطية نفسها لأنها تأسست وترسخت وتحميها مؤسسات متنوعة، لكن عملية “تأسيس الديمقراطية” والبدء بها لا بد أن يقوم بها ديمقراطيون. وبهذه العبارة الأخيرة يقطع الطريق أمام كل الدعوات التي باركت تأسيس الديمقراطية عبر البارجات الأمريكية كما حدث في العراق، إذ آلت في النهاية لفدرالية طوائف  و”لا يصح أن تقوم الديمقراطية الفدرالية بين عشائر، أو طوائف، لأن الأخيرة تلغي مفهوم المواطنة داخلها، او تحدده وتحاصره بشكل جدي، فهي تعيق العلاقة المباشرة فرد-مجتمع التي هي أساس العلاقة مواطن-دولة، أي أنها تلغي مفهوم الحقوق وبالتالي الديمقراطية التي تستند إليها. “بعد هذا التفريق بين “إعادة انتاج الديمقراطية” و”تأسيس الديمقراطية” واستلزام الأخيرة لديمقراطيين يقومون بها، أي إلى تيار وطني يؤمن بالديمقراطية ويدفع باتجاهها، تصبح المهمة أمامهم أصعب بكثير من غيرهم: فهم لن يحظوا بالفترة الزمنية ولا الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبنيوية التي حظي بها الغرب لتطوير ديمقراطيته بالتدريج على مدى قرن ونصف من الزمان، بل عليه أن يقوم بكل شيء دفعة واحدة وبجهد مضاعف.

ومن هذه التحديدات، يدرس عزمي بشارة العوائق التي تمنع التحول الديمقراطي داخل إطار ما يدعوه “المسألة العربية”. فعوائق مثل القبيلة، الثقافة السياسية، الاقتصاد الريعي، لا تمثل عائقا بذاتها، ففي تجارب أخرى وجدت مثل هذه الظواهر لكنها لم تمنع تلك الدول من التحول الديمقراطي. إن ما يجعل هذه الظواهر عوامل ممانعة للتحول هو ارتباطها بهذه المسألة العربية. فما هي هذه المسألة؟ هل هي مسألة في جينات العرب؟ في ثقافتهم؟ في دينهم كما يحلو للمستشرقين والنيوليبراليين أن يرددوا؟ يجيب عزمي بشارة عن هذا التساؤل بالتالي: أن العرب هم أكبر أمة في العصر الحديث التي لم تنل حق تقرير المصير. فالدولة التي لم تحسم مسألة هويتها القومية، وبالتالي مسألة شرعيتها غير المستقرة، فورا ما تنحل إلى المنطق الطائفي والقبلي والتحالف مع الخارج ضد الداخل، باختصار إلى “سلطات” أكثر منها دول. إذ لا يمكن بناء ديمقراطية في دولة لم تؤسس بعد شرعيتها وتحسم مسألة هويتها. ومن هنا تصبح مسألة العروبة متساوقة مع مسألة الديمقراطية، فديمقراطية في دولة لم تحسم مسألة هويتها، ستتحول في أحسن أحوالها إلى ديمقراطية طوائف كلبنان أو قبائل كالكويت، أي ليست ديمقراطية مواطنين.

والهوية القومية هي الانتماء إلى أمة متخيلة وليست الانتماء إلى دين فالأمريكي هويته أمريكية ولا يمنعه ذلك من أن يكون مسلما مثله مثل الصيني والفرنسي، فالاسلام مثله مثل المسيحية واليهودية دين ليس هوية، ولا مشكلة بينه وبين الديمقراطية، والدليل تحول عدد كبير من الدول ذات اكثريات مسلمة إلى الديمقراطية، تركيا، باكستان، اندونيسيا ودول افريقية وغيرها. فالدين، أي دين، لا يعيق الديمقراطية، بقدر ما هو “التدين”، أي قيام بعض مؤسسات اجتماعية بتوظيف التدين وتحويل الدين إلى هوية من أجل إعاقة التحول الديمقراطي، وهؤلاء عندما يحولون الدين إلى هوية يفتتون المجتمع، لأن الهوية الدينية انقسامية: فعندما نقول الهوية هي الاسلام: أي اسلام؟ السني أم الشيعي؟ السلفي أم الصوفي؟ وكلما حصرنا الاسلام بتعريف محدد وجعلناه هوية الدولة اقتضى ذلك تقسيم المجتمع إلى “المنتمين للهوية” والذين ينعمون بالمواطنة الكاملة، وغير المنتمين للهوية فمباح أن يتم اضطهادهم أو إنزالهم منزلة خاصة بهم.

هذا الكمّ المرتب والمنسق من التفسير والتفكير المتدرع بترسانة ضخمة من النقولات والاستشهادات وغيرها، أحدث لي صدمة. كانت أطروحات عزمي تتجاوز بشكل لا يمكن وصفه الطرح القومي التقليدي، والأطروحات الإسلامية، وحتى الاطروحات الإسلام-قومية التي كان يحاول صياغتها الجابري وغيره. إن بشارة حفر بشكل أعمق في واقع العرب ليفتش عن جذور مشاكله، في حين أن غيره حفروا في الماضي وفي تواريخ أخرى لمعرفة جذور مشاكلهم.

في الدوحة

دفعتني قراءة “في المسألة العربية” إلى قراءة الكتاب السابق له، أعني “المجتمع المدني: دراسة نقدية مع إشارة إلى المجتمع المدني العربي”. ويبدئها بانتقاد التصور السائد عن مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها “منظمات القطاع الثالث” أو “مؤسسات غير ربحية” توجد في المجتمع لتقوم بمهام تتحول إلي “امتداد للدولة”، في حين أن مؤسسات المجتمع المدني هي في الأساس مؤسسات “ضد الدولة”، أي توفر لأفراد المجتمع الأدوات التي تحميهم من أدوات القمع التي تتوفر عليها الدولة. كما يندد بأطروحات “استجلاب المؤسسات المدنية من الخارج” قائلا “كما أنه لا يمكن استيراد أمة من الخارج لا يمكن استيراد مجتمع مدني من الخارج”. يتتبع عزمي بشارة تطور وتشعب هذا المفهوم في مختلف الأطوار الغربية ويبحث تجلياته في المجتمع العربي موظفا كل امكانياته الفلسفية والفكرية وخبرته السياسية.

من شهر فبراير إلى شهر سبعة، أصبح عزمي مثيرا جدا بالنسبة لي، وبدأت بقراءة مقالاته، كتبه، مشاهدة لقاءاته محاضراته، تتبع سيرته. فعزمي ولد في مدينة المسيح، الناصرة، القابعة تحت الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٥٦. وفي سن الـ ١٧ عام ١٩٧٤ أسس اللجنة القطرية لطلاب الثانوية العرب التي شكلت من كافة المدارس العربية وكان أول رئيس لها. بعد ذلك بسنتين، عندما كان يدرس في جامعة حيفا، مثل اتحاد الطلاب الجامعيين العرب- الذي شارك في تأسيسه- للدفاع عن الأراضي العربية. تخرج عام ١٩٧٧ من جامعة حيفا، ليكمل دراسته الأكاديمية في الجامعة العبرية في القدس التي تخرج منها عام ١٩٨٠. بعد تخرجه انتقل لألمانيا الشرقية لمدة ست سنوات لينال الامتياز في شهادة الدكتوراة في الفلسفة عام ١٩٨٦ حيث عاصر بذور أجواء ربيع الثورات في أوروبا الشرقية. بعد عودته من ألمانيا أمضى الفترة ما بين ١٩٨٦-١٩٩٥ ما بين التدريس والبحث في الجامعات والمؤسسات البحثية في إسرائيل والضفة الغربية حيث عاصر الانتفاضة الأولى.

لم يحن عام ١٩٩٥، إلا ويقوم بإنشاء “حزب التجمع الوطني الديمقراطي” الذي هو “حزب ديموقراطي يمثل المواطنين العرب في اسرائيل، حزب قومي عربي وطني فلسطيني، ديمقراطي في فكرة ونهجه وفي أهدافه السياسية والاجتماعية، ملتزم بمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والشعوب، ويعمل في ظروف السكان الاصليين الفلسطينيين داخل إسرائيل، وفي ظروف المجتمع الإسرائيلي والمواطنة الاسرائيلية بشكل عام، على الربط بين الهوية القومية ومبادئ الديمقراطية ومتطلبات بناء مجتمع حر عصري متطور، ويسعي إلى تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية يضم الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني”. ويخوض الانتخابات لينجح فيها ويصبح نائبا عن التجمع في الكنيست الإسرائيلي عام ١٩٩٦ واعيد انتخابه مرة أخرى عام ١٩٩٩.

في عام ١٩٩٩ وأثناء مشاركة في مظاهرة ضد أمر بهدم بيت أحد السكان العرب في مدينة اللد أصيب بعيارات مطاطية، بالاضافة لتعرض منزله إلى الاعتداء من قبل الجماعات العنصرية باعتباره أحد المسؤولين عن الانتفاضة الثانية. أختار المنفى في قطر بعد محاولات لتوجيه تهم متنوعة له: كالاعتقاد بحق الفلسطينيين واللبنانيين بالمقاومة، وتهريب بعض الفلسطينيين للمخيمات السورية لرؤية اقاربهم بعد ٥٠ سنة، ومعاونة حزب الله وامداده بالمعلومات، وغيرها.

في صيف ٢٠٠٨، كنا أنا ومجموعة من الشباب على موعد لحضور دورة لدى الدكتور جاسم سلطان في الدوحة. وهناك رتب لنا الصديق عبدالرحمن حركاتي عن طريق معارفه في قطر لقاء مع عزمي بشارة. استمر اللقاء لمدة ساعتين دار فيه النقاش عن قضايا متعددة تتعلق بالقومية والحركات الاسلامية والديمقراطية وغيرها. بعد ذلك استمر بالكتابة والتأليف إلى أن قام بتأسيس المركز القومي العربي للدراسات. في العام ٢٠٠٩ دشن المذيع علي الظفيري برنامجه “في العمق” على شاشة الجزيرة ليجعل من عزمي بشارة الضيف شبه الدائم في حلقاته. وكما يقول صديقنا يوسف الصمعان، لكل مفكر “سلايداته الخاصة” أي مجموعة من الأفكار ينتهي عندها ويبدأ معها بالتكرار، فأنا مع عزمي بشارة وصلت لهذه المرحلة، وباتت آراؤه مكررة بالنسبة لي تقريبا. لكن النبرة الجديدة التي ظهرت في حديثه كانت قبيل الثورات، حيث كانت تعلو لغته نبرة إحباط وتشاؤم خصوصا في حلقة توريث الحكم في برنامج في العمق، سرعان ما تلاشت هذه النبرة مع الثورة التونسية فالمصرية فاليمنية فالليبية…إلخ.

الموقف السوري

ليس كل من يؤيد الثورات قديس، وليس كل من يعارضها مجرم وخائن. هناك من أيد الثورة المصرية حبا بالاخوان المسلمين وبغضا بحسني مبارك، وهناك من أيدها فقط بسبب علاقات النظام المصري مع إسرائيل، وهناك من عارض الثورة البحرينية من منطلق طائفي وآخرين من منطلقات مناهضة لإيران، وهناك من يؤيد الثورة السورية بغضا للنظام البعثي والذي يصوره البعض بأنه نظام “طائفي”.

بالنسبة لعزمي بشارة فأطروحته الأساسية قبل الثورات كانت تتمثل بأن الإصلاح يتم بنفس الطريقة التي تم بها في الاتحاد السوفييتي، وهي أن توجد مجموعة ديمقراطية تضغط باتجاه الاصلاح، وعندما تأتي لحظة يشعر فيها النظام انه بحاجة لإجراء اصلاحات محددة تفلت عجلة الاصلاح من يده وتتدخل القوى الديمقراطية لقيادة التحول الديمقراطي. وقد كان عزمي يرشح تونس كأقرب دولة لأن تقوم فيها الدولة باصلاحات تفلت منها لتتحول إلى تحولات ديمقراطية. لكن ما حدث في تونس كان على عكس ما توقع بشارة، فتونس كانت هي الدولة الأولى التي حدثت فيها انتفاضة ضد النظام، لا انفلات للاصلاح من الدولة.

ومع كل ثورة، كان موقف بشارة منحازا للإصلاح، لا للثورة الشاملة، وما حدث في تونس ومصر لم يكن ثورة شاملة، فمؤسسات النظام ما زالت موجودة وهي التي تدير عملية التحول الديمقراطي بضغط من الشعب الذي أصبح الفاعل التاريخي الرئيسي. في حالة ليبيا توجد انتفاضة شاملة، رافقها تدخل دولي، وهناك رائحة صفقات تنعقد قبيل ساعة الحسم وسقوط نظام القذافي، وهذا الذي كان بشارة متحسسا ومحذرا من الوصول إليه. في حالة سوريا، كانت سياسات النظام السوري في الفترة الممتدة من ٢٠٠١-٢٠٠٧، سياسات داعمة لحركات المقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق. وبغض النظر عن كون هذا الدفاع منطلق من حرص مبدئي على مصالح الأمة، أو من برغماتية سياسية لحماية النظام لنفسه من مغبة الاستفراد به، إلا أن دوره الاقليمي كان جوهريا في ممانعة السياسات الأمريكية في المنطقة ومشروع الشرق الاوسط الكبير. هذا لا يعني بحال أن هذا الدور يبرر قمع المواطنين وسلبهم لحقوقهم وحرياتهم. وعندما بدأت الثورية السورية في درعا، كان عزمي بشارة واضحا في وجهة نظره: أن المجتمع السوري مجتمع مكون من طوائف متعددة ومتنوعة، وبالتالي أي انهيار شامل للنظام مماثل لما يحدث في ليبيا قد يؤدي لحالة شبيهة بحالة العراق من احتراب مذهبي وطائفي، وطالما أن النظام يتبنى سياسة خارجية منحازة لمصالح الأمة والمقاومة، فكان موقف بشارة المبدئي هو مطالبة النظام بتقديم إصلاحات عاجلة وفورية تلغي قانون الطوارئ وتنتقل بالبلد ديمقراطيا. وبعد أن اتخذ النظام السوري الحل الأمني بصورة شرسة ودموية، كان بشارة واضحا جدا في مهاجمته وتوصيفه بابشع الصفات والاحكام، لكنه ما زال محافظا على موقفه- أو لنقل أمله- بأن لا يتبع إسقاط النظام احتراب طائفي أو احتلال اجنبي.

عن نفسي أعتبر موقف بشارة من سوريا مبالغ به، وأعتقد أن تخوفه من تحول الثورة إلى حرب أهلية احتمال مستبعد، وأعتقد أن تخوف بشارة الحقيقي هو أن يكون النظام القادم نظام غير ممانع أو مصالح لإسرائيل كردة فعل على الدعاية القومية المتحالفة مع ايران التي يرفعها النظام السوري.