تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة

2023-11-15

مقدمة

فيما عدا الصراعات السياسية والأيديولوجية، يثير توحش الحرب والقتل بالجملة العديد من التأملات الوجودية. وعلى الرغم من احتجاب النقاش الأخلاقي حرجًا بين وحشية العدوان الذي يرفع تحقيق الهدف فوق الخير والشر، فيبيح ويستبيح كل شيء، من جهة، وبين تشبُّث الناجين بأشلاء الحياة العارية بين جثث موتاهم بعد فقدان كل شيء، من جهة أخرى، وعلى الرغم من تلاشي حدود الأخلاق، أي ما يميّزها، في غمرة الاستقطاب السياسي وحتى الهويّاتي في زمن الحرب، فإن هدف هذه المقالة – وهي غير موجهة إلى مجرمي الحرب ولا إلى ضحاياهم الذين تكفيهم همومهم – هو تمييز القضايا الأخلاقيّة التي أثارتها وتثيرها الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومعالجتها على حدة. والمقصود هو المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية نتيجة للأعمال الوحشية التي تُرتكب خلال العدوان، والآليات (ميكانيزم) التي استخدمها لتحييد الحكم الأخلاقي على ما يُرتكب من جرائم.

وللتذكير، ليست الأخلاق محرك الفعل البشري أصلًا، لا في الحروب ولا في غيرها، إلا إذا أثّرت في البنية الشعورية الانفعالية للإنسان، بحيث يصبح فعل الخير مثلًا، أو رفض الكذب، أو رفع الظلم وتحقيق العدل، دافعًا شعوريًا حقيقيًا لدى الإنسان الأخلاقي يدفعه إلى الفعل. ولكن دوافع البشر غالبًا ما تكون متعلقة بدفع الأذى الجسدي أو النفسي، وفقدان القدرة على التحمل، أو الشهوة وحب التملك، ورفض الإذلال والدفاع عن الكرامة، أو الرغبة في تحصيل الاعتراف والتقدير من الآخرين، أو حب السيطرة، أو الرغبة في التحرر من قيود ما، وغير ذلك. وغالبًا ما تقيِّد القيم الأخلاقية الفردية و/ أو السائدة اجتماعيًا هذا الفعل وتضبطه أو تمنعه، أو تبرره بعد وقوعه.

وغالبًا ما تتقاطع القيم مع المشاعر الأساسية لدى الإنسان. خذ مثلًا قيمة الكرامة؛ إنها تتقاطع مع المشاعر القوية لدى الإنسان الذي يتحلى بها ضد الإذلال إلى درجة الانتفاض على من يمارسه، كما أنها قد تؤدي إلى الشعور بالذنب عند ممارسة الإذلال ضد الآخرين إذا كانت قيمة أخلاقية فعلًا وليست مجرد مشاعر ذاتيه بالكبرياء.

ولكن، يمكن الحكم على أفعال البشر أخلاقيًا وإن لم تكن دوافعهم أخلاقية، سواء أكانت معايير الحكم أخلاقية فردية أو من منطلق القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع. وهذه الأحكام الأخلاقية، أيًا كانت معاييرها، هي شرط من شروط تشكل العلاقات الاجتماعية. والافتراض أن ما تقوم به الدول (المقصود سلطاتها الحاكمة ومؤسساتها) ليس مدفوعًا بالأخلاق غالبًا، بل بالمصالح والسيطرة وغيرها، معروف ومنتشر وقلَّما يثير الشك. ومع ذلك لا يحكم الناس على سياسات الدول وأفعالها بمعايير تحقيق المصالح (مع الاختلاف في تعريفها) ودفع الأذى فحسب، بل بمعايير أخلاقية أيضًا. ومن دون ذلك، لا تقوم مدنية ولا حضارة.

ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الأخلاق قبلها. فحين تنطلق حملات الدعاية والكذب الأولى تكون الأخلاق قد وُضِعت جانبًا، وطُلِب منها أن تلتزم الصمت، وأُخرِست الأصوات التي تتكلم باسمها، فالخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت لا يتحمل إلحاحها. ولكن لا عذر لنا في عدم إثارتها.

 

  1. حق الدفاع عن النفس

لقد حاولت الولايات المتحدة الأميركية ممثلة برئيسها والأعداد الكبيرة من الصحفيين والمثقفين - ومنهم المثقفون والصحافيون الإسرائيليون الذين تجيّشوا في كتائب وألوية إعلامية - أن تختزل جميع القضايا الأخلاقيّة المترتبة على شن الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ثم تحيّدها باستخدام عبارة واحدة، هي "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" بعدما تعرّضت له فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مشدّدةً على جرائم ارتُكبت ضد المدنيين الإسرائيليين الآمنين في ذلك اليوم. واعتُبرت هذه الحرب مشروعة، بل ضرورية، لأنها تُشَن دفاعًا عن النفس.

وفي الحقيقة، لا يوجد حق أخلاقي أو قانوني غير مشروط بالدفاع عن النفس، فثمة شروط متعلقة بالنسبة والتناسب بين الفعل ورد الفعل، وأخرى متعلقة بالوسائل. فليست جميع الوسائل مشروعة. وبعد أن تبينت الطريقة التي تمارس بها إسرائيل "الحق" في الدفاع عن النفس، أصبح تكرار بعض الدول هذه العبارة حتى في الشهر الثاني للحرب، وبعد قتل آلاف المدنيين الأبرياء، ولا سيما الأعداد المهولة من الأطفال، يتجاوز النفاق إلى الانحطاط الأخلاقي. وحتى لو أُتبعت هذه المقولة بحثّ إسرائيل على احترام القانون الدولي، فإن دعمها لم يكن مشروطًا بذلك، وظلت هذه الملاحظة ملحقًا مجرّدًا من المعنى والأهمية خاليًا من أي أثر في الواقع.

قلما استخدمت إسرائيل ذريعة الدفاع عن النفس في سياق تبرريها الحرب، بل استخدمها حلفاؤها. وانتقلت هي مباشرة إلى تبرير الهجوم الشامل على قطاع غزة بإضافة هدف القضاء على الإرهاب؛ ما يتطلّب القضاء على حركة حماس، أو على الأقل كيانها العسكري وإدارتها لقطاع غزّة. وحالما وُضع هذا الهدف وصار محل اتفاق مع الولايات المتحدة، وتبعتهما الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي من دون طول تفكير أو تمحيص، أصبح كل شيء مباحًا.

اتضح ذلك منذ أن مهد رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراؤه لإطلاق أيدي الجيش الإسرائيلي بالإصرار على أن حماس هي داعش غزة. إنهم يعلمون أن كل شيء يصبح مباحًا بعد النطق باسم داعش. فقلة قليلة من الناس اكترثت بالجرائم التي ارتُكِبت أثناء قصف الموصل والرقّة بعد أن تشكل إجماع دولي على القضاء على داعش. لقد جرى التّعامي عمّا يُرتكب إبّان قصف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تلك المدن. وكان الاهتمام الدولي منصبًا حينئذ على النجاح في احتلالها وتطهيرها من قوى تنظيم الدولة المسلحة، فقط، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه سكانها، ومن دون أخذ معاناة المدنيين وعدد الذين قتلوا بالقصف الأميركي، وعانوا الأمرين من احتلال داعش ثُمّ من تحريرهم من داعش، في الاعتبار. يؤكد هذا أن الجرائم التي ارتكبها هذا التنظيم الإجرامي ضد المدنيين لم تكن لتثير اهتمام دول التحالف، بل إن ما أثارها هو ما اقترفه ضد المواطنين الأجانب. مثلما لا يهم الدول الديمقراطية في الغرب ما تقوم به حركة طالبان حاليًا داخل أفغانستان، مما يتجاوز المنظمات الحقوقية.

سبق أن قمت بدحض هذه المطابقة المغرضة بين حماس وداعش في سياقات مختلفة. فحركة حماس ليست تنظيمًا دوليًّا يُحارب على أراضي الآخرين، وهي حركة فلسطينية تنشط على أرض محتلة ضد الاحتلال، فضلًا عن أنّها، خلافًا لتنظيمات مسلحة عديدة فلسطينية وغير فلسطينية، لم تقم بعمليّات عسكرية خارج فلسطين المحتلة، ولم تتسبب بالأذى للمدنيين في دول أخرى. وهي، وإن اختلفتَ معها، حركة سياسية لا تمارس عنفًا عبثيًا عدميًا، بل تمارسه، وإن اختلفتَ معه، في مقاومة الاحتلال. وثمة فوارق أخرى لا تدخل في موضوع هذه المقالة.

وإضافة إلى المحاولة لإشاعة مطابقة مغرضة بين حماس وداعش وتجهيز الرأي العام لاستباحة كُل شيء باسم القضاء على هذا التنظيم، استُخدمت أيضًا عدّة مرّات مصطلحات تشبّه الحركات الفلسطينية بالنازيّة. وقد فعلت إسرائيل ذلك مرّات منذ عشيّة حرب 1967؛ إذ شُبه جمال عبد الناصر بهتلر، وكذلك ياسر عرفات، واستخدمت حكومة إسرائيل عدّة مرّات "الهولوكوست"، لا من أجل ابتزاز التعاطف الدولي، وفي الوقت ذاته مساعدة أوروبا على التخلص من عقدة الذنب بإسقاطها على العرب والفلسطينيين فحسب، وإنما أيضًا لتقمص دور الضحية، وهذا في سياق هي فيه الجلّاد لا الضحيّة.

هذه القضايا كلّها على أهميّتها ليست موضوعنا، وإنّما أسوقها هنا بوصفها آليات لتحييد القضايا الأخلاقيّة وحجب الحس الأخلاقي.
 

2. مسألة الشر المطلق

منذ البداية، برز في تبرير العدوان على غزّة، وحرب الإبادة الجماعيّة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني فيها، رفضُ إسرائيل وإعلامها والإعلام الغربي المؤيد لها مناقشة أي خلفيّة لما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. ولذلك، تكرر الادعاء أنّ سبب قيام كتائب عز الدين القسام بهذه العمليّة هو كون هذه الكتائب شرًا مطلقًا، تمامًا كما كان بنيامين نتنياهو في الماضي يكرر "أن سبب الإرهاب هو الإرهابيون"، أو حين كان الخبراء (وما زالوا) يعكفون على دراسة جذور الإرهاب في الإسلام أو بالاقتصار على دراسة الخلفية الشخصية لمرتكبيه. أما الآن، فقد جاء دور الشر المطلق. وهذا يعني شرًا قائمًا بذاته، لا أول له ولا آخر، لا بداية ولا نهاية، والأهم من ذلك أنْ لا أسباب له، ولا يمكن شرحه. ولا علاج له سوى محاربته والقضاء عليه. ومن هذا المنظور، فإنّ أي محاولة لشرح أسباب العمليّة التي نفذتها كتائب القسام أو خلفيّاتها تُعَدّ تبريرًا لأفعالها. فأي تفسير أو شرح للخلفيات والسياقات هو تبرير. ويتهم من يقدم عليه بالتواطؤ مع الإرهاب. وبما أن الإرهاب موجه ضد اليهود، فإن من يبرره يصبح أيضًا معاديًا للسامية. إن مقولات مثل "الشر المطلق" هي مقولات مناقضة للعقلانية التي تشمل التفسير والفهم، وهي أيضًا مناقضة للحكم الأخلاقي البشري العادي، فالشر المطلق والخير المطلق ليسا من سمات الأخلاق البشرية.

ليست هذه الادعاءات مجرد تحريض أو انفعال عاطفي، بل منظومة دعاية سياسية (بروباغندا) لها بنيتها "المنطقية" المعدة سلفًا، والتي تشمل مقدمات ونتائج. وهي قائمة على افتراضات خاطئة ومغالطات. فمثلًا، القول إن العنف الفلسطيني موجه ضد اليهود هو تجنٍ لا أساس له، وحتى الضحايا من المدنيين، إذا استُهدِفوا، لا يستهدَفون لأنهم يهود، بل في خضم الصراع مع دولة محتلة وواقع احتلالها وممارساته. وهذا، على كل حال، ليس تبريرًا لاستهداف المدنيين، بل هو نفيٌ لتهمة استهداف اليهود لكونهم يهودًا (وهذا أيضًا، إذا تجاهلنا لغرض النقاش أن جزءًا منهم مستوطنون يحملون سلاحًا، أو جنود احتياط، ذلك لأن الضحية يمكن أن تكون أي شخص. وينفر الناس من مثل هذه العمليات لأن أي شخص يمكنه تصور نفسه في مكان الضحايا). لا تقاوَم دولة الاحتلال لأنها يهودية، بل لأنها دولة احتلال. ونقل تهمة اللاسامية إلى الشعب الذي يعيش في ظل الاحتلال طمسٌ لخصوصية اللاسامية الدينية والأيديولوجية والاجتماعية التي واجهها اليهود تاريخيًا بوصفهم أقليات دينية في أوروبا.

وعلى كل حال، ليست هذه أوّل عمليّة تقوم بها حركة حماس ويكون مدنيون إسرائيليون من بين ضحاياها؛ إذ سبق أن قامت، هي وغيرها من حركات المقاومة، بعدة عمليات انتحارية في مدن إسرائيليّة، اشتهرت تسميتها بـ "العمليات الاستشهاديّة"، ولا سيّما خلال الانتفاضة الثانية. وقاد ذلك إلى رد فعل إسرائيلي عنيف شمل عقوبات جماعية، وكان منها قتل مدنيين فلسطينيين. لكن ذلك الرد الإسرائيلي لا يشبه رد الفعل الجاري، لا في درجة الانفعال ولا في الاستسلام لشهوة الانتقام. إنّ ما أثار الدولة العسكريّة العاتية التي تتصور نفسها "إسبارطة"، إلى هذا الحد، ليس عدد المدنيين الذين قتلوا أو تأذوا، بل الصدمة والمفاجأة من ثلاثة أمور: الأول هو نقل طرف عربي (فلسطيني) الحرب إلى داخل حدود 1967، وهذا ما لم يحصل منذ عام 1948. والثاني هو المفاجأة من جرأة المقاتلين الفلسطينيين وقدراتهم. ومن هذه الناحية، فإنّ دخول المعسكرات وقتل الجنود هو في الحقيقة أبلغ أثرًا وأكثر تسببًا في الصدمة من قتل المدنيين في بيوتهم. والثالث هو الخشية من انكشاف مكامن الضعف، وإصابة هيبة الردع الإسرائيليّة بانتكاسة نتيجة لهذا الهجوم. وقد اختلطت الصدمة التي أفقدت الدولة توازنها بهذه الخشية المحسوبة.

من هذا المنطلق، يفترض أن يكون الرد حاسمًا وقاطعًا ومدمرًا، وأن يستخدم الغضب والإجماع الشعبي في تنفيذ ما دعا إليه الجنرالات الذين رفضوا العيش في ظل توازن ردع مع حركات المقاومة في قطاع غزة، مطالبين بالقضاء نهائيًا على المقاومة فيها. ويصبح أي بحث في خلفيات هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كحصار قطاع غزّة الخانق مدّة عقدين تقريبًا، وتوسّع الاستيطان في الضفة الغربيّة المحتلة على نحوٍ غير مسبوق في العامين الأخيرين، وازدياد وتائر اقتحامات الأقصى ومحاولات فرض تقاسمه مع المسلمين، والتضييق على الأسرى الفلسطينيين في السجون، ومراجعة مكتسباتهم التي ناضلوا طويلًا من أجلها في ظل حكومة يمينية متطرفة، مرفوضًا تمامًا، بل مشتبهًا في كونه مؤيدًا للإرهاب، وكأن التاريخ بدأ في ذلك اليوم الذي أصبح يسمى في إسرائيل "السبت الأسود". ذلك لأن مناقشة الخلفيات تُدخل نوعًا من العقلانيّة في التعامل مع ما جرى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وبعضَ النسبيّة في مقابل المطلقات؛ ما قد يخفّف من الرغبة الجارفة في استعادة التوازن وهيبة الردع بواسطة الثأر القبَلي الشامل من الشعب الفلسطيني، مع الفارق وهو أن القبيلة الإسرائيلية مسلحة بآخر مكتشفات التكنولوجيا العسكرية من معدات الحرب في الجو والبحر والبر، وبعضها لا تزود الولايات المتحدة به دولًا أخرى.

ومن هنا التشديد على الشر المُطلق، مع أنّ الحديث هو عن بشر عاشوا معظم حياتهم في ظل حصار لا يشبه أي حصار آخر، ومن عاش أطول من ذلك، يكون قد عاش الجزء الأول من حياته في ظل احتلال مباشر في ظروف من القهر والحرمان. والغالبية الساحقة من الغزاويين هم أصلًا لاجئون من المناطق التي توجد فيها حاليًّا البلدات والقرى الإسرائيليّة التي دخلتها كتاب القسام أو قصفتها. ليس هنا شر مطلق ولا خير مطلق، وحتى الحق في مقاومة الاحتلال الذي يتخيله البعض مسألة مطلقة، ليس خيرًا مطلقًا، كما سنبين لاحقًا.

 

3. ليس قتل المدنيين الفلسطينيين عارضًا جانبيًا للحرب

يجري التأسف على قتل المدنيين، حتى لو سيقت لذلك مبررات مثل حصول خطأ، أو "أضرار جانبية" ناجمة عن قصف أو مواجهات. أما إسرائيل فلا تعتذر ولا تقدم تبريرات تحيّد الحكم الأخلاقي على قتل المدنيين بادعاء حصول أخطاء، بل تعلن أنها تقصف المباني والأحياء السكنية وحتى المشافي، بغض النظر عن وجود مدنيين. فلا اعتبار عندها لوجودهم فيها. وهي لا تكتفي بما فعلت، بل تعِد بالمزيد.

عرف تاريخ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، حاله حال كل استعمار استيطاني، استهدافًا مقصودًا للمدنيين لأغراض متعلقة بالحلول مكانهم في العمل وفي ملكية الأرض. شمل ذلك التضييق على السكان الأصليين ومضايقتهم لإقناعهم ببيع أرضهم أو التخلي عنها. كما استخدمت الحركات الصهيونية التفجيرات في الأسواق وأماكن تجمعات المدنيين، واتبعت أسلوب العنف الشامل ضد سكان قرى بأكملها خرج منها مسلحون قاموا بعملياتِ مقاومةٍ ضد المستوطنات الصهيونية. وتواصل هذا النمط من أعمال الانتقام والثأر شبه القبلي إلى أن أقدمت "الهَغَناه" والتنظيمات الصهيونية الإرهابية على جريمة التهجير الكبرى عام 1948، وذلك بارتكاب مجازر منظمة ضد قرى بكاملها[1]. وبعد قيام إسرائيل، تواصل هذا النهج من الانتقام من سكان القرى الفلسطينية ردًّا على أعمال الفدائيين المتسللين عبر الحدود. وأخيرًا، جاء الاحتلال المباشر للضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967. والاحتلال هو عبارة عن سلسلة لم تنته من أعمال العنف ضد شعب بأسره.

خلافًا لادعاءات إسرائيل، ليس قتل المدنيين ناجمًا عن اتخاذ المقاومة الفلسطينية من السكان دروعًا بشرية بمجرد الإقامة بينهم. وحتى لو كان هذا صحيحًا، فإنه لا يبرر القصف الشامل لتجنب المواجهة المباشرة على الأرض التي تتطلب تضحيات ليس الجيش الإسرائيلي مستعدًا لتقديمها. ولكنه ليس صحيحًا، فإسرائيل تستهدف المدنيين مباشرة وعن قصد، وذلك لأسباب مختلفة، منها: 1. تلقين المدنيين درسًا بحيث "لا يكررون مثل هذه الأفعال"، وكأنهم يتحملون مسؤولية فردية وجماعية عنها، وذلك بمنطق التعالي الاستعماري والتعامل مع السكان الأصليين كأنهم أطفال أو بالغون لا يفهمون سوى لغة القوة. 2. التسبب في معاناة لا تتوقف لدفع السكان نحو توجيه نقمتهم إلى حركات المقاومة، بحيث ينقلبون حتى على فكرة المقاومة باعتبار تكاليفها تفوق ما يمكن تحمله. هذا منطق القصف بلا رحمة وقطع الماء والكهرباء والغذاء والوقود (مثلما كان هذا منطق الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عام 2007). 3. العنصرية. ولا يجوز الاستخفاف بهذا العامل أخذًا في الاعتبار الثقافة العنصرية وكراهية العرب السائدين في المجتمع الإسرائيلي، وفي الجيش الذي يُلقَّن جنوده كراهيةَ العرب تلقينًا. والعنصرية موقف أخلاقي و"نظرية" في الوقت ذاته. البعد الأول فيها مدان أخلاقيًا، والبعد الثاني يقود إلى ارتكاب أخطاء وحماقات بسبب سوء التشخيص وسوء التقدير لضحايا التمييز العنصري.

وقد مهدت لذلك تصريحات علنية لقادة إسرائيليين، لا يسمح "العالم المتحضر" لغيرهم بالتصريح بها من دون أن يُعدَّ مارقًا والتعامل معه على هذا الأساس، كما في قول الرئيس الإسرائيلي للإعلام إنه لا أبرياء في غزة وإن الشعب نفسه مذنب لأنه لم ينتفض على حركة حماس[2]، وقول وزير الأمن الإسرائيلي مخاطبًا ضباطه: لا كهرباء، لا ماء، لا دواء، فهؤلاء حيوانات بشرية ويجب أن يعاملوا على هذا الأساس[3]. لم يصدر استنكار رسمي لهذه التصريحات عن حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا، فضلًا عن حلفاء جدد نسبيًا لا يقلون عنصرية عن حكام إسرائيل، مثل الحكومة الهندية الحالية.

ويصعق من يتابع الإعلام الإسرائيلي، ولا سيما المرئي، من طريقة معالجة المثقفين والإعلاميين والمسؤولين السابقين والمسؤولين المداومين في الإستوديوهات في حالة انعقاد دائم، كأنهم في غرفة حرب، لبداية ظهور النقد الخجول للقصف العشوائي الإسرائيلي على قطاع غزة وقتلِ المدنيين. ففيما عدا كيل التهم "للعالم" بالنفاق واللاسامية، ينتقدون حكومتهم بسبب تقاعسها في شن الحملات الإعلامية التي تنفي تهم قتل المدنيين، أو تطالب الحكومات الغربية والرأي العام بالتركيز على مقولات الدعاية الإسرائيلية، ولا يخطر في بالهم أبدًا وقف قتل المدنيين.

 

4. أخلاقيّة حق المقاومة وأخلاقيّة الأفعال التي قد تُرتكب باسم هذا الحق

تعترفُ الأمم المتحدة بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال باستخدام جميع الوسائل المتاحة وفق مبادئ الأمم المتحدة وميثاقها[4]، أي إن "جميع الوسائل" هي عبارة مقيدة ومشروطة بالميثاق، أما المعاهدات فتقيّدها بقوانين الحرب وأعرافها. ولكن، ليس هذا الاعتراف ما يجعل مقاومة الاحتلال أخلاقيّة، بل هو الحق في مقاومة الظلم والسعي إلى التحرر من قيود غير شرعية. والحديث هنا عن حقٍّ جماعي لأنّ الظلم في حالة الاحتلال يمارس على شعب بأسره. والفرق بينه وبين الظلم الذي تمارسه سلطات دولة على شعبها ليس فرقًا أخلاقيًا، بل متعلقٌ بالقوانين والأعراف الدولية التي تعترف بحق تقرير المصير للشعوب. وهذا هو ما تضيفه القرارات والمعاهدات[5]، فمن منظورها يتميز النضال ضد الاحتلال، عن النضال ضد الظلم في دولة، بالسعي إلى نيل حق تقرير المصير، وهو حق مجمع عليه إلى درجة أن الشعوب ذاتها باتت تميز بينه وبين الصراعات الخلافية داخل الدولة الوطنية من أجل العدالة الاجتماعية أو الديمقراطية أو غيرها.

وبغضّ النظر عن التبريرات التي يسوقها المحتل، فإن الاحتلال يُفرض بالقوّة. ولأنّ السكان الخاضعين له ليست لديهم حقوق مواطنة من أي نوع، فإنّهم غالبًا ما يتعرضون لتعسّف سلطات الاحتلال الحاكمة. كما أنّ عدم الانصياع للاحتلال يؤدي إلى استخدام العنف الموجّه لإخضاعهم. العنف قائم أصلًا في التعسّف، وقائمٌ بالضرورة في فرض الاحتلال على من يعارضه.

من حق الشعب الواقع تحت الاحتلال ممارسة العنف في مقاومة الاحتلال. فهذا نوع من الدفاع عن النفس (مقاومة) وسعي إلى ممارسة حق تقرير المصير (تحرر). وثمة اعتبارات أخلاقية وأخرى عقلانية، بالمعنى الأداتي للعقلانية (كما في النقاش حول ضرورته وفائدته)، تؤخذ في الحسبان عن تبني ممارسة العنف، أو الامتناع عن ممارسته. ولكن، غالبًا ما لا يتولّد هذا العنف عن دراسة لشروط لزوم العنف من عدمها، بل قد يبدأ كمقاومة عفويّة عنيفة وتتطوّر وتتنظّم بعد أن تبدأ. ولهذا يجب أن نفصل بين تفجر العنف في مقاومة الاحتلال والتخطيط العقلاني للعنف المسلح.

 ولكنّنا غالبًا ما نجد أنفسنا أمام واقع قائم هو العنف المنظّم ضد الاحتلال الذي يُجيب عنه بعنفٍ أكبر يعانيه المدنيون الذين لم يشاركوا في المقاومة العنيفة، لأنّ الاحتلال يميل إلى معاقبة المجتمع لتلقينه درسًا، أو يتّبع العقوبات الجماعيّة لردع المقاومين أنفسهم، أو يقوم بمعاقبة المجتمع على نحوٍ مُخطّط، لهدف سياسي هو تجريد المقاومة من حاضنتها الاجتماعية، التي يريدون دفعها، بتعريضها لما يفوق قدرتها على الاحتمال، إلى الانقلاب على المقاومين الذين أدت أفعالهم، وفق الدعاية الإسرائيلية، إلى هذه العقوبات. وقد مارست دولة الاحتلال الأمور الثلاثة في تاريخها مع الشعب الفلسطيني، كما بيّنتُه فيما سبق.

وما دمنا قد سلّمنا بحق الشعب في مقاومة الاحتلال، فهل يستنتَج من ذلك عدم جواز الحكم على أخلاقيّة أفعال مقاومة الاحتلال؟ جوابي هو: بل هو جائز، وربما ضروري. إنّ جواز مقاومة الاحتلال بالقوّة، بغض النظر عن الخلاف الاستراتيجي العقلاني حولها (وهو خلاف مشروع دائمًا، ولا يتناول الحق، بل النجاعة)، لا يعني فقدان القدرة على التمييز بين الخير والشر في أفعال المقاومة ذاتها، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالتسبب في الضرر الجسدي للأبرياء. تبدو هذه أحيانًا تفاصيل لا وقت للخوض فيها، ولا سيما إذا تحقق إنجاز سياسي نتيجة لهذه الأفعال مثل ردع الدولة المحتلة أو إجبارها على التفاوض، أو اضطرارها إلى إعادة النظر في الاحتلال برمته.

لا يحصل ذلك دائمًا، وغالبًا ما يكون الضرر أكبر من الفائدة السياسية، حين توحد مثل هذه العمليات الرأي العام خلف تشديد قبضة الاحتلال، ويدفع السكان الخاضعون للاحتلال ثمنًا أكبر (وهي مسألة سياسية وأخلاقية في الوقت ذاته). ولكننا نتحدث هنا أيضًا عن أخلاقيات النضال التحرري.

فمثلًا، القيام بفعل يبدو بسيطًا، مثل السرقة، لا للاغتنام من أجل مصلحة الحركة الوطنيّة المقاومة نفسها، بل بهدف الإثراء الشخصي، هو أمر غير مشروع، حتى لو كانت سرقة من دولة الاحتلال ذاتها، وكذلك استهداف المدنيين بالقتل أو التنكيل، كلها أعمال غير أخلاقية، لو وقعت، لا يبررها حق المقاومة، ويضاف إلى عدم أخلاقيّتها بُعد آخر؛ أنّها تمس بعدالة قضية الشعب الواقع تحت الاحتلال. ومن يقوم بمثل هذه الأفعال غير الأخلاقية يرتكب، إذًا، جريمتين. هذه قواعد أخلاقية لا مجال فيها لتعدد وجهات النظر. يضيف البعض عبارة "خاصة في عصر سهولة توثيق الانتهاكات وسرعة تداولها ومشاركتها على وسائط التواصل الاجتماعي"، أو ما يشبهها. وكأنهم يقولون بلسان الحال إنه لا بأس في ارتكاب الانتهاكات ما دام ذلك يجري خفية عن الأنظار.

إن إدانة هذا النوع من الأعمال في إطار خطاب سياسي لا يعترف بالحق في المقاومة ليس له معنى، لأنه يعارض استهداف قوات الاحتلال أيضًا، أي إنه لا خصوصية أخلاقية في نظره لمثل هذه الأعمال. أما من منظور الحق في مقاومة الاحتلال، فإنّه لو وقعت عملية عسكرية، فالعمليّة نفسها تستحق الإشادة، لكن لو وقعت مثل هذه الأعمال فهي تستحق الإدانة أيضًا. هذا بغض النّظر عن الخلفيّات في هذه الحالة، لأنّه يمكن شرح خلفيّة أي جريمةٍ كانت، وحتى السارق تُوجد خلفيّة اجتماعيّة لتحوّله سارقًا. ولكن هذه الخلفية لا تبرر أخلاقيًا لمن ارتكب شيئًا من هذا الأعمال ما أقدم عليه. ولو وقعت مثل هذه الأعمال، فهي ليست أعمال مقاومة، بل تلحق الضرر بها. وقد وقعت أعمال، بعضها فيه تسجيلات مرئية واضحة، يرجَّح أن المقاومين لم يكونوا على علم بها حين حدوثها.

هنا يُصبح من واجب حركة المقاومة أن توضح ما حصل، وهذا لا يمس بمجدها الناجم عن الإنجازات العسكريّة البطوليّة وحسن التخطيط، بل يزيدها مصداقيّةً. ولكننا نرى من يبرر هذه الأفعال من منطلقات ثأرية. والأهم هو وجود خشيةٍ لدى الشعوب التي رزحت تحت الاحتلال، أو الشعوب التي عاشت هزائم لفترات طويلة، من أن تمس الإدانة أو الاعتراف بالأخطاء بنقاء النضال وعدالة القضيّة وطهارة المقاومة وغير ذلك من الأوهام. لكن الضرر الحقيقي ينجم، في الحقيقة، عن خلط العادل بغير العادل، والبطولي بالإجرامي، والكذب بالحقيقة. هذا الذي يضر فعلًا بالقضية العادلة. ويحتاج الأمر إلى جرأة أخلاقيّة للمجاهرة بالموقف في هذا الشأن في أوساط شعب يعيش في ظل الحصار والعقوبات الجماعية، ويعاني الآن الإبادة الجماعية. ولكن لا مبرر كهذا عند من يتضامن مع هذا الشعب ومقاومته ضد ظلم الاحتلال لأسباب أخلاقية.

عدا نشر القيم التحررية والتثقيف عليها في المجتمع، يتجلى أحد الفروق بين حركة تحرر وطني وحركة مقاومة غير تحررية، بالمعنى الاجتماعي والسياسي، في أن الحركة التحررية تحاسِب علنًا على مثل هذه الأمور. إنها حركة سياسية منضبطة قادرة على الانضباط والالتزام بمعايير تشبه معايير الحكم.
 

5. قصف المشافي والمدارس

بعد قصف المستشفى الأهلي (المعمداني) بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، سارعت إسرائيل إلى إنكاره والزعم أنّ سبب "الانفجار" (هكذا أصبحت تسميه وسائل الإعلام الغربية الرئيسة لاحقًا) هو فشل إطلاق صاروخ من طرف حركة الجهاد الإسلامي، أو سقوطه المبكر، من دون بذل أي جهد فعلي لإثبات ذلك، وباستغلال حقيقة أنّ الإدارة الأميركية، ممثَّلةً بالرئيس نفسه، كانت مستعدة لترديد أي كذب رسمي إسرائيلي. ولكن الحكومة الإسرائيلية لم تعد تستخدم هذا النّوع من الكذب، بل أصبحت تعترف بقصف المستشفيات وتبرره بوجود أنفاق تحت المشافي تستخدم مقرات للقيادة، أو يلجأ إليها مقاتلو كتائب القسام. ولا تكلف إسرائيل نفسها إقناع أحد بما تروجه، وتكتفي بإطلاق الشائعات، أو ابتزاز اعترافات من أسرى معتقلين معرضين للتعذيب في وسائل الإعلام الإسرائيليّة. وهذا في ذاته جريمة، ولم تتردد وسائل الإعلام الإسرائيلية يومًا في التساوق معها. واستُخدم الكذب نفسه أيضًا بشأن مدارس تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين "الأونروا". وبعد مرور الشهر الأول على الحرب، لم تعد إسرائيل تكلف نفسها عناء الكذب، وأصبحت تقصف المستشفيات والمدارس من دون تعليل، وكأن قصفها جزء من روتين الحرب. وسجِّلت سابقة خطيرة هي الصمت الرسمي لدول "العالم المتحضر" على هذه الجريمة. لقد سبق نظام بشار الأسد في سورية إسرائيل إلى مثل هذه الجرائم، ولكن موبقاته هذه قوبلت باستنكار معروف وعقوبات وغيرها. ولكن إسرائيل ظلت محصنة من أي عقوبات. ولو اكتفى حلفاء إسرائيل بعدم الإدانة وعدم فرض عقوبات على إسرائيل، لكان ذلك نصف بلاء، ولكنهم لا يكتفون بذلك، بل يغدقون عليها الدعم وحتى الامتيازات التي لا تمنح لغيرها.

لقد أصبح قصف المشافي والمدارس من ضمن "عاديات" الحرب الهمجية، لا يلقى انتقادًا من غير أوساط في الرأي العام وبعض المنظمات الدوليّة العاملة في المجال الإنساني. ولكنّ الدول الحليفة لإسرائيل، ولا سيّما الولايات المتحدة ودولًا أوروبية ومؤخرًا انضمّت إليهم الهند، لا تدين مثل هذا العمل، وتُكرّر المبررات الإسرائيلية من دون فحصها. وقد وجهت حركة حماس (في مؤتمر صحفي عقدته في بيروت بتاريخ 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) نداءً إلى أمين عام منظمة الأمم المتحدة كي يرسل طواقم للتحقّق من وجود أنفاق تحت المستشفيات. والغريب أنّ أحدًا لم يستجب لهذه الدعوة، فلو استجابوا ورفضت إسرائيل طلبهم لتبين فورًا كذبها في هذا الشأن.

قصف المشافي، بوصفها الأماكن التي يعالَج فيه الجرحى والمرضى بأنواعهم، هو جريمة حرب، يُضاف إلى ذلك في حالة غزة لجوءُ آلاف المدنيين للاحتماء فيها لأنهم كانوا يستبعدون قصفها؛ إذ لا تقصف المشافي في الحروب. هذا كلّه عبارة عن بديهيات مفروغ منها، ويشعر الإنسان بالغرابة والحرج لمجرّد مناقشتها وطرحها، فمن الصعب الإقناع بالبديهيات. ولكن ما أعتبره بديهيًّا أيضًا، ويبدو أنّ مزاعم إسرائيل بشأن الأنفاق تُحوله إلى موضوع نقاش، هو عدم جواز قصف مستشفى حتى في حالة وجود مقاتلين محتمين فيه، أي لا يجوز قصف آلاف المدنيين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، ومنهم مرضى على أسرّتهم وأرواح بعضهم معلقة على جهاز (تقطع إسرائيل الكهرباء عنه بلا وازع من ضمير)، بغض النظر عن الحجج. لذلك أيضًا لا تُهاجم الدول المختطفين وخاطفيهم خشية قتل المدنيين. وهذا منطق الخطف أصلًا حتى في الجرائم الجنائيّة. فما بالك بمستشفى لا خاطف فيه ولا مخطوف؟ وكان الأكثر إثارة للاستغراب توقيع مئة طبيب إسرائيلي (في عمل مناقض لكل ما تحمله كلمة "طبيب" من معاني الرحمة وحفظ الأرواح) عريضةً يطالبون فيها بقصف مستشفى الشفاء، للحجج السابقة ذاتها.

هنا توجد معضلة أخلاقيّة حقيقيّة متمثلة بصمت "العالم" إزاء هذا الخرق الشنيع للقيم الأخلاقية والأعراف، بحيث يُشكل الصمت نفسه انتكاسة للأعراف المقبولة دوليًا ومراجعةً لحصيلة تجارب بشرية مريرة وطويلة، ويطرح سؤالًا مثيرًا للذعر: إلى أين يتجه هذا العالم؟
 

6. استخدام الهولوكوست

برز الاستخدام المكثف للهولوكوست، المحرقة النازية في حق يهود أوروبا، أداةً في تحويل إسرائيل لدورها من الجاني إلى الضحيّة عشيّة حرب 1967، ولن أخوض هنا في سبب عدم استخدامها في الفترة الواقعة بين عامي 1948 و1967 بنفس الكثافة، وتنصُّل مؤسسي إسرائيل من صورة يهود المنفى الذين "يُساقون للذبح كالخراف" وفق تعبيرهم. ولكن إسرائيل حاولت منذ البداية، أي منذ عام 1948، أن تكون المتحدث باسم ضحايا المحرقة النازيّة (الهولوكوست) في التفاوض مع ألمانيا للحصول على تعويضات ماليّة تُدفع لإسرائيل وللمقيمين فيها من الذين نجوا من المحرقة. ولكن استخدامها المكثّف في الإعلام في وصف الساسة العرب، أو قيادات حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، كان نوعًا من الدعاية أو التهريج الإعلامي هدفه تصعيب تفهم الموقف العربي على الساسة الغربيين الأوروبيين والأميركيين، أو دعمه، لأنّ هذا يضع موقفهم من النازية في موضع التشكيك. ويوجد إجماع في الغرب على معاداة النازيّة والاشمئزاز مما قامت به محاولات إبادة الشعب اليهودي من منطلق نظريات عرقيّة، ولم يتوقّف الإنتاج الأدبي والثقافي حول هذا الموضوع حتى يومنا هذا. إنها مسألة محسومة في الثقافة الغربيّة. وتحاول إسرائيل الاستفادة منها لدعم موقفها بصفتها دولة استعمار استيطاني في منطقةٍ لم تشهد اضطهادًا لليهود، لا شبيهًا بالمحرقة النازية، ولا قريبًا من التشبه بها.

إنّ التعامل الأداتي في استخدام الهولوكوست هو بالطبع إساءة لضحايا النازية، وتقليل من شأن المحرقة ذاتها، لا يقترب من درجة إنكار المحرقة، ولكنّه من النوع نفسه.

لم يكن اليهود الذين جمعوا في معسكرات أو سيقوا إلى أفران الغاز في ألمانيا النازيّة، وجمعوا من مختلف أرجاء أوروبا، صهيونيين. ولم تحظ الحركة الصهيونية بتعاطف يهود أوروبا بمجملهم ولم تتجاوز أقلية صغيرة بينهم حتى ذلك الوقت. وغالبيّة الناجين من المحرقة لم يأتوا إلى إسرائيل، بل غادروا إلى الولايات المتحدة حين أتيحت لهم فرصة الهجرة. ليس لإسرائيل الحق في الحديث باسمهم، فضلًا عن استخدامهم سياسيًا في العلاقات بين الدول. وبالتأكيد، لا يحق لها استخدامهم في تبرير اضطهاد شعب آخر، وتقمّص دور الضحية في هذا السياق.

لا توجد أي معضلة أخلاقيّة لدى الفلسطينيين في هذه الحالة، وما تقوم به إسرائيل باستخدام الهولوكوست هو فعل لا أخلاقي. ولكن تبدأ المشكلة الأخلاقيّة فلسطينيًا بالتقليل من شأن الهولوكوست. فهذا استخفاف لا مبرر له بحياة بشر مضطهدين بسبب دينهم (عرقهم بالمفاهيم النازية)؛ ولا حاجة للفلسطيني إلى التقليل من شأن الهولوكوست لمناقضة الصهيونية. فالمحرقة النازية لم تحصل في بلادنا، ويُفترض أن أوروبا وحدها تتحمّل وزرها. وبالعكس، علينا أن نُذكِّر أوروبا بذلك، وبالعمل غير الأخلاقي الذي تقوم به إسرائيل باستغلال عقدة الذنب الأوروبية، ثم إعانتها على التحرّر منها بواسطة إلقائها على العرب والفلسطينيين. يوجد تواطؤ غير أخلاقي إسرائيلي – أوروبي يستفيد منه الطرفان، الأوّل بتقمّص دور الضحية، والثاني بالتخلّص من عقدة الذنب بالتعاطف مع من يتقمّص دور الضحيّة خارج أوروبا، وإلقاء الذنب على الفلسطينيين أو العرب. في حين أنّ التخلص من عقدة الذنب يفترض أن يكون في محاربة العنصريّة في أوروبا ذاتها؛ فالاستمرار الحقيقي للمحرقة النازيّة هو في استمرار العنصريّة تجاه الآخرين في أوروبا. وليس لألمانيا أو فرنسا أو غيرهما ما تحاضر فيه على العرب بشأن معاداة السامية، فهذه لم تكن مشكلة عربية في يوم من الأيام.
 

7. بشأن الكيل بمكيالين والسؤال عما جرى للقيم الكونية

قاد سلوك الولايات المتحدة والدول الأوروبية تجاه الجرائم الإسرائيلية وتبني موقف إسرائيل بحذافيره حتى بداية الشهر الثاني من الحرب، وتبلد المشاعر تجاه الضحايا الفلسطينيين، بعض الشباب المصدومين بحقٍّ من أهوال الحرب في قطاع غزة إلى التشكيك في القيم الكونية والتساؤل حول مصير العدالة والمساواة والحرية التي "يتغنى" بها بعض هذه الدول، التي راوحت مواقفها من دعم إسرائيل الكامل وغير المشروط إلى إبداء بعض الملاحظات غير الملزمة، أو إسداء النصح بتعبير الخطاب الرسمي الأميركي. الخيبة مفهومة، ولكن الجوقة أحيانًا يقودها محرّضون على القيم الإنسانية الكونية عمومًا ممن لم يؤمنوا بها في الماضي قبل العدوان، ولا يرون في الحرب سوى برهان على "نظرياتهم" بوجود صراع ديني أو حضاري مع الغرب، ولا يؤمنون أصلًا بقيم الحرية والعدالة والمساواة بين البشر، وجاهزون لتبرير دوس الأنظمة التي تروقهم. ولذلك يستحق الموضوع المعالجة.

أين ذهبت قيم المساواة والحرية والعدالة؟ لم تذهب إلى أي مكان. إنها الأدوات التي ما زلنا ندافع بالاستناد إليها عن قضية فلسطين، وعن غزة، وفي إدانة إسرائيل، وعند الخوض في قضايا عادلة أخرى في منطقتنا. فنحن لا نعلل موقفنا الداعم لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي فقط بالوطنية وحب فلسطين وشعبها والانتماء إلى الأمة العربية؛ فهذه دوافع قائمة لا يجوز أن ننكرها، ولكننا نصوغ الموقف أخلاقيًا. ومن تدفعه الى التضامن عقيدته الدينية يحاول أن يصوغ موقفه بالعناصر الأخلاقية في عقيدته، ومنها العدل، أو يصوغها من منطلق التوفيق بين العقيدة والقيم الإنسانية الكونية، وإلا فلن تكون ثمة لغة مشتركة مع الآخرين. وبالتأكيد، لا يعلَّل الموقف من العدوان والجرائم التي يرتكبها الاحتلال بالكره المطلق لـ "حضارة الغرب" (ما هي؟ وكيف تعرف بالضبط؟)، ولا بالموقف من "قتلة الأنبياء"، ولا بالولاء والبراء، ولا بالصراع ضد "الكفار"، ولا بحق الغزو أو حق الفتح. ومن يفعل ذلك لا يفيد قضية فلسطين، مثلما لم يفد ذلك قضية الشعب السوري أو العراقي أو غيرهما، بل يضر بها.

والمظاهرات التي تخرج في كافة أنحاء العالم للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وعلى رأسه ضحايا العدوان في غزة والضفة الغربية المحتلة، لا يفعلون ذلك لأن الفلسطينيين عرب أو مسلمون، بل لأنهم يؤمنون بالمساواة والعدالة ويرفضون الاحتلال. وحتى المتضامنون مع الضحايا لأنهم عرب ومسلمون، يستخدمون غالبًا مبررات وأسانيد أخلاقية بلغة مفهومة تحرج من يدعي الإيمان بها.

وبخصوص من يتشدقون بالقيم الكونية (يصدعون رؤوسنا بها بالتعبير المبتذل)، ولا يمارسونها على مستوى العلاقات بين الشعوب، فهل الأمر جديد أو مفاجئ؟ ألم يتواصل الاستعمار بعد عصر التنوير وإصدار الثورة الفرنسية إعلان حقوق الإنسان والمواطن؟ لقد كان من بين الدول التي مارست الاستعمار، وتعاملت مع أبناء الشعوب الأخرى كأنهم ليسوا بشرًا، دولٌ ديمقراطية تتشدق سلطاتها بالحرية والمساواة مع حرمان أجزاء كبيرة من شعوبها ذاتها منها. ولم يطل الوقت حتى فرضت هذه القيم في السياسة الداخلية، فعممت حق الاقتراع والحقوق الاجتماعية والحريات. وما زال النضال فيها يتواصل على جبهات عدة. لقد ناضل الأميركيون من أصل أميركي من أجل العدالة والمساواة والحرية، لأنهم حرموا منها في دولة جعلت هذه القيم جوهر دستورها. لقد انطلق النضال من الفجوة التي تفصل القيم عن الواقع، واستغل هذا التوتر الأخلاقي لصالح ممارسة هذه القيم. وتظل الممارسة نسبية وتشكل موضوعًا للنقد.

أما في العلاقات الدولية، فلم يفرض القانون نفسه يومًا، ولا القيم الكونية. وظلت قيم العدالة والمساواة مواضيع للنضال في إطار الدولة الوطنية. وعلى المستوى العالمي، توصلت الإنسانية إلى بعض المواثيق والمعاهدات الدولية التي جسدت هذه القيم، ولا سيما في ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبح في وسع الشعوب المقهورة والضعيفة المطالبة بتطبيقها، ولكن ذلك لم يحصل إلا في حالتين: الأولى توافق تطبيقها مع مصالح دولة قوية أو أكثر (دولة المتروبول في حالة الاستعمار)، والثانية تبني الرأي العام داخل الدول القوية (ولا سيما دولة المتروبول) المطالِبَ لأسباب، من بينها أسباب أخلاقية، وتنظيم الاحتجاج إلى درجة التأثير في سياسة الدولة. والحالتان متغيرتان بفعل عوامل عديدة من ضمنها النضال نفسه. وعمومًا، فإن صياغة المطالب بلغة القيم الكونية المعبر عنها في المواثيق والمعاهدات الموقعة ترسي قاعدة مشتركة للحديث والحوار، بما في ذلك الحديث عن المصالح.

وماذا بالنسبة إلى مقولة "الكيل بمكيالين" و"ازدواجية المعايير" كما في المقارنات التي راجت مؤخرًا بين أوكرانيا وفلسطين، وروسيا وإسرائيل؟ تصح هذه المقولة الأخلاقية المعبرة عن إحباط وخيبات في محاسبة الدول المؤثرة في اتخاذ مواقف مختلفة، بل متعاكسة تجاه حالات متشابهة، ولا سيما عند الحديث عن احتلال أراضي الغير بالقوة، كما في حالتي احتلال العراق للكويت، واحتلال روسيا لأراضٍ في أوكرانيا، اللتين أثارتا هذه المقولة بحدة، ولا سيما في مقارنة مواقف الولايات المتحدة في هاتين الحالتين ومواقفها تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والمقصود هو الضفة الغربية وقطاع غزة؛ الأرض التي تعترف الدول الغربية عمومًا أنها احتلت بالقوة ويسري عليها قرار مجلس الأمن رقم 242.

لا بد من استخدام هذا النقد الأخلاقي. وإذا تجاوزنا الخطاب الأخلاقي الموجه للرأي العام إلى قرارات حكومات الدول المؤثرة بشأن حالات الاحتلال وغيرها، فإن ما يحركها في الحقيقة هو مكيال واحد، وهو المصالح والاعتبارات الاستراتيجية. فلا ازدواجية معايير هنا، بل معيار واحد. لكن نقد الموقف بالحكم عليه أخلاقيًا، وهو ما يجب فعله، هو الذي يظهره بوصفه يكيل بمكيالين.

ولا ينقص دول عربية تكيل بمكيالين عند نقدها التدخل في شؤونها أو شؤون حلفائها الداخلية، في حين تقوم هي بالتدخل مباشرة في دول أخرى إلى درجة دعم الميليشيات المسلحة، أو تدعو لرفع الحصار على غزة وتحاصره في الوقت ذاته، أو تحيي مظاهرات التضامن مع غزة في الغرب وتمنعها في بلادها. وثمة أمثلة عديدة أخرى[6] لممارسة الكيل بمكيالين عربيًا نوفّرها على القارئ، فقد وصل المعنى ومفاده أن الكيل بمكيالين ليس احتكارًا غربيًا.
 

8. عن الأخلاق والهوية في هذا السياق

تتشكل الأخلاق ويُعبَّر عنها في الحياة اليومية في إطار الانتماء إلى جماعة مرجعية تفرض أعرافها وتقاليدها، ولا ينفصل موقع الفرد ومكانته فيها عن التوقعات منه وتوقعاته من ذاته، فتتطابق الأخلاق الخاصة مع الأخلاق العمومية بحيث يصعب التمييز بينهما في إطار الجماعات الوشائجية، مثل العائلة الممتدة والقبيلة والحارة التقليدية التي تحكمها علاقات الجيرة. وتختلف القواعد الأخلاقية والأعراف الملزمة خارج الجماعة عن داخلها.

 وكلما توسعت الجماعة، تمايزت الأخلاقيات الفردية عن العمومية. والحديث ليس عن توسع الدولة أو حتى الإمبراطورية؛ إذ يمكن أن يحصل ذلك من دون انتماء إليها ومع بقاء الانتماء إلى الجماعة الوشائجية الصغيرة. ولكن المقصود هو توسع جماعة الانتماء، وهذا هو الحال في الجماعة الوطنية أو القومية أو المواطنة في الدولة، أو جماعات الهوية (حيث الانتماء انعكاسي ومفكَّر فيه) التي تشكل في الحداثة بديلًا من الجماعة الوشائجية.

ولكن التفرد بالتمايز بين الأخلاق الفردية الخاصة والأخلاق العمومية، وازدياد احتمال اتخاذ القرارات الأخلاقية فرديًا لا يقلّلان من أهمية الجماعة المرجعية، حتى لو أصبحت جماعة هوية متخيلة مثل القومية والأمة. وفي حالة نشوب العداوة والخصومة، ولا سيما الحرب، تزداد "وشائجية" الجماعية المتخيلة، أي، بكلمات أخرى، قبليّتها، أو طابعها العصبوي. وتزداد الفجوة بين الأخلاقيات داخلها وخارجها، وتصل حد التناقض في حالة الحرب. فالتعامل الأخلاقي مع الأفراد داخل الجماعة المتخيلة لا ينطبق على الأفراد المنتمين إلى "جماعة" العدو. وهنا تبرز أهمية أمرين: الأول وجود أولئك الأفراد والتنظيمات الذين يحافظون على القيم الإنسانية التي تسمى كونية، حين يتشدق بها حكام دولهم. فخلافًا للحكام، يرى هؤلاء أنها كونية ليس لأنها إنسانية في مضمونها فحسب، بل في سريانها أيضًا بوصفها عابرة للجماعات، وتنطبق على البشر عمومًا؛ والثاني وجود أعراف تنظم العلاقات بين الشعوب والدول، حتى في زمن الحرب، ومؤسسات تدعو لتطبيقها وتوثق الخروقات في حالة غياب دول كبرى قادرة على فرضها.

ويُطرَح ههنا التساؤل: هل تنجم دوافع من يحتجون على الحرب بألم وحرقة أخلاقيين عن بنية أخلاقية إنسانية لا تتحمل شعوريًا ما يقترف من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، وترفض السكوت عليه، أم تنجم عن الهوية القومية أو الدينية التي تجمعهم بالضحايا؟ الدافعان شرعيان، ويمكن أن يصاغا بلغة العدالة، لأن الشعب الفلسطيني يتعرض للظلم وقضيته عادلة. وهؤلاء الذين يتظاهرون في دول أوروبا وأميركا، مطالِبين بوقف إطلاق النار، ربما تحرك بعضهم الأخلاق الكونية الناجمة عن شعور بالانتماء المشترك إلى هوية واحدة، لا قومية ولا دينية، بل إنسانية تجعلهم قادرين على تخيل أنفسهم في مكان الضحايا. وهذا أرقى أنواع الانتماء المشترك. فالإنسانيةُ بوصفها جماعة مرجعيةٌ كبرى يفترض أن تسود فيها القيم الكونية.

وقدم الشباب اليهود الأميركيون خدمة كبيرة في تضامنهم مع الشعب في غزة ورفض الممارسات الإسرائيلية، إما من منطلق القيم الكونية، وإما من منطلق فهمهم للقيم اليهودية بالتوفيق بينها وبين القيم الإنسانية، أو حتى من منطلق الهوية اليهودية المشتركة مع إسرائيل. وفي هذه الحالة، تكون الهوية المشتركة دافعًا لرفض احتكار إسرائيل الحديث باسمها وتشويهها بجرائمها وممارساتها في حق الشعب الفلسطيني. وهو منطلق هوياتي، ولكنه مناقض للعصبية الهوياتية؛ إذ يذكر هويته لا للتباهي بها، بل لكي يرفض نصرة كل من يدعي تمثيل الهوية. ويجدر النظر في هذا الموضوع مليًا، ومقارنته بعصبية الطائفيين في لبنان وسورية والعراق في منطقتنا، والأهمية السياسية والاجتماعية الكبرى لدور الخارجين عنها من منطلق هوياتي ولكنه أخلاقي.

ختامًا

إن القضية الفلسطينية قضية عادلة، وكذلك الحق في مقاومة الاحتلال؛ ويمكن، بل يجب، الدفاع عنها أخلاقيًا أيضًا. وما انتشار ظاهرة الشباب المؤيد للقضية والمتضامن مع سكان قطاع غزة ضد همجية العدوان الإسرائيلي إلا دليلٌ على ذلك، فالحديث هو عن جيل أخلاقي ينفر من الأيديولوجيات الشمولية والعصبيات على أنواعها ويحركّه التعاطف مع ضحايا الظلم، مثلما تحركه قضايا البيئة والتمييز العنصري وغيرها من القضايا التي يعدها عادلة. ويخطئ خطأً جسيمًا من يعتقد لأسباب غير مفهومة ومتعلقة بخندقه الأيديولوجي الضيق أن هذا مظهر ضعف يثبت تشخيصه لهزيمة القيم الإنسانية، ويستغل هذا التضامن للتباهي بمواقف غير أخلاقية لا علاقة لها بالعدالة.

 

[1] Azmi Bishara, Palestine: Matters of Truth and Justice (London: Hurst, 2022), pp. 33, 37-39.

[2] "الرئيس الإسرائيلي: ’لا يوجد مدنيون في غزة‘ ويبرر الجرائم المروعة بحقهم"، القدس العربي، 15/10/2023، شوهد في 11/11/2023، في: https://shorturl.at/iuwDR

[3] "لا ماء لا كهرباء لا غذاء.. هكذا تقبض إسرائيل على أرواح أهل غزة،" العربي الجديد، 11/10/2023، شوهد في 11/11/2023، في: https://shorturl.at/uDGL0

 [4] أكد قرار الجمعية العامة رقم 2649 من العام 1970 على "شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها" يُنظر: الأمم المتحدة، الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرار رقم 2649 (الدورة 25‏)، بتاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، إدانة إنكار حق تقرير المصير خصوصًا لشعوب جنوب أفريقيا وفلسطين (نيويورك: 1970)، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/40GLTDS

ونص قرار الجمعية العامة رقم 3236 من العام 1974، على أن الأمم المتحدة "تعترف كذلك بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقًا لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه"، يُنظر: الأمم المتحدة، الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرار رقم 3236 (الدورة 29‏) بتاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، قضية فلسطين (نيويورك: 1974)، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/3Qul6pw

بتاريخ 4 كانون الأول/ ديسمبر 1986، أكدت الجمعية العامة على شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية، وربطتها بناميبيا وجنوب أفريقيا، ونص القرار "على شرعية كفاح الشعوب من أجل استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها الوطنية، والتحرر من السيطرة الاستعمارية والفصل العنصري والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح".

ويستفاد من اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بحماية أسرى الحرب، أن حمل السلاح لمقاومة المحتل هو أمر شرعي؛ إذ منحت اتفاقية جنيف مكانة "أسرى الحرب" لأعضاء حركات المقاومة "التي تعمل داخل أرضها أو خارجها وحتى لو كانت هذه الأرض واقعة تحت الاحتلال"، وذلك بشروط، وجود تنظيم: رئيس، زي رسمي، أو علامة مميزة ظاهرة، والالتزام بالقوانين والأعراف الدولية. يُنظر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية (لاهاي: 18/10/1907)، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/3MAhP76؛ الأمم المتحدة، حقوق الإنسان، مكتب المفوض السامي، اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب (1949)، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/3udHs7l؛ ضحى وضاح الشافعي، "شرعية المقاومة المسلحة الفلسطينية وقانونيتها الدولية"، مركز سيتا، 15/9/2018، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/3QVIr51

[5] حق تقرير المصير مبدأ أساسي في ميثاق الأمم المتحدة، وفي قرار الجمعية العامة رقم 1514 بعنوان "إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة"، لعام 1960، ورد أنه "لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعي بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي". يُنظر: الأمم المتحدة، الجمعية العامة للأمم المتحدة، إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 (د-15) المؤرخ في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1960 (نيويورك: 1960)، شوهد في 12/11/2023، في: https://bit.ly/3QUi7YJ

[6] ومن هذه الأمثلة ما يُعَد وصف الكيل بمكيالين تقليلا من فظاعته، فقد استنكر الرئيس السوري بشار الأسد ما تقوم به إسرائيل في غزة في خطابه خلال القمة العربية والإسلامية (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) مع أنه في الحقيقة سبق إسرائيل في قصف المستشفيات في بلاده نفسها.